|
د. مضاوي الرشيد |
السعودية: صراع أزلي على هوية الكيان
د. مضاوي الرشيد
فقط في بلد كالسعودية يحتدم النقاش حول هوية الكيان
ومسيرته. فيتساءل البعض هل نحتفل باليوم الوطني او لا
نحتفل. وان احتفلنا ما هي دلالات اصوات الرفض والشجب من
جهة واصوات الابتهاج والفرحة من جهة اخرى. ان افتتحنا
جامعة جديدة نجد ان الحدث يقترن بجدل حول فكرتها وتطبيقها
على الارض.
وان طرحنا موضوع المرأة وحقوقها تهيج الانفس وتكفهر
الوجوه وتشحن الاقلام وتتعالى الاصوات بين مؤيد ورافض.
وان تصدرنا المحافل الدولية داعين لمبادرات جديدة كحوار
الاديان ندخل في غوغائية جدل بيزنطي بين مطبل للفكرة وآخر
مدين لها. ان أي مشروع جديد مهما كان يحتاج الى طيف كبير
من المروجين والمسوقين الذين يبيعونه لرعية مهمشة وان
تصدرنا سياسة خارجية معينة تتعالى الاصوات منها من يمجد
ويشكر الرؤية والقائمين عليها وآخر يشكك ويندد. قد يعتقد
البعض اننا أمة حية تعشق الحوار والسجالات الفكرية ولنا
من المؤسسات المستقلة العشرات بل المئات التي توفر لنا
مساحات حرة والفعاليات الضاغطة التي تمكننا من تحديد هوية
الكيان وماهيته. ولكن نجد ان الواقع هو عكس ذلك.
مشكلة السعودية تنبثق من كونها ما زالت تتخبط عندما
تحاول الاجابة على اسئلة بسيطة منها من نحن وماذا نريد.
ورغم بساطة الاسئلة الا ان الجواب لا يزال مستعصيا وبعيد
المنال. ومن هنا نستطيع تفسير كيف ان في دولة حديثة لا
يزال موضوع اليوم الوطني محطة فاصلة يؤيدها البعض ويرفضها
البعض الآخر وموضوع قيادة المرأة للسيارة او عملها كبائعة
في دكاكين المراكز التجارية من المواضيع التي تقسم المجتمع
ناهيك عن مواضيع اكثر حساسية وسخونة.
هل نطبع مع اسرائيل او لا نطبع؟ هل نصافح مسؤوليها
او لا نصافح؟ هل نفتح اجواءنا لطائرات القصف التي تطال
دول الجوار او لا نفتح؟ هل نستعين بالقوى الخارجية ام
نعينها؟ هل نحن المحتاجون لها ام هي المحتاجة لنا؟.. الى
ما هنالك من اسئلة حساسة ومثيرة لا تجد جوابا ناهيك عن
الاسئلة التي تدور حول نفطنا. هل نستخرجه من اعماق الارض
بنهم يعجل بانقراضه ام نقننه حسب ما تقتضيه المصلحة؟ وعن
مصلحة من نتحدث هنا؟ مصلحتنا الوطنية ام العالمية؟ وسوقها
هل نوزع فائضه في الداخل ام في الخارج؟ هل نتبرع لفقراء
العالم ام نحصره في حدود الكيان؟
ينبثق هذا الجدل الازلي من معضلة هوية الدولة والمجتمع
وحتى هذه اللحظة لم تحسم في السعودية مسألة هويتنا وهوية
الكيان الذي يحتوينا لعدة اسباب:
اولها واهمها كون الدولة السعودية دولة مبهمة فلا هي
دولة اسلامية استطاعت ان تطور مفهوم الدولة الحديثة من
منظور اسلامي وتؤصل لمؤسسات تستمد مبادئها من التراث المعروف
ولا هي دولة ديمقراطية حديثة كالدول الاخرى. فهل هي دولة
اسرة او مشيخة او محمية؟ او هل هي شركة عصرية تدير شؤون
مجموعة بشرية وتتصرف بمواردها حسب ما تمليه احتياجات الاعضاء
المشاركين ومصلحتهم الآنية؟ من الصعب تحديد هوية الدولة
رغم الجهود التي بذلت وتبذل حاليا من اجل تحديدها والتأصيل
لها.
اعتقد البعض خاصة عند بداية مرحلة تأسيس الدولة انها
دولة توحيد ترفع راية الجهاد لتطهير الارض والعباد من
شركيات مزعومة. لكن هؤلاء قد صدموا بعد اتمام المشروع
ومساهمتهم فيه فوجدوا انفسهم اداة ووسيلة لفكرة كان اصحابها
قد تخيلوها بشكل مختلف تماما. فظل هذا التيار يتململ ويصدر
الاعتراضات عند كل مرحلة دون ان يعيد المسيرة الى طريقها
الذي رسمه هو. لقد ادى هذا التيار مهمته ومن ثم تم تحييده
تماما رغم مشاركته الفعالة في صياغة ماهية المشروع عند
بدايته. فوجد نفسه اليوم وقد تقلصت اجنحته واختزل في هيئة
دينية يعين افرادها واحدا واحدا وحسب عملية انتقائية مسبقة.
