مفاهيم مغلوطة للعنصرية في السعودية
د. مضاوي الرشيد
ما أن هدأت العاصفة الاعلامية التي ارتبطت بانتخاب
اول رئيس اسود للبيت الابيض حتى بدأت زوبعة جديدة في السعودية
ارتكزت على حدث تعيين إمام للحرم المكي من اصول افريقية.
فالتقطت وسائل الاعلام العربية والعالمية الخبر كوسيلة
لطرح مفهوم العنصرية في المملكة والذي ارتبط في المفهوم
الغربي بالتمييز ضد البشر على خلفية لون البشرة وهو مفهوم
متأصل في الثقافة الامريكية الحديثة والذي توارثته من
مفاهيم اوروبية قديمة ولكن حصل الخلط بين هذا المفهوم
المرتبط بتاريخ اوروبا وحضارتها عندما تم استيراده للعالم
العربي ومحاولة تطبيقه على مظاهره المختلفة والمتشعبة
في مناطق أخرى.
حاولت مصادر الاعلام السعودي اظهار حدث تعيين امام
اسود للحرم كمظهر من مظاهر إنعدام العنصرية والتمييز حيث
نبدد النمطية وكأننا سبقنا العالم في تجاوز لون البشرة
عندما عينا اماماً اسود. محاولات التبسيط هذه فشلت في
تلميع الصورة وانقلبت على مروجيها عندما تمت استضافة الشخص
المعني على شاشة 'البي بي سي' العربية فتحول لقاء التسامح
ودليل عدم التمييز العنصري الى لوحة قاتمة فتحت ابوابا
لانواع اخرى من الاقصائية والتمييز لا مجال لتعدادها هنا.
ولكن ما يهمنا في الأمر هو تلك المفاهيم المغلوطة عن العنصرية
السعودية والتي أول ما يلفت النظر اليها ان التمييز لا
يحصل نتيجة لون البشرة او لاي رمز آخر. حيث ان سياسة الدولة
الرسمية تقوم على عنصرية تعتمد الولاء لها ولنظامها كمعيار
جوهري في ممارسة عملية التمييز والاضطهاد.
لا تفرق الدولة المركزية بين ابيض واسود او نبيل ووضيع
او صاحب نسب وآخر معدوم النسب. وكل ما تهتم به هو مدى
الولاء وقدرة الفرد على خدمة مشاريعها وتبني سياستها واستماتته
في الدفاع عنها. هذه هي المعايير المتبناة في سياسة الدولة
التوظيفية والادارية والاقتصادية والاعلامية. وتستبدل
السلطة السعودية مفهوم العنصرية المبنية على البشرة بتلك
المبنية على مفهوم الولاء. لذلك كان تاريخها في القرن
العشرين وما زال يحتوي على حالات كثيرة من مجموعات تبنتها
السلطة رغم انها كانت من خارج البلاد ولا تنتمي اليها.
فنواة البيروقراطية السعودية الاولى كانت في مجملها
تعتمد على شخصيات جمعت العربي والبريطاني ورفع شأن الكثير
منهم واعطوا الجنسية السعودية وتم احتضانهم في اعلى مناصب
ومنها مناصب حساسة ومهمة دون اخذ معيار العنصرية او غيره
من المعايير المتبعة حالياً كمحور للتميز في العالم. فاحتضنت
الدولة هؤلاء ومكنتهم مالياً ووظيفياً وعندما تطورت شرائح
محلية مختلفة الألوان والاطياف تم تطعيم مؤسسات الدولة
بها شيئاً فشيئاً متجاوزة بذلك محور اللون أو النسب أو
غيره من المحاور وكانت بذلك تعتمد اولا واخيراً على مدى
ولاء هؤلاء المحليين الجدد للدولة ومشروعها. وان كانت
لها سياسة خاصة فهي كانت تعتمد على رفع بعض المجموعات
الى اعلى مستويات، خاصة تلك التي كانت تعاني من تهميش
اجتماعي في السابق بسبب اصولها النسبية او مناطقها او
فقرها فوجدت في شرائح المجتمع السعودي الكثير من المتطوعين
لخدمتها مقابل بعض الفتات الذي يأتيهم عند التقرب من السلطة
وخدمتها.
