السعودية والحرب العقيمة على الحوثيين
د. فؤاد إبراهيم
|
د. فؤاد إبراهيم |
أخرجت الأرض أثقالها في الحرب الدائرة في شمال اليمن،
فقد وضعت الطبيعة كل ثقلها مع المقاتلين الحوثيين»، وبحسب
أدبيات المقاومات الدينية، «لقد سخّر الله الجبال، والصخور،
والأشواك، وحتى الطيور والزواحف، لتحارب إلى جانب المقاومين».
عبارة تسمعها في صعدة، كما سمعتها في الضاحية الجنوبية
وبنت جبيل في لبنان بعيد وقف الأعمال العدائية في 14 أغسطس
2006، كما سمعناها في بيت حانون، وجباليا، ودير البلح
في قطاع غزة في العدوان الاسرائيلي في ديسمبر 2008 ـ يناير
2009. للمتربّصين بالمقاومـات عمــوماً الدوائر أن يعثروا
على مشتركات بين صعدة والضاحية وخان يونس، لنـسج دسيسة
الضــلوع الإيراني، لكن، وحدهم المقاومون من يتقنون لغة
الفرز..
لا، ليست إيران علامة الفرز هذه المرة، مهما بلغت قدرة
المرايا المهشّمة على تشويه الواقع في اليمن، وليس «حزب
الله» ولا حتى حركة «حماس» من نقل نموذجه إلى صعدة. بكلمة
مختصرة، إنها تجربة محلية الصنع بامتياز. وبطبيعة الحال،
فإن الجماعة الحوثيّة، شأن كل مقاومات الدنيا، قرأت بعمق
أدبيات وتجارب حركات الممانعة من أميركا اللاتينية الى
الصين، مروراً بالمحيط الى الخليج، وتلمّست جدارة هضم
دروس المقاومة في لبنان وفلسطين.
للتجربة الحوثية خصوصية، شأن خصائص أخرى تنفرد بها
اليمن على مستويات دينية واجتماعية وثقافية. فما يلفت
في اليـمن حتى فترة قصــيرة ماضـية، أن التعـايش المذهبي
بين الشافعية والزيديــة يمثل، دون مبالغة، أرقى شكل للتعــايش
في الشرق الأوسـط، يفصح عنه التزواج بين أتباع المذهــبين،
والمناشط التجارية المشتركة، وغياب عناوين مذهبية للمساجد
والجوامع. فماذا جرى إذاً في ما بعد؟
حين زرت صعدة العام 1991، كان (حزب الحق)، التظهير
السياسي الأولي للحوثيين، لم يتجاوز عدد أعضائه مئة عضو
يتوزّعون بين محافظتي صعدة وصنعاء. في ذلك الوقت أيضاً،
لم تحسم الإجابات عن الأسئلة الكبرى في البناء العقدي
الزيدي حول مبدأي الدعوة والخروج، بوصفهما ركني المدرسة
الزيدية، ومصدري تمايزها التاريخي والشيعي، إلى جانب وظيفتهما
في توليد المشروعية الدينية والتاريخية لأي حركة زيدية
معاصرة. استمعت، حينذاك، لآراء وصفت بأنها إصلاحية في
الفكر الزيدي، في ما يرتبط بعقيدة الخروج، وقال أحدهم
بأن الزمن كفيل بتبدّل مفهوم الخروج، فقد يأخذ معنى الخروج
بالسيف في زمن ما، وقد يرتدي معنى التصدّي للشأن العام
بوسائل سلمية، أو حتى الاضطلاع بدور قيادة المجتمع. كان
ثمة سؤال حائر يحوم حول: كيفية توفير مصدر مالي للجماعة،
ومن يجسّد القيادة في المجتمع الزيدي، من أجل البدء بدورة
إحياء التراث الزيدي، وإعادة بناء الصورة التاريخية لليمن.
