فتنة … وأربعون باصماً
عبدالرحمن اللاحم
أشغلنا خلال الأيام الماضية بالتنديد بقرار السلطات
الأمريكية التي فرضت إجراءات أمنية مشددة على المسافرين
إليها من بعض الدول ومنها السعودية، وتبارى كتابنا ومنابرنا
وجمعياتنا الحقوقية (المستقلة جداً) بتقديم الأدلة بأننا
تغيرنا، وأن (الشر برّى وبعيد) إلا أن جماعة (الأربعين
باصماً) خرجوا لنا ببيان ينضح عنصرية ويفيض بقيح طائفي
مقيت، اختزل لنا مشهدنا، وعكس لنا صورتنا كما نحن، لا
كما يحلم الحالمون أن نكون، حيث دبج أكثر من أربعين باصماً
بياناً حشوه كعادتهم بكل ما أسعفتهم به قواميسهم الإقصائية،
ليوصلوا رسالة بسيطة إلى العالم قبل أن يوصلوها إلى من
يهمه الأمر في الداخل؛ بأن شيئاً في مجتمعنا لم يتغير،
وأن كل حراكنا لم يكن سوى دوران في ذات المكان، الذي لم
نستطع أن نبرحه طوال السنوات الماضية.
لقد أوصل (مشايخ البيانات) رسالتهم إلى العالم بأننا
عجزنا عن التصالح مع ذواتنا وأنفسنا فلم نستطع التعايش
مع شركائنا في الوطن الذين يقاسموننا الوطن وشهادة الحق
ويشاطروننا ذات القبلة ومع هذا كله لم يجد لهم الموقعون
مكاناً يسعهم بل ضاقوا بهم ذرعاً وأخرجوهم من روح الله
فإذا لم ننجح في مصالحة أنفسنا فكيف ننجح بمصالحة الآخرين
وبعضنا في كل يوم يثبت بأن ثقافة العداء للآخر هي الأعلى
صوتاً في مجتمعنا؟ وكيف نطالب (الآخر) أن يثق بمن تَشَرَب
من تلك المياه الآسنة، وتخرج من تلك المدارس والمؤسسات
التربوية التي يشرف عليها مشايخ البيانات كما عرفوا أنفسهم
في بيان الفرقة والفتنة؟ وكيف لنا أن نقول للآخرين من
شركائنا في سكنى هذه البسيطة بأن دعاة العنصرية إنما هم
قلة لا يمثلون إلا أنفسهم وهم يرون فيهم القضاة الذين
استأمنوا على العدالة التي قامت عليها السموات والأرض،
والذين يفترض أن يحترموا وظيفتهم وينأوا بأنفسهم عن مزالق
الفتن ومسعري التشظي الطائفي، وكيف لنا- أيها السادة-
أن نقنع الآخرين بأن أجيالنا الجديدة أصبحت بمنأى عن التطرف
ونحن نرى معلميهم يتسابقون على توقيع بيانات الفتنة ويرفعون
عقيرتهم بخطاب طائفي مقيت؟
لقد أصبحت مهنة (البصم) على مثل تلك البيانات المضللة
مهنة من لا مهنة له؛ حيث لا تجد للكثير من (البَصَمَة)
أي حركة على المستوى الثقافي أو الفكري أو الاجتماعي،
لكن مع هذا تجده ضيفاً دائماً على تلك البيانات، أما قضايا
(الإنسان) المغلوب على أمره فلا تعني لهم شيئاً، ولم تعد
تشكل لهم حقوق المواطن المعيشية شيئاً، بل وقفت بيانات
الفئة ذاتها بأسمائها التي لم تتغير ضد قضايا المرأة وحقوق
الناس وحرياتهم وآمالهم الصغيرة، وجيروا معاركهم في ظهور
شركاء الوطن وأبنائه ورموزه، في مسلسل يبدو بأنه لن ينتهي
ولا يراد له أن ينتهي، مع أننا في معركة منذ زمن مع الإرهاب
وجيوبه، والتي يعد التطرف والغلو محفزها الأساسي؛ حيث
لا فرق بين جناحي الإرهاب سواءً كان إرهاباً مسلحاً أو
كان إرهاباً فكرياً فكلاهما يختطف حق الإنسان في الحياة
وحقه في الاعتقاد، وللأسف فإنه من سوء حظنا بأنه لا يمكن
القضاء على خطاب الإقصاء بالمناصحة ولا وعظ المتطرفين
بأن يتخلوا عن تطرفهم، بل لابد أن يكون هناك رادع قانوني
وقضائي يقف في وجه كل من يريد أن يعبث بوحدة هذا البلد
وفسيفسائها، هكذا نجح عقلاء العالم في إلجام متطرفيهم.
وإن تعجب من ذلك البيان وباصميه الأربعين فالعجب كل
العجب من الساكتين ممن يبشرون برؤية منفتحة، ويسوقون للفكر
الإسلامي الجديد، وأخص بذلك الدكتور سلمان بن فهد العودة
ومن على دربه من المشايخ الذين اختطوا خطاً معتدلاً، فسكوتهم
لا يمكن أن يبرر وخصوصاً وأن لهم كلمة مسموعة لدى قطاعات
واسعة من الشباب، فقد وصل الأمر أن بدأنا نخشى على أطفالنا
أن يتخطفهم خطاب التطرف والغلو الذي ينضح من ذلك البيان
ونظائره، فإنه لا يسع الشيخ شرعاً أن يصمت وهو يرى هذا
العته الفكري يعصف بمجتمعنا ويهدد أمنه ولحمته، فالتنديد
بهكذا تطرف أعتقد أنه أولى من بيان حكم أعياد الميلاد
وحكم التصفيق، وقديماً حفظنا عن فقهائنا - أيام الطلب
- بأن "السكوت في معرض الحاجة.. بيان".
عن الرياض، 1/2/2010م
|