وان تجرأ احدهم على كلمة اعتراض او انتقاد آنية فسيجد
امامه جيشا من المدافعين الذين يذكرونه بموقعه الجديد
وهامشيته الحالية.
لقد اصبح المساهم في التنظير للكيان السعودي سابقا
رمزا للتخلف والتحجر. فهو يوصف يوميا وكأنه من مخلفات
القرون الوسطى التي لا تصح للقرن الجديد. فهوية الدولة
التي ساهم في تأسيسها قد اندثرت وتلاشت وجهوده الجبارة
في تدجين مجتمع الجزيرة العربية طيلة العقود السابقة لم
تفرز الا مواطنا تربى على السمع والطاعة وآخر لا يعرف
من هو خاصة بعد وصول آليات العولمة والانفتاح الى عقر
داره. ونعرف ان بعد سقوط الهويات القديمة وتلاشيها تستحدث
المجتمعات هويات جديدة تتبناها حتى تستطيع الاجابة على
سؤال جوهري وهو من نحن ولكن نجد ان هذه النقلة لم تحصل
في السعودية.
فتساءل البعض هل نحن عرب ام مسلمون ام قبائل ام مناطق.
لقد كفرونا ان تبنينا العرب والعروبة واعتبروا ذلك مؤامرة
صهيونية وحركة تغريبية. وقالوا لنا اننا مسلمون. فاستمتعنا
بهذه الهوية وسافرنا بها الى بقاع العالم نبني جسورا مع
اخوان لنا في اقصى البلاد. وبنينا مؤسسات اسلامية براقة
وتصدرنا تمويلها والاشراف عليها لنكسب الأجر والبريق الاعلامي.
ولكنهم مؤخراً نجدهم يدعوننا الى ما يسمى بالهوية الوطنية
فنرفع البيارق ونتغنى بوطنيتنا في مرافق مختلفة كمباريات
كرة القدم والأيام الوطنية. لقد تأرجحنا في هويتنا بين
الضيق والمحدود والعالمي الفسيح حتى وصلنا اليوم الى مفهوم
مبهم اسمه الوطن والوطنية وكلاهما يختزلان في معادلة بسيطة
وهي الولاء للنظام. وهو ولاء مطلق لا يقبل الجدل او السجال.
وتجري حالياً محاولات تعريف الوطن والتذكير بملامحه الجديدة
التي تتطلب تجنيد أقلام كثيرة علّها تغرس هذه الملامح
في العقل الجمعي.
الوطن الجديد يختلف تماماً عن السابق فهو مسلم ولكنه
عصري يقبل بما كان محظوراً وممنوعاً. وفي هذا الوطن الجديد
مسرح وسينما وجامعة حديثة مختلطة حيث تحتسي الفتيات قهوة
الكابوتشينو الصباحية مع زملائهن في الدراسة.
وفي هذا الوطن الجديد نختزل مشروع الكيان بشخصيات قيادية
ورؤيتها. فهي دائماً على حق ورائدة في مشروع الاصلاح والتقدم
نطالبها دوماً بأن تضرب بيد من حديد اصحاب المشاريع السابقة
التي تنتمي الى العصور الحجرية والمروجين للهويات الفاشلة
القديمة. فنحتفل بالوطن الجديد رغم أنوفهم. ولكن في هذا
الوطن الجديد لا يتحدث احد عن تمثيل سياسي او حقوق مهضومة
او مسيرة متعثرة في بناء المؤسسات السياسية او مساءلة
او محاسبة او توزيع ثروة او هدرها. فهذه تظل محظورات حتى
في الوطن الجديد. كل ما يمكن ان يدور الحوار حوله اليوم
يتعلق بأمور محدودة تستحضر دوماً اعلامياً كعملية لاقتلاع
هوية سابقة واستبدالها بالهوية الجديدة. لقد فات منظري
الوطن الجديد ان الهويات لا تجتث او تنقرض بل هي تتطور
تبعاً لمراحل تدريجية تساهم في تطورها تغيرات تاريخية
مصيرية وليس محاضرات عقيمة وسجالات اعلامية على صفحات
الجرائد وشاشات التلفاز ومتاهات الشبكة العنكبوتية.
تبقى هويات الكيانات عملية تدريجية وبناؤها ليس كبناء
مجمع سكني او مطار حديث او حتى مبنى لمجلس الشورى. مما
سهل من خلط الاسمنت بالماء خاصة ان توفر المال. ولكن بناء
الاوطان هو عملية صعبة وما اصعب منها الا الاتفاق على
هوية الكيان عندها فقط تنحسر الحوارات والسجالات الهامشية
وتستبدل بانجازات حقيقية, عندها لا يختفي الحوار الا انه
يستبدل بالنقد البناء ولا يتحزب المجتمع وينقسم الى معسكرين
كخطين متوازيين لا يلتقيان. مع الاسف لا تزال السعودية
بعيدة كل البعد عن هذا المستقبل, وسنظل نشهد الاستقطاب
والتناحر عند كل منعطف حتى نصل الى مرحلة ما بعد الدولة
ذات الهوية المبهمة.
عن القدس العربي، 5/10/2009
|