الليبرالية السعودية: من التسول الى التوسل
د. مضاوي الرشيد
|
د. مضاوي الرشيد
|
كغيرها من التيارات السياسية الموجودة على الساحة السعودية
بدأت الليبرالية السعودية حياتها بخطاب التسول وعرائض
تطالب ببعض الاصلاحات، ومنها تأسيس مجلس الشورى واصلاح
القضاء والمساواة الاجتماعية وحرية الصحافة ومشاركة المرأة
في الحياة العامة. وجاءت العريضة الاصلاحية عام 1991 لتتوج
فكرتهم وطموحاتهم ورغم ان عرائض أخرى قدمتها تيارات خالفتهم
في اطروحاتها ومنهجها إلاّ أن الليبرالية السعودية دخلت
حينها مرحلة انتظار زادت عن عقد كامل وجاءت فرصتها الذهبية
بعد عام 2001 حيث اشتد ساعدها بمؤازرة الدولة التي فتحت
لها المجال للبروز الاعلامي ووفرت لها المنابر في الداخل
والخارج واصبحت ذراعاً للسلطة في حروبها الكثيرة التي
تلت مرحلة انفجار العنف على الساحة السعودية.
فمن قنوات فضائية الى مواقع افتراضية مروراً بمناصب عالية في الدولة استطاع هذا التيار أن يتبوأ مكاناً مميزاً في حضن الدولة يستطيع من خلاله ايصال افكاره الى جمهور عريض خاصة وأنه لا يتمتع بالمنابر التقليدية التي احتكرت من قبل الآخرين على الخريطة السياسية السعودية. وانتقل هؤلاء من مرحلة التقية والمواربة في الخطاب السياسي واستحضار مفردات تنفي عنهم هويتهم الحقيقية الى مرحلة علنية يستحضرون فيها فكرهم وتوجهاتهم دون مواربة او تمييع حتى انهم وجدوا في مواقع الانترنت المحمية مكاناً آمناً يستطيعون من خلاله اسقاط مصطلح الليبرالية على انفسهم وفكرهم بعد أن زالت المخاطر السابقة وعملية الاقصاء التي مارسها ضدهم من خالف مشروعهم وتوجهاتهم.
ونعتقد اليوم ان هذا التيار قد خرج من مرحلة التسول السابقة من خلال تفعيل البيانات والعرائض الى مرحلة التوسل للقيادة، عن طريق شن هجمات عنيفة على معارضي الدولة من تيارات سياسية أخرى مروراً بأشخاص ينتقدون النظام في الداخل والخارج ولا يصفقون لمشروعهم الذي تنقصه الليبرالية الحقيقية كما عرفتها الشعوب التي افرزت هذا الفكر ومارسته في حياتها السياسية والاجتماعية.
يتوسل الليبرالي اليوم الى السلطة ويقترب منها إذ أنه يتبنى مشروعها في اللحظة التاريخية الحالية فهو يعادي من عاداها ويهيم بمن تهيم به ويظهر ذلك من خلال الخطاب الاعلامي لاعلام الليبرالية السعودية المنبر المتاح لمثل هذا الخطاب والممول من قبل رموز معروفة في الهرم السياسي.
تؤمن الليبرالية السعودية بفكر المخلص الذي أتى في المرحلة الحالية أو سيأتي في المستقبل لينتشلها من هامشيتها في المجتمع وسيكبح جماح من ينافسها بل سيقضي على مؤسساته ويقلم أظافرها لتحكم سيطرتها على فكر وممارسة النظام. وهي تنتظر ان يقوم المخلص بعملية تمشيط للحقل الاجتماعي والديني اشبه ما تكون بعملية استئصالية تنتزع الورم الخبيث الذي نما وترعرع في حضن السلطة لاسباب تاريخية قديمة. وبينما هي تعيش حالة انتظار صعبة وربما طويلة نجدها تنغمس في عملية جلد دائمة ومستمرة للمجتمع وتياراته التي تقف في طريق مشروعها مستعينة بمصطلحات التصنيف التي تخترعها وتسقطها على اعدائها واعداء النظام حسب لائحة طويلة.
تتمرس هذه الليبرالية في استعمال اللغة والاسماء التي تستحضر العنف الفكري واللغوي دون أن ترفع السلاح كما فعلت تيارات أخرى في معركتها مع النظام لتنزع الشرعية عن تيارات سياسية لم تقبل بمشروعها. فالقومجي والاخونجي والصحونجي مرادفات لها خلفيات أعجمية ودلالات تخرج هذه التيارات من الحيز المحلي العربي وتصبح ملتصقة بما هو خارج عن نطاق المجتمع والبيئة المحلية. هذا العنف اللغوي يجعلها تضرب عصفورين بحجر واحد.
فمن جهة يستحضر المصطلح ماهية الهجين الداخل ومن جهة أخرى يستحضر فزاعة الايديولوجية القاسية المسقطة على واقع متغير بالاضافة الى عدم المرونة الصارمة. فما أسهل أن تسقط الليبرالية السعودية قاموس مصطلحاتها في عملية هدفها الأول والأخير التنصنيف الهادف الى تشريح الساحة السياسية والحجر على معارضيها. وهو نفس الاسلوب الذي تعتمده التيارات المنافسة مع الليبرالية ذاتها.
وتدعي الليبرالية انها ترفض عملية الفرز التي كانت في السابق تمارسها عليها هذه التيارات. وتدخل الليبرالية السعودية في مأزق عندما يصعب عليها فرز بعض الشخصيات التي لا يمكن تأطيرها تحت مصطلحات الليبرالية العنيفة. فتأخذ على البعض أيديولوجيتهم وتبحث جاهدة عن أيديولوجية للبعض الآخر الذي لم تفهم موقفه أو فكره. ويبدو هذا واضحاً وجلياً في موقفها المعادي لكل من يرفض اسلوب التسول والتوسل للسلطة السياسية أو يرفض الانخراط في حروب السلطة الآنية والتي تتغير وفق متطلبات المرحلة التاريخية.