لذلك استطاعت ان ترفع بعض الشرائح الاجتماعية الى درجات
عليا في الهرم الاجتماعي مقابل الولاء المطلق لها ولسياستها.
وتجعلهم يمارسون عنصرية جديدة تجاه المجتمع وخاصة أنها
كانت محرومة في السابق من أي تأثير على المجتمع بل كانت
هي نفسها معدومة التأثير والقوة. نتيجة هذه السياسة نمت
شرائح كثيرة تتقلد مناصب عليا في البيروقراطية السعودية
تمارس من خلال مناصبها استعلائية جديدة تستند على قواعد
خلفتها مفاهيم عنصرية الولاء للدولة.
فمن كان في مؤخرة السلم الاجتماعي أصبح اليوم من علية
القوم خاصة اذا كان ولاؤه للنظام ثابتاً لا تهزه ولاءات
اخرى ولا انتماءات جانبية. وهذه الظاهرة ليست بالجديدة
بل هي ترتبط تاريخياً بالانظمة التي تفرض سلطتها على شرائح
قد تتململ من الهيمنة المركزية فتلجأ هذه الانظمة دوماً
الى العناصر الضعيفة اجتماعياً ومادياً في السابق لتستغلها
في تثبيت دعائم سلطتها الجديدة. ويكون هؤلاء اكثر الموالين
للنظام الجديد بسبب تاريخ التهميش الذي تعرضوا له في السابق.
وتصبح السلطة الجديدة ملجأهم الذي يتجهون اليه من أجل
تفعيل دور الرقابة على المجتمع وحمل عصا السلطة لتأديب
المتمردين والمتململين جراء سياستها.
وتعتمد السلطة اعتماداً كلياً على هذه الطبقة الجديدة
التي مكنتها من خلال المناصب والاتاوات وتوزيع بعض فتات
الثروة عليها لتصبح ساعدها الايمن في ضبط تحركات المجتمع
وممارسة سلطوية جديدة عليه، وتضمن السلطة ولاء هذه المجموعة
التي لا تملك رأس المال الاجتماعي بل هي تعتمد اعتماداً
كلياً على ولائها للسلطة المطلقة. وبما ان السلطة السعودية
قد رفعت من شأن هؤلاء وامسكتهم زمام الامور نشأت عنصرية
مضادة من قبل المجتمع الذي يتململ من الوضع الجديد الذي
خلقته الدولة الحديثة. فقامت الشرائح المتمكنة سابقاً
والمهمشة حالياً بتبني خطاب استعلائي على الشرائح الحديثة
التي تولت المناصب العليا من أجل حماية ارثها السابق ورأس
مالها الاجتماعي المندثر. لقد ولدت عنصرية الولاء المتبعة
من قبل السلطة عنصريات اخرى وقوتها خاصة من قبل من كان
يعتبر من علية القوم سابقاً.
انتشرت مفاخرات النسب واستعلائية الارث القديم والتمييز
على اساس الفرق بين الثراء القديم والحديث. لذلك من الصعب
تطبيق المفاهيم الغربية المتعلقة بلون البشرة على الوضع
السعودي دون تفصيل لعلاقة الدولة بشرائح المجتمع وسياستها
تجاه المجموعات القديمة والحديثة. والمجتمع السعودي كغيره
من المجتمعات العربية كان ولا يزال يفاخر بالعنصرية والاستعلائية
على الهجين والمخضرم حيث تحفل الموسوعات الشعرية وادبيات
الثقافة المحلية بالتفاخر والاستعلاء ولكن من حيث الممارسة
نجد أن هذه المجتمعات قد مارست استيعاب الآخر اكثر من
غيرها من الشعوب الاخرى.
