أكذوبة الإصلاح السعودي انتهت
السعودية: نقد بدون محاسبة لا يكفي
د. مضاوي الرشيد
ألقى العاهل السعودي الملك عبد الله خطابا افتتح فيه
الدورة الرابعة لمجلس الشورى السعودي، ركّز فيه على أهمية
النقد البنّاء، واعتبر هذا النقد مسؤولية تقع على عاتق
المواطن أياً كان موقعه ومركزه ومنصبه. وأقرّ أنه هو بالذات
يمارس هذا النقد البنّاء الهادف الى تحسين الاوضاع السياسية
ومراجعة الاستراتيجيات والقرارات.
شيء جميل أن يمارس الملك هذا النوع من النقد الذاتي،
ولكن لم يعط جلالته أي إشارة أو تنبيه الى مواطن هذا النقد
وإمكانيته، هل هو يا ترى يحدث في مجال السياسة الاقتصادية
أو التعليمية أو الدفاعية أو الخارجية؟ وشدد جلالته على
مفهوم العدل واهميته في صياغة علاقة حميمة بين الحاكم
والمحكوم، المسؤول عن ترتيب البيت وسياسته. طعّم الملك
خطابه بتجديد مفهوم النقد ومجالاته وربطه بالمفاهيم والثوابت
والتقاليد، إذ أن النقد البناء ـ حسب هذا الخطاب ـ يجب
أن ينطلق من هذه الثوابت ولا يتجاوزها حتى يكون ايجابيا
وهادفا.
نسي جلالته ان النقد قد يتحول الى ثرثرة، أو محاولة
للفضفضة وافراغ الذات من حالة احتقان قد تضر بها، فالنقد
بحد ذاته ليس سيئا، لكنه قد يصبح حالة مستشرية يلجأ اليها
المحتقن دون ان تعطي فائدة أو نتيجة ملموسة، الا اذا اقترنت
وارتبطت ارتباطا عضويا بمؤسسة تستطيع ان تفّعل النقد وتحوّله
الى محاسبة نزيهة، وهذا ما تفتقده السعودية. لا احد ينكر
ان المجتمع السعودي يمارس عملية النقد هذه، لانه مجتمع
حي يتعايش مع التداعيات السياسية الداخلية والخارجية.
ولكن هذا النقد يواجه معضلتين أساسيتين في الوقت الحالي.
أولاهما معضلة مجلس الشورى الذي خاطبه الملك وافتتح دورته
الرابعة. حيث يظل هذا المجلس معطلا لانه مجلس معين من
قبل الملك وليس منتخبا. فأعضاؤه يمثلون السلطة وليس الشعب،
وطالما بقي هذا المجلس هكذا، فسيظل انتقاده لقرارات هذا
الوزير أو ذاك ثرثرة من النوع الخفيف، والتي لا تعزل وزيرا
أو تحاسب مسؤولا. وان تحول هذا المجلس الى مؤسسة منتخبة،
يظل قاصرا ان حددت السلطة صلاحياته، تماما كما يحصل في
برلمانات الدول المجاورة.
ثانيتهما، إن عملية النقد البناء تحتاج الى حرية يضمنها
القضاء، فلا يسجن من ينطق بكلمة أو يكتب عريضة أو يوقع
بيانا. وكل هذا مفقود في السعودية حتى هذه اللحظة. فمن
سجن من يعترض على اعتقالات تعسفية، ومن يكتب مدوّنة فيها
اشارات ـ ولو من النوع الخفيف ـ الى تقصير مسؤول أو تجاوزات
حاكم، يجد نفسه في سجن كبير لا يعرف متي يخرج منه. بدون
المؤسسة، وبدون الحرية المضمونة من القضاء، لن يتحول النقد
الى استراتيجية هادفة تؤدي الى مراجعة السياسات التي تؤثر
على حياة المواطن. بل يصبح النقد في هذه الحالة مجازفة
قد تفقد الناقد وظيفته أو حريته أو مصدر رزقه، تماما كما
هي الحال التي يعاني منها كثيرون من الذين تجرأوا وانتقدوا
في السابق ليجدوا أنفسهم متهمين إما بالخيانة للوطن والملك،
أو محرضين على الفتنة وخراب الديار، أو متجاوزين الحدود
التي رسمها الملك في خطابه. هذه الحدود المبهمة تستحضر
التقاليد والدين كستارة ترفع في وجهه الناقد، وتستعمل
ضده ان هو باح ببعض النقد الخفيف.
اليوم تعطي السلطة السياسية المواطن حق النقد، ولكنه
يبقي حقاً ناقصاً مبتوراً، لإنه يحدد مسبقا التابو المتمثل
بالملك ذاته وبالاسرة الحاكمة ورموزها الكبيرة، حيث تبقى
هذه الرموز فوق النقد العلني. وبما أنها تتربع على الوزارات
الثقيلة، والتي من أهمها وزارة الداخلية والدفاع والخارجية،
تظل بعيدة عن النقد، وتظل سياساتها محصّنة خلف التابو
الممنوع والمحرم. فقد أعطيت الصلاحية للمجتمع وللمجلس
ان ينتقد كل ما عدا ذلك الحيّز المقدس، الذي يؤثر على
حياة المواطن وأمنه وعلاقته مع العالم الخارجي. قد يسقط
وزير تجارة ويستبدل، ويقال وزير صحة أو كهرباء، ولكن الرمز
الكبير يبقي محصّناً وممتنعاً عن النقد أو المحاسبة كما
هو الملك تماما.
