قلق التمثيل والهويّة الوطنية
إيمان القويفلي
معقول أن يهتمّ الدبلوماسي والسياسي بمسألة (التمثيل)؛
التمثيل بمعنى اختزال كيان كبير في فردٍ معيّن أو منظمة
معيّنة، تمثيل السفير للدولة، تمثيل العضو المنتخب للشعب،
الذي يعني تفويضاً رسمياً للكلام باسم الكيان الأكبر.
معقول أن يهتمّ الدبلوماسي، وأن تهتم شريحة شعبية بشخص
المُنتخب الذي اقترعت له ليمثلها. لكن ما معنى أن يتحدث
شخص عاديّ عمّن يمثله ومن لا يمثله ويؤكد أن هذا (لا يمثلنا)
وهو يشير إلى أشخاص عاديين مثله لا يتمتعون بصفة دبلوماسية
لا سياسية؟!
قلق التمثيل يأخذ شكلاً مغلفاً بغلاف رقيق من الوطنية،
والوطنية تحتاج كما هي العادة إلى (جبهة) تحارب عليها.
وهكذا يبرز قلق التمثيل على الجبهات العصرية المفتوحة
على العالم وأمامه: الأقنية الفضائية، المواقع الإخبارية،
ومخزن (يوتيوب) العامر، وأيّ وسيطٍ يوفّر شروطاً شبيهة:
عرض الذات الكبرى مختزلة في شخص أو مشهد أمام الآخرين
مع إمكانية الاتصال بهؤلاء الآخرين، وربما سماع رأيهم
في هذه الذات، بل وتركيزهم المقصود على هذه الذات: (شاهد
السعودي وهو كذا)، (المتسابق السعودي كذا يخرج من البرنامج
بعد كذا)، (أول شابة سعودية تتخصص في كذا). وضمن التركيبة
التقليدية لردّة الفعل عليها، سيقول أحدهم بالتأكيد (هذا
لا يمثلنا)، وهو يقصد نزع الشرعية عن الشخص موضع الإشكال.
المعنى الضمني لـ(هذا لا يمثلنا) هو تنزيه الذات ـ
الذات الكبرى وليست ذات القائل وحسب ـ عن صورة معيّنة،
مسار أو فعل معيّن. والإشارة إلى ما تستبطنهُ ذات القائل
من تخيّل للهوية النموذجية لا يمثلها الشخص المرفوض: الشاب
الذي يشترك في برنامج لأنه يريد أن يحترف الرقص والغناء
والتمثيل، الشابة السعودية التي تشترك في مسابقات للهواة
أو تقدّم برنامجاً غنائياً.
ما معنى أن تقول عن مواطن بلدك إنه لا يمثلك؟ هل يفترض
بكل مواطن أن يمثلك؟ هل تمثل أنتَ كل المواطنين؟ هل أنتم
جميعاً متفقون على نموذج واحد يمثلكم؟ هل يمكن تمثيل 17
مليون إنسان، بإنسان واحد؟
قلق التمثيل بعيد جداً عن طرح مثل هذه الأسئلة على
ذاته. إنه اندفاعة غير عقلانية ومجانية تقريباً، تُذكّر
بعالمٍ موازٍ من الاندفاعات العريقة المتعالية على المساءلة
رغم تعقيدها الشديد: الحميّة والرجولة والسمعة والشرف.
حتى إن قلق التمثيل يحاكيها ويستمدّ منها بعض مركّبه،
فيقلق المواطن الرجل لأن مواطِنَهُ الرجل (الناعم) الذي
ظهر على التلفزيون لا يمثله (لا يمثل نموذجه للرجولة)،
ولأن مواطنته البنت التي ترقص في البرنامج لا تمثل بنات
البلد الطاهرات (يفكر في شقيقته)، ولأنه (ماذا ستقول عنا
العرب؟)، ولأننا بالطبع (أشرف وأكرم..).
لأنّ قلق التمثيل اندفاعة غير عقلانية فإنها تكشف الكثير
عن ذاتها. بالإضافة إلى أنها تُضمر التصورات التقليدية
حول معنى الرجولة وماهية الأخلاق والشرف، يكشف قلق التمثيل
عن تصورات أخرى لعناصر مستحدثة نسبياً في هذه الثقافة،
مثل التصورات حول الجنسية الوطنية (nationality)، والهويّة،
والآخر.
قلق التمثيل يُعبّر بشكلٍ رئيسي عن نظرة حالمة إلى
الذات، ودائماً المقصود في هذا السياق هو الذات الكبرى.
نظرة حالمة معظّمة ومُنزّهة للذات، لا عن الجرائم والانحرافات
فقط، لكن أيضاً عمّا لا يُعدّ جريمة ويدخل في نطاق الخيارات
الشخصية. الصورة الحالمة للذات تتحدد بعناصر ثابتة، محافظة
بطريقة محددة، متدينة بطريقة محددة، متحفّظة. وعندما توضع
بإزاء نموذج لا يحمل نفس المواصفات المعيارية فإنها ترفض
الاعتراف به أو الاعتراف بكونهِ جزءاً من الذات رغم أنه
منتمٍ إلى ذات الجنسية الوطنية. هذا الرفض هو رفض للاعتراف
بتشظي الذات وتعددها.