من مآخذ الليبرالية على هذه الشخصيات هي كونها رافضة لمبدأ البوق الذي يقرع طبول الحرب بعد كل ضوء أخضر تشعله القيادة لأسبابها الخاصة واحتياجاتها وتطفئه إذا زالت الأسباب. فهي مستعدة لأن تتراجع عن مصطلحاتها التصنيفية السابقة تجاه معارضيها بمرونة بهلوانية وقفز جريء على المواقف السابقة في سبيل ايجاد منافذ ومخارج للنظام تحفظ ماء الوجه ولا تحرجها في سياسته الداخلية والخارجية. وان كانت السعودية تفتخر بمشروعها المركزي التوحيدي بمساعدة ما يسمى بجند التوحيد سابقاً فهي اليوم قد ساهمت بإنشاء مجندين جدد يتنافسون على الدفاع عنها في دهاليز الاعلام والصحافة يعتقدون انهم سيحسبون على الليبرالية أو هكذا يسمون أنفسهم.
ومن الاجدر أن يستحضروا مفهوم الليبرالية المتسولة والمتوسلة من أجل الدقة اللغوية والعلمية لوصف تيار ناشئ له صفاته المحلية التي فرضتها الحالة السياسية في المملكة. ومن باب التوسل الحاصل منذ أكثر من عقد نجد أن هذا التيار قد حصر معركته في محاور محددة. منها ما هو متعلق بالمجتمع كتركيبته الدينية أو الاجتماعية والمؤسسات التي هي بالدرجة الأولى من انتاج السلطة التي يستميتون في الدفاع عنها حالياً. ويعتبرون كل من لم ينخرط في هذه المعارك المحدودة مستحضراً مصطلحاتهم المعروفة عدواً لدوداً يتربص بالدولة والأمن والسلام. واستطاع هؤلاء أن يوزعوا الأدوار على بعضهم البعض فمنهم من هو متخصص برصد المجال الديني وتتبع تطوره وتجاوزاته ومنهم من نذر نفسه مدافعاً عن حقوق المرأة ومنهم من تخصص في تشريح النسيج القبلي وادانته ومنهم من استمات في الدفاع عن سياسة النظام الخارجية ومنهم من بقي في مرتبة المشاة المنتظرين قضية جديدة يثيرها عندما تتاح الفرصة. وكلهم يتبنى النقد المتسول وينتظر المخلص ليفاجئهم بقرارات ومكارم وتوصيات وأوامر سامية.
وان بحثنا عن شخصية فذة قادرة على صياغة تصور جريء للمستقبل السياسي والاصلاح الحقيقي فلن نجد إلاّ اجتراراً لمواقف قديمة تجاوزتها التحولات التاريخية. يرفضون القبلية ويمارسون الحب المفرط تجاه حكم المشيخة الحالي ويعادون المناطقية وهم مفرطون في إقصائيتهم للآخر وتمجيدهم لفلكلورهم المحلي يعترضون على تصنيفات معارضيهم وهم من يبتكر مصطلحات التصنيف التي لم يسلم منها أحد.
إنهم ينكرون الأيديولوجية على الآخرين ولا ينتبهون لايديولوجية التوسل والتسول المتأصلة في فكرهم وممارستهم. وان لم يجدوا ايديولوجية متحجرة عند معارضيهم تسمح لهم بممارسة تصنيفاتهم الجاهزة وزعوا التهم يميناً وشمالاً واستحضروا التكهن بخبايا هؤلاء وخفايا أجندتهم التي هم في طور اكتشافها. علاقة الليبرالية السعودية مع السلطة جعلتهم يدخلون في علاقة متشنجة مع المجتمع وأطيافه المختلفة والمتباينة ومن الصعب عليهم أن يخرجوا من حالة التشنج طالما أنهم غير مستعدين للنظر والتمحيص في حالة التذبذب التي يفرضها المشروع السياسي للسلطة فلا يمكن أن تتطور هذه الليبرالية طالما أنها تحصر المعركة مع المجتمع وتعتبر سلطة المخلص هي الحل الوحيد لمشاكل البلد العالقة، والتي تنتج أولاً واخيراً عن حالة التخلف المزعومة. عندما تدين الليبرالية السعودية المجتمع وتنزه المسؤولين الكبار فهي تدخل في مأزق فكري ومعضلة تحليل للواقع يكون منطقياً ومقنعاً.
عندما تنفي الترابط بين إفرازات المجتمع والسلطة السياسية هي توهم نفسها بأنها تواجه حالة انفصال حيث يوجد مجتمع يدور حول ذاته ويعاني من ترسبات تاريخية وفكرية دون أن تكون للسلطة مسؤولية في تغذية هذه الترسبات بل حتى التعجيل في تبلورها. ونحن هنا نتحدث عن سلطة مركزية وليس دولة ضعيفة أو فقيرة. وطالما تجاهلت الليبرالية السعودية الدور المحوري الذي لعبته السلطة في إفراز ما تعترض عليه هذه الليبرالية طالما ظلت تعمل بمبدأ التوسل والتسول وتمارس غوغائية فكرية قاصرة على فهم صريح وواضح للمعضلة أو المعضلات التي تواجه السعودية اليوم. عندها فقط تخرج هذه الليبرالية من مرحلة النفاق الفكري الى مرحلة مواجهة الواقع دون انتظار المخلص المرجو.
عن القدس العربي، 18/5/2009
|