|
محمد بن علي المحمود |
خطاب التكفير:
التكفير مع سبق الإصرار والتحدي
محمد بن علي المحمود
يتوهم المتفائلون، بل الشاطحون في تفاؤلهم، أن التكفير
الذي يمثل الخلفية الفكرية للإرهاب قد زال بزوال ظاهرة
التفجير والتدمير. ارتباطهم بالعيني والمباشر؛ جعلهم ينسون
أو يتناسون الخلفيات الفكرية المُحفّزة للعمل الإرهابي.
حتى أولئك الذين كانوا يُحاولون مقاربة ظاهرة الإرهاب
ولو بالشجب والتنديد، سكتوا؛ عندما خفت دوي الانفجارات،
وانحسرت دائرة الاغتيالات الإرهابية. الإرهاب لدى هؤلاء
ليس إلا العمل الدامي في الواقع المتعين. أما كل ما يقود
إليه بالضرورة، فليس إلا تعبيرا عن رؤية متشددة، لا أكثر
ولا أقل، رؤية متشددة لا تؤثر في الواقع!. بل قد يزيد
بعضهم أو يزايد؛ فيدّعي أن هذه الرؤية المتشددة: حرية
تفكير وحرية تعبير؛ غير مفرّق بين حرية التعبير وحرية
التكفير!.
الإرهاب كفكر لا زال مجهولا، ولا زالت هناك عقبات وعقبات
تحول دون وضع النقاط على الحروف بالكامل. ومع هذا فقد
كنت ولا أزال أصرّ على تتبع السلسلة الفكرية إلى حلقتها
الأولى، على الأقل بالتلميح إذا تعذر التصريح، وهو الممكن
في الوقت الحالي. إصراري على أن التكفير/ الإرهاب ظاهرة
فكرية متمددة بأوسع مما نتخيل!، خالفني فيه كثيرون، خاصة
من أبناء التيار الديني الذين (يشجبون) الإرهاب بصدق،
ولكنهم يحسنون الظن كثيرا، بل وخالفني فيه حتى غير المتدينين،
إذ رأوا أنني أعطي الظاهرة أكثر مما تستحق، وأنه ظاهرة
عابرة ستنتهي عما قريب، وكانوا يراهنون كثيرا على صمت
كثير من التقليديين وعدم جرأتهم على التكفير، وكنت أراهن
على أن هذا الصمت مجرد حالة اضطرار ظرفي.
طوال الفترة الماضية، ولمدة ثلاث وأربع سنوات تقريبا،
انقلب خلافي مع من يرون أن التكفير كان ظاهرة محدودة جدا،
وأنها تلاشت، وأن رموز التقليد لا يدعموننا ولو بصمتهم،
من مجرد خلاف إلى عتاب حاد أحيانا. كانوا يقولون لي: أين
هو التكفير الذي تتحدث عنه وكأنه طوفان كاسح ؟. كان جوابي
دائما هو الإحالة إلى تلك المقولات الأساسية (التكفيرية)
في المنظومة التقليدية التي لم تُراجع بعد، ولا يستطيع
أي تقليدي تجاوزها، فضلا عن التنكر لها؛ لأنها ترقت في
خطاب التقليد إلى أن أصبحت: بنية عقائدية يستحيل اجتزاؤها
من بعضها على مستوى الإيمان، بل وكنت أدعم رؤيتي بأن أحيلهم
إلى المقولات السابقة لبعض رموز التقليد الأحياء أو قريبي
العهد بالهلاك، أي من المعاصرين، وإلى مؤلفات بعض مريديهم
الأوفياء الصرحاء. كانت الإحالة على مقولات صريحة جدا
في التكفير، حتى وإن تم تبريرها عقائديا؛ إذ لا تكفير
بلا تبرير. لا يوجد تكفيري يقول: أنا أهوى التكفير، أو
أنا أمارس التكفير بالهوى، بل كلهم يؤكد أنه لا يُكفر
إلى من كفّره الله ورسوله، أي أنه يتعبد الله بالتكفير.
