السياسة الخارجية السعودية والأزمة اللبنانية
د. سعيد الشهابي
ربما ليس هناك سياسة خارجية يلفها الغموض، وتتعدد وجوه
تفسيرها كتلك التي تمارسها الدولة السعودية. ويصعب الجزم
بأي من تلك الوجوه، واعتباره تفسيرا كافيا لدبلوماسية
الرياض على اربعة أصعدة: الخليج، الدول العربية، الدول
الاسلامية والعالم. فلكل من مواقفها وسياساتها تفسيرات
عديدة، اما لانها مطاطة، او انها تبدو متناقضة مع الافتراضات
الاولية التي لدى المراقب، او لانها متلونة بألوان البيئة
السياسية القائمة. ويمكن طرح عدد من القضايا المهمة التي
تبدو السياسة السعودية ازاءها لغزا غامضا. فالمواقف السعودية
مما يجري في لبنان في الاعوام الاخيرة ما يزال يكتنفه
الغموض، وكذلك سياساتها ازاء العراق، وايران، وفلسطين.
ويصعب الجزم باتجاه تلك السياسة بشكل قاطع. ومن هنا تتداخل
التفسيرات والتأويلات، وتتعدد النظرات لتزيد الغموض غموضا،
ولتجعل تصرفات الرياض أغرب من الخيال أحيانا.
على الصعيد الخليجي، لا يبدو ان السياسة السعودية واضحة
تماما، أو مقبولة، لدى زعماء الدول الاعضاء بمجلس التعاون
لدول الخليج العربية، برغم ما يبدو من وئام خارجي. فقد
كانت تأمل ان يكون المجلس ذراعها السياسي الضاربة في المنطقة
ومع العالم، ولكن تجربة ربع قرن من العمل المشترك تؤكد
ان العلاقات اليوم بين الرياض وجاراتها الخليجيات ليست
في أفضل حال. فهي متوترة إلى حد ما مع دولة الامارات العربية
بسبب الخلاف الحدودي خصوصا ازاء حقل الشيبة على الحدود
المشتركة بين السعودية وعمان والامارات. كما ان السعودية
غير مرتاحة لبناء جسر يربط بين الامارات وقطر ويمر في
ما تعتبره السعودية مياهها الاقليمية. وازدادت حدة التوتر
بعد قرار الامارات توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات
المتحدة قبل عامين. وثمة ازمة غير معلنة في العلاقات بين
السعودية والكويت بسبب رفض السعودية ترسيم الجرف القاري،
بالاضافة إلى سيطرتها على جزيرة قاروه التابعة للكويت،
منذ ازمة الاجتياح العراقي للكويت في 1990. وثمة أزمة
صامتة مع قطر، بسبب النزعة القطرية للاستقلال في القرار
السياسي الخارجي عن السعودية.
وجاء دور الدوحة مؤخرا في التوسط بين الفرقاء اللبنانيين
واستضافة المفاوضات الشائكة بينهم، لتزيد من الامتعاض
السعودي غير المعلن. وليس مستبعدا ان يؤدي ذلك إلى تصاعد
حدة الخلافات بين البلدين الجارين، خصوصا ان السعودية
تشعر انها هي الخاسر الاكبر من الاتفاق بسبب موقفها المعلن
مع طرف لبناني ضد آخر. فما أفق الدور السعودي في مجلس
التعاون الخليجي الذي تأسس في 1981 واعتبرته السعودية
أداة لدعم سياساتها الاقليمية وتقوية مواقفها الدولية؟
فهل هي مع القرار الخليجي المشترك على قدم المساواة مع
الآخرين؟ ام تصر على دور قيادي يحجم الادوار الاخرى ويجعلها
تابعة لسياسات الرياض؟ هل هي مع منظور خليجي شامل للعلاقات
الاقليمية مع ايران والعراق، وسياسات موحدة حول نمط التطوير