التعدد والتنوّع يمكنه أن يُنتج هوية وطنية مميزة،
لكن قلق التمثيل يفهم الهوية الوطنية بطريقة افتراضية،
مُتخيّلاً هوية شديدة التجانس والانسجام تحمل مواصفاتٍ
نموذجية لشريحة محددة (طبقة متوسطة متدينة محافظة، على
سبيل المثال)، بينما الهويّة الواقعية تتشكل بواسطة الخيارات
الفعلية لعموم الناس والتي تتغير باطراد، وقد لا تعبّر
في كل جوانبها عن توجّه وحيد أو خياراتٍ متجانسة.
الهوية الواقعية يمكنها أن تحمل في وقتٍ واحد استجابة
لمتطلبات الواقع (مثلما في تقبّل فكرة سفر البنت الموظفة
إلى مقرّ عملها يومياً أو أسبوعاً)، وتمسكاً نقيضاً له
بخيار محافظ. قلق التمثيل هو عجز عن النظر بملء العين
إلى هذا التعدد وهذا الافتقار الطبيعي إلى الانسجام. يتعذّر
على القَلِق العاجز إلغاء وجود الآخرين من الحياة أو التحكم
بخياراتهم، فينفّذ عبر تصريحه بـ(هذا لا يمثلنا) إلغاء
رمزياً وطرداً خارج الهويّة وخارج الجنسية الوطنية. لا
يستطيع أن يعي أن وجود الـ(هذا) بلحمهِ ودمهِ وجوازه الأخضر
يعني أنه جزء فعليّ من الذات ومساهمٌ في تشكيل الهوية
وإن لم يكن ممثلها النموذجي.
نزع الجنسية الوطنية عن فردٍ معيّن يوحي بعجز عن فهم
الجنسية الوطنية كحق لا يمكن لأحد سوى الدولة انتزاعه
وبشروط، ويعبّر عن فهم للجنسية الوطنية كمكافأة للسلوك
والالتزام بالجماعة، وأن للجماعة صلاحية نزع هذه الجنسية
الوطنية عندما لا يلتزم فرد بخياراتها، مثلما تطرد القبيلة
أحد أفرادها أو تعلن عائلة براءتها من أحد الأبناء المارقين.
يُذكي قلق التمثيل أن الجبهات الإعلامية والتقنية منفتحة
على جمهورٍ عربيّ يطرب أيّما طرب للاختزال الفضائحي للشعب
الخليجي الشقيق، جمهور قارئ أو مُتلقٍ بمُخيّلة ضيقة تعجز
عن إدراك المسافة بين ما هو فنّ أو صنعة إعلامية؛ وما
هوَ واقع، فضلاً عن التساؤل العميق حول ماهيّة الفن: إخبار
قصة أم تقديم نموذج (نموذجي)؟ هذا الجمهور الذي على سبيل
المثال اعتبر أنه أنهى استكشاف حياة العاصمة بواسطة قراءة
(بنات الرياض). اللافت أن هذا الاعتناء بما يعتقده الآخرون
عنا يظهر كحجّة للسيطرة على المادّة المنشورة، لكنه لا
يظهر كسلوكٍ فعليّ عند مقابلة هذا الآخر في بلاده، أو
الأسوأ: لا يظهر عندما يكون وافداً إلى بلادنا، وتحت رحمتنا.
لا يحمل صبي يرغب في الغناء من الشرعية والجدية لتمثيل
بلاده بقدر ما يحمل وفد رياضي إلى الألعاب الأولمبية،
أو وفد أكاديمي أو طبّي إلى مؤتمر أو مسابقة ما، أو موقع
البلد ضمن المؤشرات العالمية لقياس الشفافية والتنمية
والفساد وجودة التعليم والخدمات الصحية، لكن ومهما كانت
هذه المؤشرات متردّية وتشير بشكلٍ رسمي إلى تردٍ عام،
يظل الصبي الراغب في الغناء هدفاً للكمّ الأكبر من الغضب
والأسف. فالذات تقابل تردّي المؤشرات الرسمية الدقيقة
على أساس أنه مسؤولية الحكومة لا مسؤوليتها ولا يد لها
فيه، رغم أن أيّ تردٍ عام لا بد أن تكون الذات (بما هي
ذاتُ شعبية) متورطة فيه بدرجة أو بأخرى، لهذا تجد حالاتٍ
متقدمة من قلق التمثيل ترفض الاعتراف بمشكلاتٍ عامة تعترف
بها القيادة. إنها فقط تخشى خدش الذات، ذاتها المنزهة.
يمكن رؤية قلق التمثيل كتوأمٍ للانفتاح التقني والفضائي
الذي يضعنا طوال الوقت في مواجهة جمهورٍ خارجيّ غير متسامح.
لكنه في أصلهِ العميق رفض لاستحقاقات التشارك في ذاتٍ
واحدة كبرى، بما تعنيه هذه الاستحقاقات من فهمٍ واقعيّ
لمركّبها وتنوعها وافتقارها للتنميط والانسجام. ذات حافلة
بالمفاجآت يمكنها ـ إذا كنت ممن يشعرون سريعاً بالصدمة
ـ أن تضمن لك صدمة جديدة كل يوم. الاختلاف في ردّة فعلك
بعد الصدمة، أن تقول (لا يمثلنا) أو أن تفكّر في الطريقة
التي بها نشأت هذه الأنماط وصنعت لها مكاناً، في جوارك.
عن الوطن السعودية، 10/7/08
|