كم تمنينا لو ان الملك ذاته اعلن عن تلك السياسات التي
اتخذها هو ذاته ومن ثم انتقدها وراجع تداعياتها. وهنا
لا بد لنا ان نغوص في الذات الملكية حتى نستشرف أماكن
النقد التي تطرق لها. ورغم ان الملك عبد الله لم ينه سنته
الثالثة في الحكم، الا انه كان يدير دفته منذ منتصف التسعينات
بعد تدهور الحالة الصحية للملك فهد. لقد وعد الملك رعيته
سابقا بمحاربة الفقر، وتقليص صلاحيات الأسرة الحاكمة،
كما وعدهم باصلاحات طويلة تطال مجالات مختلفة. تبنى الملك
مقولة الاصلاح وحشد لها طيفا كبيراً من النخب، وأسس لها
مؤسسة تدعى الحوار الوطني والتي اجتمعت اطيافها وتحاورت،
ومن ثم انتهي الحوار الذي لم يؤد الى نتيجة ملموسة أو
تغيير جذري في آلية الحكم والتعامل مع الاطياف المتنوعة
في المجتمع السعودي.
صمت الحوار الوطني، كما صمتت الأصوات الإجتماعية المطالبة
بالاصلاح، لأن بعضها سجن أو فقد الأمل في التغيير المطلوب.
عندما تبنى الملك مصطلح (الاصلاح) كان بذلك يناجي المجتمع،
ويطلب مساندته لتثبيت دعائم حكم الأسرة في مرحلة حرجة،
عندما واجهت هذه الاسرة خطر (الفئة الضالة) التي وصفها
الملك في خطابه الموجه الى مجلس الشورى. لوّح الملك عند
توليه العرش بجزرة الاصلاح، فتدلّت تلك الجزرة من أفواه
كثيرة، لتواجه عصا العنف الذي ترافق مع تتويج الملك على
العرش السعودي.
وبعد أن فتح النظام باب النقد، عرف الجميع ان النقد
له هدف واحد وهو مواجهة (الفئة الضالة)، وليس الفوز باصلاحات
جذرية. فانخرطت أطياف كثيرة في مراجعة الذات وانتقاد التطرف
والمروجين له، ولكنها لم تجرؤ على ان تربط بين ظهور (الفئة
الضالة) وبين سياسة الدولة. وبقيت هذه الاخيرة التابو
المحرم الممتنع عن المساءلة أو المحاسبة، واختار الجميع
ان يرى هذه (الفئة الضالة) وكأنها هبطت على البلاد كصحن
طائر جاء من الفضاء الخارجي.
كذبة الاصلاح التي روج لها الكثير، انكشفت وبصورة سريعة
عندما تمكنت الدولة من القضاء على (الفئة الضالة) وحشرها
في السجون أو الاصلاحيات التي تتعاطي مع فيروس قاتل. فاستعانت
الدولة بأطباء الارهاب من عالم دين الى مختص نفسي أو اجتماعي.
تطبيب (الفئة الضالة) نجح حتى هذه اللحظة بتعافي 700 شخص
ـ حسب تقارير الوزارة المكلفة بعملية العلاج ـ واخرج هؤلاء
من الاصلاحيات ليختلطوا بالعالم الخارجي بعد التيقن ان
عدوى الفيروس لن تنتقل الى من يختلطون بهم.
عندما تبنى الملك مفهوم الاصلاح واستدعى النخب لتنخرط
في الترويج له، ولكن بعد أن اغلق الباب على بعض هذه النخب،
أيقن الجميع ان ثرثرة الاصلاح كانت استراتيجية مدروسة
هدفها تجييش المجتمع في حرب السلطة مع (فئتها الضالة)،
وليس حشد النخب في عملية شحن ذهنية تقود المجتمع السعودي
لتدعيم دولة مؤسسات، ومشاركة سياسية، فعالة ولو على طريقة
دول الجوار الخليجية. انتهت أكذوبة الاصلاح مع القضاء
على فيروس (الفئة الضالة)، ولم يبق الا مساجين الرأي،
والذين حتى هذه اللحظة لم تتم محاكمتهم والبت بقضاياهم،
وانضم اليهم آخرون من المدونين والناشطين. آخرهم عبد الله
الحامد الذي دخل الى السجن ربما للمرة السادسة بتهمة تحريض
نساء المسجونين على التظاهر.
تبين هذه الاحداث زيف الخطاب السلطوي المتسلط الذي
يدخل إصلاحيا مسالما الى السجن، بينما يفرج عن الناجي
من فيروس الفئة الضالة. ربما ان النظام السعودي يخيفه
اعتصام سلمي لنساء يبحثن عن العدالة بحق ازواجهن، ولا
يخيفه الفيروس القاتل المرتبط بالفئة الضالة، ان استعملنا
مصطلحات الملك في خطابه الى مجلس الشورى.
عن: القدس العربي، 18/3/2008
|