ويقول لمن يتهمه بالتكفير: سبحانك هذا بهتان عظيم. يقول
هذا وكأنه يمتلك عصمة الفهم وعصمة تنزيل فهمه على الوقائع
والأعيان.
أذكر أن أحدهم، وكان ليبراليا حرا، قال لي قبل أربع
سنوات تقريبا: لماذا تُكثر الكتابة عن خطاب التكفير ؟
إن خطاب التكفير قد تلاشى بعد أن فضحته الأعمال الإرهابية،
صدقني لا يوجد التكفير الصريح إلا عند شواذ المتطرفين،
وهم قلة نادرة جدا لا يستحقون حتى التنبيه لخطرهم. عند
ذلك، وكخطوة أولى، أحضرت له مقولات التكفير عند بعض رموز
التقليدية، وهي أسماء يعرفها جيدا، صمت قليلا ثم قال:
هل تعتقد أن هؤلاء لا زالوا يؤمنون بهذه المقولات المتطرفة؟
أجبته: لم يصدر عنهم أي تراجع أو تصويب إلى الآن، ثم إنها
مقولات تتسق مع المنظومة التقليدية التي لا يرون أن سواها
على الحق المبين. ابتسم وقال: أحيانا يصعب التراجع أو
الاعتذار الصريح، خاصة عند أولئك الذين يمتلكون كثيرا
من المريدين والأتباع. ولهذا فقد يكون الاعتذار أو التراجع
ضمنيا، وذلك بالصمت عن الماضي وتناسيه، صدقني هذا تراجع
يجب أن نفهمه ونتفهمه، وإلا لماذا لا يُصرّحون اليوم بهذه
الآراء التكفيرية، أنا لم أسمع منهم أي تكفير صريح ؟ أجبته:
الظرف الأمني الراهن، حيث فوران بركان الإرهاب، يجعلهم
يُحجمون عن الكثير من عقائد التكفير. قال: أنت الآن دخلت
في النيات، أنت تبالغ كثيرا.
لم يستطع هذا الصديق أن يصدّق أن الصمت عن التكفير
آنذاك، هو: مجرد سكوت ظرفي، ولم أستطع إقناعه أن عقائد
التكفير يستحيل تجاوزها بهذه السهولة التي يتصورها، وأن
زعزعة منظومة التكفير من قواعدها عمل يحتاج لنقد جذري
وشامل وطويل الأجل لمجمل مقولات التقليدية، وليس لجزئية
محدودة منها، وأنه لا يُجزئ عن ذلك مقولات الشجب والتنديد
والاستنكار!.
لقد غيّر كثيرون رأيهم؛ بعد أن صدرت تصريحات تدعو للقتل
أو للتكفير المنهي بالقتل. لقد عذرني من عذلني. كان هؤلاء
يحتاجون إلى تكفير صريح وراهن؛ حتى يصدقوا أن خطاب التكفير
ليس ببعيد عن مجالهم الثقافي. لقد تغير حتى كثير من المتدينين
الطيبين الذين كانوا لا يتوجسون كبير خطر من خطاب التكفير،
بل وكانوا يحسنون الظن كثيرا بكل رموز التقليدية. لقد
صدموا بمثل البيانات الصريحة التي تدعو للتكفير والقتل.
لا زلت أذكر، بعد أن أصدر أحد التكفيريين فتوى بتكفير
بعض المثقفين بأسمائهم، اتصل بي أحد هؤلاء الطيبين من
محسني الظن برموز التقليد، وقال: هل من المعقول أن هناك
من يمارس التكفير، وعلى هذا النحو الصريح، إنني وبصراحة،
كنت أظن كلامك عن التكفيريين كلاما عن أشباح لا يمكن أن
ألمسهم بيدي، فإذا بهم ممن أستفتيهم وربما صليت مأتماً
بأحدهم!. قلت له: بل هذا هو المعقول، وستأتيك الأيام بالمزيد.