ورغم التباهي بالانساب النقية نجد أن المنطقة العربية
قد عرفت التمازج والانصهار طيلة تاريخها ولم تأت عملية
تحديد الهويات الا من خلال قوانين حديثة كقوانين الجنسية
والتي بمجملها كانت مرتبطة بنشوء الدولة القومية ما بعد
مرحلة الاستعمار وهمها الاول تحديد خارطة تفصل بين من
ينتمي ومن لا ينتمي. وفي دول النفط ومنها السعودية كانت
عملية الفصل هذه مهمة من اجل حصر عدد المنتفعين من الدولة
الريعية وخدماتها الصحية والتربوية والاقتصادية. ولم تفتح
الدولة النفطية باب الانتماء الى المجموعة الا لاولئك
الذين يدينون بالولاء المطلق للسلطة. فاستوعبت السعودية
شرائح كبيرة اتت من خارج حدود الدولة الحديثة ومنحتها
الجنسية كمكافأة على الولاء بينما حرمت آخرين من اهل البلد
هذه الوثيقة بسبب التشكيك في ولائهم للسلطة. وهناك شرائح
اجتماعية كبيرة في المنطقة الشمالية والجنوبية لا تزال
حتى هذه اللحظة بدون وثائق الجنسية تعيش على هامش السلطة
وحدودها وتحرم من الخدمات بسبب انعدام إثباتات انتمائها
للمنطقة.
الحديث عن عنصرية سعودية تعتمد على لون البشرة ربما
يكون له بعض الصدى في المجتمع ولكن يجب هنا الفصل بين
عنصريات المجتمع وعنصرية الدولة. تقوم الاولى على تراكمات
تاريخية وممارسات قديمة اما الثانية اي عنصرية السلطة
فهي افراز حديث ارتبط بمتطلبات الحكم التسلطي التي من
اهمها احكام القبضة على المجتمع معتمداً بذلك على عملية
انتقائية تضمن له ولاء الشرائح المهمشة التي يستغلها في
كسر شوكة الشرائح القديمة المتمكنة. لانها عملياً ستكون
اكثر الشرائح ولاء بسبب ضعفها وتهميشها التاريخي في السابق.
وتعرف السلطة ان ولاء الضعيف سيكون اقوى من ولاء من له
جذور تاريخية قديمة في المجتمع لذلك هي تعتمد عليه وتقويه
ليحارب بسيفها الجديد كل ما يهددها فكرياً او فعلياً.
ان احد خصائص الحكم التسلطي تنبثق من التلاعب بخفايا المجتمع
وسلمه لتفرز شرائح معتمدة اعتمادا كليا على خيرات السلطة
لتمارس هي بدورها عملية تطويع المجتمع نيابة عنها.
ونرى هذا واضحا على كل مستويات بيروقراطية الدولة السعودية
الدينية والتربوية والاقتصادية والاعلامية وهي مستعدة
ان تحتضن الغريب حتى اولئك الذين هم من خارج حدودها طالما
ان ولاءهم مضمون وبعملية تعسفية مفاجأة تستطيع السلطة
ان تنبذ هذا وتأتي بذاك ان كان قد تجاوز دوره وموقعه المسموح
به. ونستطيع ان نعد الكثير من الشخصيات التي احتضنها النظام
السعودي لفترات طويلة ثم نبذها بعد ان لعبت دورها او تجاوزت
حدودها. وهي عملية بسيطة لان مثل هذه الشخصيات والمجموعات
تبقى ارقاما في قاموس السلطة المطلقة وصفحات عابرة ما
اسهل استبدالها بآخرين. اذن لننس طبول الغرب التي تقرع
سيمفونيات العنصرية المبنية على لون البشرة ونتجاوزها
في حديثنا عن انظمة تسلطية تفتك بنسيج المجتمع في سبيل
تثبيت دعائم حكمها وتتجاوز اللون الى ما هو اهم منه اي
الولاء.
عن القدس العربي، 11/5/2009
|