وحين اندلعت الحرب الأولى بين الحوثيين ونظام الرئيس
علي عبد الله صالح في العام 2004، شعرت كأن الإسلام الزيدي
قد حسم سؤالي المصدر المالي والقيادة، وها هو خلال عقد
ونصف العقد يشهد حركة إحيائية ناشطة، ليعيد تركيب هويته
لا على أساس الانغلاق على شريكه التاريخي والديني: الشوافع،
لكن على قاعدة درء خطر الاضمحلال الذي واجهه منذ منتصف
التسعينيات، واشتدّت ضراوته منذ العام 2004، وعلى وجه
التحديد بعد تسلّل الوهابية الى المعقل التاريخي للزيدية،
صعدة، التي كنت أصوّرها على أنها بمثابة قمّ اليمن، أو
نجف العراق. دخلت الوهابية إلى صعدة عبر رجال دين يمنيين
انتقلوا الى الوهابية وتبنّوا مشروع (التبشير المذهبي)،
وتم تشييد المساجد والمدارس في ضواحي المديرية، بإشراف
الشيخ مقبل الوادعي، السلفي اليمني، وبدأت لغة تكفير المحيط
الزيدي ترتفع، حتى تسرّبت إلى داخل بيوت العوائل الزيدية
العريقة، وزاد على ذلك الغطاء الرسمي الذي حظيت به الحركة
الوهابية في محافظة صعدة، الأمر الذي أثار هلعاً في الوسط
الزيدي بأن ثمة مخططاً لمحو الهوية الزيدية، واستئصال
بيولوجي للمجتمع الزيدي عموماً.
ومن المفارقات التي تنفرد الوهابية في توليدها، فقد
استكملت الزيدية في اليمن شروط إعادة ولادتها الثورية
تحت تأثير أخطار محدقة، اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية،
فأعادت حمل لواء إمامها من أهل البيت زيد بن علي بن الحسين،
الذي مثّل امتداداً ثورياً لعاشوراء الحسين.
لقد أنجب الحلم السلفي نقيضه الأيديولوجي والسياسي،
فالتبشير المذهبي في شكله الاستفزازي، فجّر انتفاضة زيدية
لم يعد منذ العام 2004 يمكن إخـمادها، فالجـماعة الحوثية،
بوصفها تمظّهراً للاحيائية الدينية والسياسية في بلاد
الزيود باليمن التاريخي، تحــوّلت إلى حـركة إنـقاذ وطني
لغـالبية أتباع المـذهب الزيدي. لـقد قدّمـت عائلة الحوثي،
وهي من سلالة البيت النبوي، عشرات الشهداء في الحروب الخمس
الماضية، فأربعة من أخوة القائد العسكري للجماعة الحوثية
حالياً السيد عبد الملك الحوثي قتلوا في الحروب الثلاث
الأولى، وأبناء أخوته وعمومته بين شـهيد ومعتقل.
في الحرب الاولى، لم يكن لدى الجماعة الحوثية سوى 300
مقاتل، مع قلة العتاد ونقص في المؤن، أما اليوّم فبحسب
مصدر حوثي، فهناك نحو عشرين ألف مقاتل، عدا العناصر المدنية.
لا تشعر القيادة الحوثية اليوم بقلق بشأن عدد المقاتلين،
ولا كمية السلاح، ولا حتى التموين. يقابل الحوثيون نبأ
الحصار البحري السعودي لمنع وصول السلاح اليهم بسخرية
مع نكهة ازدراء، ويردّون على ذلك بالقول: لم تصلنا قطعة
سلاح واحدة من البحر منذ الحرب الاولى، أي 2004، وليس
لنا تواجد هناك، فكل ما نحتاج إليه نحصل عليه في الداخل
وكذلك من المؤسسة العسكرية اليمنية، وتجّار السلاح التابعين
للرئيس.