السياسي الداخلي، ام ستظل معارضة للانفتاح وتطوير نظام
الحكم بما يتناسب مع روح العصر؟ هل الرياض مع استراتيجية
عسكرية موحدة، ام مع الابقاء على ما بقي من قوات درع الجزيرة
التي تتخذ من حفر الباطن مقرا لها؟ هل تبقي محايدة ازاء
اساليب الاستخلاف في دول الخليج الاخري، ام تسعي للتدخل
السافر كما فعلت مع قطر، وكما حاولت مع الكويت قبل عامين؟
علي الصعيد العربي، لا تقل السياسة السعودية غموضا،
واثارة للجدل. ففي العراق، كان الموقف السعودي من اكثر
المواقف غموضا. فهي ضد التغيير السياسي، ولكنها لم تجرؤ
على مواجهة الاحتلال الامريكي، وبدلا من مواجهته، سعت
لاستغلال الوضع بدفع العناصر المهيأة للقتال لمغادرة اراضيها
والتوجه إلى العراق، وبدلا من توحيد الموقف ضد الاحتلال،
تحول بعض قطاعات المقاومة بقدرة قادر إلى حركة ذات بعد
مذهبي، وأدخلت العراق في دوامة من العنف، الأمر الذي نجم
عنه تطوران خطيران: وضع العراق على حافة حرب طائفية مذهبية
كانت ستأتي على الأخضر واليابس، وثانيهما، إعادة صياغة
مواقف العناصر المقاومة بشكل اضعف مشروع المقاومة ضد الاحتلال،
وتحول إلى حالة اقتتال داخلي بين مكونات الشعب العراقي:
فكانت حربا سنية ـ شيعية، ثم تحولت إلى مواجهات سنية ـ
سنية، وشيعية ـ شيعية. وبقيت قوات الاحتلال تتفرج على
الوضع عن كثب، غير خائفة او وجلة من تصاعد العنف الذي
اصبح أقل استهدافا لقوات الاحتلال وأكثر تركيزا على تصفية
الحسابات على أسس عرقية ومذهبية وطائفية.
ان التصدي لكافة اشكال الوجود الاجنبي على الاراضي
العربية والاسلامية أمر ليس مشروعا فحسب، بل مطلوبا كخيار
وطني وقومي واسلامي. ولطالما صدرت فتاوى من علماء السعودية
تبيح استقدام القوات الاجنبية لمحاربة العراق خلال أزمة
الكويت. تلك الفتاوى أسست لحضور عسكري مكثف من قبل القوات
الاجنبية في المنطقة لم يعهد من قبل، وساهمت في توسيع
هيمنة الولايات المتحدة على وجه الخصوص على المنطقة وشؤونها.
وليس الوجود العسكري الاجنبي في العراق اليوم الا امتدادا
لذلك الوجود الذي حظي بمباركة شرعية من قبل علماء السعودية
لتبرير الحرب المدمرة قبل سبعة عشر عاما.
وينسجم الموقف السعودي في فلسطين مع السياسات العامة
للدولة السعودية. فقد وقفت حكومة الرياض مع زعامة محمود
عباس ضد حكومة حماس المنتخبة، وشجبت اجراءات حماس العام
الماضي، وطرحت في قمة بيروت في العام 2002 ما أسمته المبادرة
العربية، لشرعنة الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. صحيح انها
رعت اتفاق مكة بين الطرفين (حماس والسلطة الفلسطينية)
في الثامن من شباط/ فبراير 2007 ولكنها تسعي باستمرار
لتهيئة الظروف لموقف خليجي يتصالح مع اسرائيل رسميا. وقد
عقد مسؤولون سعوديون، على رأسهم السفير السعودي السابق
في واشنطن، بندر بن سلطان، لقاءات مع مسؤولين اسرائيليين
ويهود مرات عديدة، واصبح هناك منحى سعودي لتخفيف بؤر التوتر
مع الكيان الاسرائيلي لتسهيل مهمة التطبيع مع ذلك الكيان
لاحقاً.