لم يطل الوقت حتى صدرت فتوى: قتل ملاك القنوات الفضائية،
وكانت صدمة أكبر؛ لاعتبارات كثيرة، ليس هذا مجال تفصيلها؛
وإن كان من المؤكد أن ليس للقيمة الذاتية لمن قال بها
أي اعتبار في هذا المجال. آنذاك، ترنح كثير من المتعاطفين
مع مقولات التقليدية من هول الصدمة. المدافعون لم يستطيعوا
الدفاع إلا بتأكيد الفتوى والاعتذار عنها ببيان اتساقها
مع منظومة التقليد، وكان اعتذارا أشنع وأفضح من ذنب التكفير؛
فهم بهذا أكدوا أنها ليست رأيا شاذا في التكفير، وإنما
هي تعبير عن خفايا منظومة واسعة لا يجد كثير من أبنائها
اليوم الجرأة على كشف كل أوراقها.
صدرت كثير من فتاوى التكفير الصريحة، التكفير الصريح
يعلن عن نفسه بكل وضوح. لكن ماذا عنا نحن، هل لا زال هناك
من يقول بهامشية خطاب التكفير، هل لا زال هناك من يسأل:
من أين يأتي التكفير والإرهاب؟ عندما كنت ألحّ قبل سنوات
على خطورة خطاب التكفير، لم أكن أصدر من فراغ. أعرف خطاب
التكفير عن قرب، أعرفه بالمعايشة الفكرية وبالمعايشة الاجتماعية
منذ سنوات الطفولة الأولى، أعرف آماله وطموحاته، ما يسره
وما يحزنه، أفهم معاني همهماته بالليل وهمساته بالنهار،
أعرف مقولاته الأساسية والفرعية، أعرف متى يستطيع التنازل
ومتى لا يستطيع، أعرف متى يرغب ويطمع ومتى يرهب ويقطع،
وأعرف طرائقه في التفكير الخاص وفي التفكير العام، أعرف
تصوراته الكلية عن الحياة وعن الأحياء وعن الدنيا وعن
الآخرة، أعرف تياراته وانقساماتها، والخلفيات الفكرية
والاجتماعية بل والشخصية لهذه الانقسامات، أعرف ما بينهم
من توافق وتعاضد وما بينهم من تضاد، أعرف طبيعة خياراته
حتى قبل أن يهمس بالاختيار، أستطيع أن أتنبأ بسلوكياته
حتى وهو يُوهم بما ينفي صريح تلك التنبؤات الاستباقية.
ونتيجة لذلك؛ تبين لي بوضوح ويقين أن من كل من يدّعي أن
التكفير ظاهرة شاذة ومحدودة وعابرة ومحصورة في نطاق ضيق
من المجاهيل والأغرار الخارجين على النسق العام للمنظومة
التقليدية، هو بين حالين لا ثالث لهما، إما:
1ـ مُنصهر بحكم النشأة والتربية في خطاب التكفير، بحيث
لم يعد يرى القول بالتكفير جريمة تستحق الإدانة، بل ربما
رآه (التصريح بالتكفير) تعبيرا صادقا عن الجرأة في الحق،
ودليلا على الإخلاص. وهذا نتاج طبيعي للتطبيع بثقافة التكفير.