سألت قائداً حوثياً، هل لديكم إمكانية للسيطرة على
العاصمة، صنعاء، قال بكل ثقة: نعم، لكن لم نفعل، لأسباب
سياسية بدرجة أولى، لأن السيطرة على صنعاء تعني تخويف
القوى السياسية في الداخل والخارج من أننا نريد إطاحة
نظام علي عبد الله صالح والحلول مكانه، ونحن نريد، والكلام
له، طمأنة الجميع من أن كل القوى مسؤولة عن اليمن ولها
حقوق متكافئة فيه.
جلاسنوست يمني أم رأس النظام
تخبر مصادر حوثية وإقليمية وغربية قبل التدخل العسكري
السعودي المباشر في 3 نوفمبر الجاري بأن نظام الرئيس علي
عبد الله وصل نقطة الفناء الافتراضي، فلم يعـد قادراً
على ضبط الأوضاع المحلية على وقع تفتّتات متسلسلة تسري
من الشمال الى الجنوب، ولا بد من مبادرة إنقاذية لوقف
الانهيار، وانفجار الفوضى التي قد توفّر بيئة عالية التخصيب
لنشاطات القاعدة.
في الرؤية الأميركية، تبدو حكــومة علي عبد الله صالح
ضعيفة، وليس لديها القدرة على التحكّم في المنافذ الحيوية
خصوصاً خليج عدن وحـضرموت، وإن أي تصدّع يصــيب بنية الدولة
اليمنية الحالية، يعني شحن الميول القومية والمذهبية،
بما يؤول إلى تقويض أسس الاستقرار وربما انفلاش الوحدة
اليمنية في نهاية المطاف.
وفي حديث خاص مع عضو في مجلس الشورى السعودي حول التطوّرات
الراهنة في اليمن، فإن الأميركيين لم يعارضوا من حيث المبدأ
تقسيم اليمن، لكن منطق المصلحة يملي عدم المضي مع خيار
من هذا القبيل.
وقد تلتقي هذه الرؤية مع ما نقله قــيادي حوثي من أن
نقطة التصادم بين الرؤيتين الأميركية والسـعودية تتــمثّل
في إصـرار الجانب الأميركي على رفض نقل السلطة من الرئيس
علي عبد الله صالح الى حزب الإصلاح الحليف للسعودية. وتقوم
الرؤية الأمـيركية ليس فقط على مجرد رفــض وصول أحزاب
دينية إلى رأس السلطة، بل أيضاً على تجربة الحروب الأخيرة
في اليمن، التي خــسر فيها رجال السلطة في صنعاء جزءا
جوهرياً من مصداقيتهم. فبينما كانت الــسلطة اليمنية تحمّل
جماعة الحوثيين مسؤولية اختطاف الأجانب، سدّد الجهاز الأمني
التابع للجماعة ضربة قاصمة في قضية اختطاف وقتل ودفن خمسة
من الرعايا الألمان، حيث تسلّمت السلطات الألمانية تقريراً
تفصيلياً عن مجريات الحادثة منذ لحظة الاختطاف ومن هم
المسؤولون عنه، مروراً بالنقاط التي عبروا منها أو توقفّوا
فيها، وصولاً الى موضع قتلهم ودفنهم. طلب الحوثيون من
السلطات الألمانية التحقّق من المعلومات عبر استدعاء مسؤولين
أمنيين يمنيين ورد اسماهما في التقرير.
في الرؤية السعودية، وبحسب عضو في مجلس الشورى السعودي،
أن أميراً قوياً في الداخل ومقرباً جداً من الإدارة الأميركية،
يساند المعارضة في جنوب اليمن، وقد يكون ثمة ربط بقـرار
الحرس الملكي السعودي إنشاء قاعدة عسكرية في الربع الخالي.
وقد تكون هناك علاقـة ما لتحفّظ قادة الحراك الجنوبي إزاء
الانفتاح على الحوثيين.