السعودية هي التي سعت لتدويل قضية لبنان، بعد أن دعمت
الموقفين الامريكي والاسرائيلي ضد الوجود السوري. وفي
حرب تموز/ يوليو 2006، وقفت مع مصر والأردن ضد المقاومة
الاسلامية اللبنانية، وسعت لاحداث شرخ في الموقفين اللبناني
والعربي، وحملت المملكة العربية السعودية المقاومة على
لسان بعض المسؤولين فيها، بأنها تورط لبنان في أسمته مغامرة
غير محسوبة، بينما انتقدت مصر ما أسمته عدم التنسيق بين
المقاومة والحكومة اللبنانية، في ما يبدو أنه محاولة لتعرية
المقاومة داخلياً وكشفها عربياً، وإعطاء ضوء أخضر ضمني
لبدء الحملة الإسرائيلية على لبنان، أو على الأقل تأمين
تغطية سياسية كافية لضرب المقاومة وشن العدوان على لبنان.
وفي مؤتمره الصحافي بالرياض في 12 أيار/ مايو هاجم
الامير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، ايران، واعتبرها
مصدر تهديد لامن لبنان، وانذرها من ردة فعل عربية ضدها.
وكان واضحا ان موقف كل من السعودية ومصر على وجه الخصوص،
مع الدعوة لنزع سلاح المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي،
وداعما لحكومة السنيورة ومجموعة 14 آذار. هذا الموقف اعاد
للاذهان موقف البلدين ابان حرب تموز، عندما وجها سهامهما
لـ حزب الله في الحرب التي شنتها قوات الاحتلال الاسرائيلية
ضد لبنان. ولم يعد سرا القول بان السعودية تلجأ لاثارة
البعد الطائفي حالما تدرك ان مصالحها ونفوذها في خطر.
فاثارة هذا البعد من شأنه تجاوز الحقائق واحداث حالة استقطاب
ليس على اسس عقلانية ومبدئية، بل على خطوط التماس المذهبي
المقيت. فان من أسهل الامور اثارة النعرات المذهبية والدينية
ايضا، وهي اكثر خطرا من الخلافات السياسية التي لا تلامس
قلب الانسان وضميره.
السعودية تراهن على حالة التداعي التي تعيشها الأمّة،
وانتشار حالة الجهل والتخلف لاستقطاب الحلفاء والمؤيدين،
مستغلة الخطاب الديني تارة، والفتوي أخري، والمال النفطي
الهائل ثالثة. وكما انها فشلت في الحصول على دعم من الشعوب
العربية والاسلامية عندما استدعت القوات الاجنبية خلال
ازمة الكويت في 1990 ـ 91 فقد خسرت الموقف ايضا في حرب
تموز/ يوليو 2006، وفشلت هذه المرة كذلك فشلا ذريعا.
وازداد انزعاج الساسة السعوديين عندما نجحت دولة قطر
في احتضان لقاء المصالحة الذي تمخض عن اتفاق كان يبدو
مستحيلاً بسبب المواقف السعودية المتناغمة مع السياسات
الامريكية والاسرائيلية، التي تطالب بنزع سلاح المقاومة.
الرياض لا تستطيع القبول بمبدأ الندية خصوصا من دول الخليج
الأخرى الأصغر حجما وسكانا وأموالا، وبالتالي لم يعد خافيا
ان قطر نجحت في ما أخفقت فيه السعودية، وان سعي الرياض
لاظهار القضية اللبنانية في اطار مذهبي وطائفي باء بالفشل.
وها هو مفتيها، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ،
رئيس هيئة كبار العلماء رئيس اللجنة الدائمة للإفتاء يشن
في 12 ايار/ مايو الحملة على حزب الله وحلفائه قائلا:
(هؤلاء جاءوا ليهيئوا المكان لليهود وللدول الكبري ويهيئوا
لهم الجو ويسهلوا عليهم الدخول ويعينوهم على السيطرة على
بلاد الإسلام) متناسيا ان الذين أصدروا الفتاوي في 1991
لشرعنة استقدام القوى الاجنبية هم الذين جاؤوا بها ووفروا
الغطاء الشرعي للاستنجاد بها ضد مجموعات اخرى من المسلمين.