فالتكفيري لا يعتقد أنه بتكفيره يمارس جريمة، بل يعتقد
أنه يمارس نوعا من التعبد لله بأقصى درجات الإخلاص. وليس
شرطا أن يكون هذا المنصهر في خطاب التكفير تكفيريا واعيا
بحاله، بل الغالب أنه لطول ما سمع من مقولات التكفير،
ولكونه يراها تصدر عن رمز يتمسح بمظاهر تقويّة صادقة أو
كاذبة، ولكون هذه المقولات التكفيرية مشحونة بالنصوص التي
توحي للمتلقي شبه الجاهل بقداسة الفكرة التكفيرية المستنبطة
منها، لا يرى فيها ذلك النمط من التكفير الخوارجي الذي
يجب التصدي له. يؤكد هذا أن أحدهم، لما عرضتُ عليه بعض
مقولات التكفير، قال: هؤلاء معهم أدلتهم، لم يأتوا بشيء
جديد. وآخر قال: نعم هذا تكفير شرعي وليس كتكفير الخوارج
بالمعصية. أجبت الأول بأنه حتى الخوارج الذين يعترفون
علانية بأنهم خوارج لديهم أدلتهم، بل هم أشد الناس ارتباطا
بحرفية النصوص، وهم أكثر من غيرهم استسلاما لها. وأجبت
الثاني أن كل تكفيري يرى أن تكفيره شرعي، وأن الخوارج
لم يكفروا بالمعصية فقط، بل إن مجمل تكفيرهم كان تكفيرا
بلوازم عقائدية يستدلون عليها بواسطة اجتهادهم الخاص؛
كما هي الحال في موقفهم من التحكيم.
إذن، من الواضح أن هذا النوع لا يرى التكفير تكفيرا،
بل هو يراه ممارسة شرعية طبيعية؛ نتيجة اندغامه في خطاب
التكفير على مستوى اللاشعور، حتى وإن تمنّع عليه على مستوى
الفكر النظري المجرد. ولهذا يتعجب هذا وأمثاله من موقف
أغلبية المسلمين (أكثر من 99% من المسلمين) منه، وكيف
أنهم يتهمونه بأنه ينتمي لمذهب تكفيري خاص. إنه يتعجب،
كيف يرى الآخرون منه ما لا يراه من نفسه، ويغيب عنه أن
الخوارج في القرن الأول كانوا يرون أنهم جماعة المسلمين،
وأنهم الفرقة الناجية، وأصحاب العقيدة النقية الصافية،
وأنهم كانوا يعجبون ويتعجبون من رؤية الناس لهم أنهم أصحاب
مذهب تكفيري خاص، مذهب ينفي كل ما سواه، بل ويتشظى على
نفسه طوال تاريخ مُزايداته التي لا تنتهي على التشدد والتكفير.
2ـ المثقف المدني، الذي لم يقرأ كثيرا في تراث منظومة
التكفير، ولم يعايش المتطرفين عن قرب. وهذا يعتقد أن التكفير
شطح في التفكير، اعتنقه بعض الأغرار؛ صغار السن، بعد أن
تم التغرير بهم ببعض الثقافات الوافدة. ومشكلة هذا النوع
من المثقفين أنه يحسن النية في معظم رموز المنظومة التقليدية،
فهو قد يراهم قاصري الوعي، ومحدودي الاطلاع، ولكنه لا
يعرف طبيعة الترسانة التراثية التقليدية التي يتكئون عليها،
بل وربما لا يعرف الكثير عن المبادئ الأساسية في المنظومة.
وحتى إذا قرأها ففي الغالب أنه يقرأها بعمومياتها كقواعد
عامة، ولا يقرأ شروحها التي تحدد التفاصيل التي يكمن فيها
الشيطان؛ ولهذا كانت صدمة هذا النوع بالفتاوى التكفيرية
التي صدرت في السنتين الأخيرتين صدمة كبيرة، واجهها باستنكار
واستغراب، وكأنها حراك شاذ خارج النسق. بينما كان العارفون
بخطاب التكفير يرونها تصريحا ببعض التكفير الذي طال التكتم
عليه، وأن الغرابة ليست في قول من قال، ولا في تصريح من
صرّح، بل هي في سكوت من سكت، وجبن من جبن، ونفاق من نافق
(النفاق السلوكي لا العقدي) ومداهنة من داهن.
وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً.
* عن صحيفة الرياض، 4/3/2010
|