يأخذ الانقسام في الرؤية ثنوية مخاتلة أحياناً، فالمعارضة
الأميركية للمقاربة السديرية للمسألة اليمنية تأخذ شكل
تنسيق مع جناح القصر. فأميركا التي كانت تملك قاعدتين
عسكريتين في الربع الخالي منذ أعوام تجد في إنشاء قاعدة
حديثة سعودية في المنطقة ذاتها بادرة تعبيرية لافتة لناحية
إعداد منصّة تنسيق دائمة بين السعودية والولايات المتحدة
مخصّصة لإدارة المسرح اليمني.
الأميركيون عارضوا قرار التدخل العسكري السعودي في
الحــرب، وأبلغوا القــصر بأن قراراً خطيراً من هذا القبيل
قد يسفر، في حال فشله، عن انفراط عرى الاستقــرار واندلاع
شرارة حرب أخرى، ينزلق بعدها اليمن نحو الفوضى، بما يجعل
السيطرة عليها أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً،
وسيكون ذلك على حساب الاستقرار في السعودية واليمن الرسمي.
يظهر من استعجال الجناح السديري في العائلة المالكة
الدخول في الحرب، أنه كان مدفوعاً بهاجس المبادرة السياسية
التي حظيت بقبول الحوثيين وقوى سياسية وازنة في اليمن
مثل الحراك الجنوبي، التي تقضي بإعادة تشكيل السلطة في
اليمن على قاعدة الشراكة والتوزيع المتكافئ للسلطة، بما
يفضي إلى تخفيض حصة السعودية في الكعكة اليمنية إلى الربع
أو ما دون ذلك.
في تفاصيل الحرب، والمناطق التي تجري فيها المواجهات
العسكرية ثمة ما يسترعي الانغماس الحذر، لا لعدم إمكانه
الفعلي، وإنما لما يثيره من اشمئزاز. يشرح قائد حوثي أهمية
مديرية الملاحيط اليمنية المتاخمة للحدود السعودية، بكونها
تمثّل معبراً حيوياً لثلاثة أنواع من البضائع: المخدرات،
السلاح، ونبتة القات. يقول، بالنسبة لنا كمقاتلين في سكان
صعدة، ليس لنا مطمع في هذا المعبر سوى القات الذي يتم
تهريبه من جبال تهامة باعتبارها الأرض النموذجية لزراعة
هذه النبتة، أما المخدرات والسلاح فهما بضاعتان محتكرتان
من قبل رجال السلطة وعدد من النافذين السعوديين. يعلّق
قائد ميداني في الجماعة الحوثية، ستكون القضية في غاية
التبسيط حين نختزل الأزمة اليمنية في الملاحيط كأن نقول
بأن سيطرتنا على هذا المعبر هي ما دفع الجيش اليمني ثم
القوات السعودية للتدخل بشراسة وتكثيف القصف الجوي على
هذه المنطقة بهدف استعادة المديرية وإعادة السيطرة على
منافذ التهريب.
في الأفق العريض، يبدو أن القيادة العسكرية السعودية
أدركت منذ وقت مبكّر أن المعارك مع الحوثيين ليست خاطفة،
وأن عملية الإخلاء الواسعة النطاق التي شملت حتى نهاية
الاسبوع الماضي نحو 400 قرية جنوبية، وتواصل الحشود العسكرية
بالقرب من المناطق الحدودية مع اليمن، لا ينبئان عن نهاية
قريبة، ولا يبدو أنهما لأغراض عسكرية فحسب. السعودية،
بحسب قيادي حوثي، تريد تسويق مبادرة سياسية مدعومة بالسلاح،
كشرط قائد الحملة العسكرية الملكية بإرغام المقاتلين الحوثيين
على العودة عشرات الكيلومترات عن الحدود المشتركة، لكن
ما ينقص القيادة العسكرية السعودية هو بيانات دقيقة، لأن
ما يجري على الأرض عكس ذلك تماماً، وقد يؤدي الى سحب المبادرة
من التداول حتى على نطاق محدود.
عن السفير اللبنانية، 26/11/2009
|