اولئك العلماء هم انفسهم الذين اصدروا الفتاوى التي تبيح
دماء المسلمين الآخرين الذين يخالفهونهم في المذهب الفكري،
وأسسوا لثقافة التكفير التي نجم عنها حمامات دم في العراق،
وأضعفت المقاومة للاحتلال.
وكما تمت الاشارة، فطالما سعت السعودية لعدم الافصاح
عن مواقفها بصراحة، الا في الحالات التي تعتبرها مصيرية
لاستراتيجياتها. دبلوماسية الرياض قادرة ايضا على ارتداء
كافة الألبسة. فعندما كان عبد الناصر يقود العروبة الثورية
كانت السعودية تتزعم الاسلام المحافظ الذي لا يحمل مشروعا
جادا للانسانية او للشعوب المسلمة نفسها. وعندما تصدرت
ايران مشروع الاسلام الثوري في نهاية السبعينات، تصدرت
السعودية العروبة المحافظة المرتبطة سياسيا بالولايات
المتحدة، والرافضة مقولات الاصلاح والتحرر والاستقلال.
انها مع الوحدة الخليجية طالما حققت لها موقع القيادة
والهيمنة، ولكنها مستعدة للدخول مع اي من دول الخليج في
نزاعات مفتوحة الأمد من اجل مساحات حدودية صغيرة. وهي
مع الوحدة الاسلامية كشعار، ولكنها مع طرح النزعة المذهبية
عندما تقتضي الحاجة. انها مع الاسلام ولكن من خلال النظرة
الوهابية التكفيرية التي لا تؤمن بالآخر، ولا تسمح بالتعددية
الفكرية او الفقهية. انها مع الصفقات العسكرية العملاقة،
ولكنها ايضا مع دعوة القوات الاجنبية للمنطقة، والاعتماد
المطلق على دعمهم العسكري والامني والسياسي. فتلك الصفقات
انما هي جزء من التبادل السياسي والدعم المعنوي المتبادل
بين السعودية والدول الغربية، ولم تستطع قط ان توفر للسعوديين،
حكومة وشعبا، شعورا بالامن والاستقرار. فالمدخولات النفطية
الهائلة في الوقت الحاضر تدر على المملكة اكثر من مليار
دولار يوميا، ولكن النظام لا يستطيع شراء أمنه وراحة رموزه
بتلك الاموال. انه يشعر انه مستهدف كنظام وايديولوجية
سياسية، من قبل حملة المشاريع السياسية التغييرية، خصوصا
المحسوبين على الاسلام السياسي الذي لم يحظ يوما بقبول
المملكة.
بامكان السعودية ان تصبح قوة من اجل الخير والتنمية
والامن والتعاون والتطور، ولكن ذلك يحتاج إلى نفسيات كبيرة
واستيعاب حقيقي للوقائع، بعيدا عن التنميط او المبالغة
او التعميم. السعودية بحاجة لقيادات شابة غير محصورة برموز
العائلة الحاكمة، بل مستمدة من بين ابناء الشعب الذين
تعلم اكثرهم في افضل الجامعات الغربية. ان السعودية اليوم
تعيش عقدة الصراع بين القديم والحديث، الانغلاق والانفتاح،
التخلف او التطور. وتعيش صراعا آخر بين هويتها الاسلامية
وانتمائها السياسي المرتبط بشكل وثيق بالمشاريع الامريكية
في المنطقة. مطلوب من المملكة العربية السعودية اعادة
النظر في ما تعتبره من ثوابت، لاستيعاب دروس أزمتي لبنان
اللتين فشلت سياساتها ازاءهما بشكل مهين، وما ينطبق من
تلك الدروس على الواقع السعودي المرير. وباختصار فان قادتها
بحاجة لتقييم الاداء الذاتي وحساب الربح والخسارة، خصوصا
بعد خسارة الموقف في ثلاث محطات مهمة: العراق وحرب تموز/
يوليو والأزمة السياسية الاخيرة في لبنان.
القدس العربي، 29/5/08
|