|
د. مضاوي الرشيد |
السعودية: فتاوى الصراع على هوية الكيان
د. مضاوي الرشيد
تمر المؤسسة السلفية السعودية في مخاض عسير، فبعد ان
كانت تحتل المركزية في تحديد اطار الخطاب الديني، وما
يتبع ذلك من تحليل وتحريم، كان في الماضي ملزما للدولة
واجهزتها المتعددة، من تعليم وتربية.. نجدها اليوم أصبحت
جزءا من تعددية خرجت على الملأ من خلال تعدد منابر الحوار
ووسائله ومساحاته. جاءت هذه التعددية نتيجة سياسة الدولة
والتي اقتنعت بأن عملية الاحتكار للخطاب الديني قد ادت
الى ردات فعل، منها ما طال امن الدولة وهدد شرعيتها عالميا
وداخليا، مما اضطرها ان تفتح الحيز الديني للمنافسة والتناحر،
علّ ذلك يؤدي الى سقوط الخطاب المعادي لسياستها العامة،
وأن تجعل الجمهور المتلقي للخطاب الديني هو الحكم في عملية
التنافس والتناحر القائمة حاليا في الداخل السعودي.
ومن هذه البديهية نجد ان فتاوى قتل اصحاب الفضائيات
الماجنة، واولئك الذين يحللون الاختلاط، قد كثرت وتكاثرت
حتى اصبحت حدثا يوميا تلقفته وسائل الاعلام المكتوبة والافتراضية،
لتتعالى اصوات المناصرة من جهة، والمنددة من جهة اخرى،
بينما تلتزم السلطة الصمت حاليا ولا تتحرك الا اذا كانت
مضامين الفتوى تتعلق بسياستها بشكل مباشر. كل ما يهم السلطة
هو الحجر على فتاوى تتطرق بشكل مباشر لشرعيتها والتي تتضمن
تحريضا مباشرا على استراتيجيتها، وبما ان الباب قد اقفل
على هذا الموضوع، وفهم الكثير من الدعاة والواعظين قواعد
اللعبة السياسية والتي حددت المسموح والممنوع.. اتجهت
انظار هؤلاء للمجال المفتوح. وهو مجال علاقة الرجل بالمرأة
ومنه موضوع الاختلاط، بالاضافة الى مواضيع تتعلق بالاعلام
ومضمونه، خاصة ذلك المتهم بافساد الاجيال واخلاقها، معتقدين
بذلك انهم يحرسون هوية الكيان السعودي، والذي كان دورهم
في رسم ملامحه كبيرا، مما جعله يلتصق بهم وبرؤيتهم التي
طوروها خلال عقود طويلة.
ولكنهم ـ الوعاظ والدعاة ـ ازيحوا وبشكل قاطع في السنوات
الاخيرة، وان كانوا في الماضي هم من احتكر اطار التحريم
والتحليل، الا انهم اليوم يعيشون مرحلة التهميش والاقصاء،
حيث ان الدولة اصبحت هي من يحلل ويحرم، رغم احتفاظها بشعارات
كبيرة توارثتها من الخطاب السابق. عملية التهميش والاقصاء
هذه، هي الاطار والسياق الذي يجب ان نفهم من خلاله حدة
الفتاوى السعودية، في مواضيع ربما يعتبرها البعض ـ ومنهم
العلماء والفقهاء المعاصرون ـ من الامور الثانوية، والتي
لا تتطلب حدود القتل والاخراج من الملة تماما، كما هو
حال فتوى عبد الرحمن البراك، والتي اثارت زوبعة اعلامية،
ليس فقط في الداخل السعودي، بل في الخارج ايضا.
يعلم البراك وغيره، ان الاختلاط فكرا وممارسة يحصل
في جميع مرافق الحياة اليومية السعودية، ولن تمر الا سنوات
معدودة حتى يصبح ظاهرة في المؤسسات التربوية والجامعية
والاجتماعية، ان ارادت السلطة ذلك. وكما تغاضت السلطة
عن مساحات الاختلاط الحالية في مرافق العمل الخاصة، الا
انها مستعدة لان تطور التجارب المحدودة الحالية لتتحول
الى ظاهرة طبيعية، تماما كما هي الحال في دول الجوار العربي.
ومنذ زمن استطاعت ظاهرة الاختلاط ان تكون حتمية وواقعا
على الارض، حتى في اجهزة الدولة كالمستشفيات الحكومية،
ولم تستطع اصوات الرفض ان تغير المسيرة في هذا المجال
بالذات، مهما تعالت نبرة الخطاب الديني وفتاوى التحريم.
تعتبر ظاهرة الفتاوى التي تحرض على العنف ضد المخالف
جزءا من ظاهرة أعم وأشمل، وقد عرفتها المجتمعات المختلفة،
حتى تلك التي لا تنتمي الى الاسلام. خذ مثلا الأصولية
المسيحية في الولايات المتحدة، او نظيرتها اليهودية، وكلها
حركات من نتاج الحداثة، رغم ان خطابها في ظاهره ضد الحداثة
وافرازاتها، وتكثر معارك هذه التيارات في مجالات محدودة.
فالاصولية المسيحية اليوم منشغلة بموضوع تعليم نظرية داروين
وموضوع الاجهاض وغيره. اما اليهودية، وخاصة الاصولية الاسرائيلية،
تحاول فرض ذاتها في قضايا تتعلق بالحفاظ على تعاليم اليهودية،
وخاصة تلك المتعلقة بإغلاق المحلات ليلة السبت، هذا بالاضافة
الى الاستيطان في اسرائيل الكبرى حسب تعريفهم.
وان عدنا الى الحالة السعودية سنجد ان السلفية فيها
قد تحولت دون ان تدري الى كاريكاتور للحالة الشاملة بعد
عملية ازاحتها من الساحة العامة نتيجة تغير مسار الدولة
تحت ضغوط الحقبة التاريخية الحالية، فتقلصت مساحاتها السابقة،
وهي اليوم منشغلة بموضوعات قديمة تم تجاوزها من قبل الدولة،
وان كانت السلفية القديمة مشروعاً نهضوياً حداثياً قديماً
عرفه العالم الاسلامي قبل حداثة الغرب المستوردة، اذ ارتبط
بعملية عقلانية هدفها عقلنة الخطاب الديني، وتصحيح الممارسات
الفولكلورية التي ارتبط منهجها بالثقافات المحلية المتنوعة..
الا انها تحولت على ايدي علماء السعودية السابقين والحاليين
الى منهج موغل في تعاطيه مع جزئيات الحياة اليومية.
اجتهد سلفيو المسلمين في عصور بعيدة في عملية ترشيد
الدين والممارسة، مبتعدين عن الفكر الخرافي، ومعتمدين
على مشروع حضاري ينهض بالمجتمع ويبعده عن قدسية الاشخاص
والاولياء وغيرهم، ممن استحوذوا على مخيلة المجتمعات،
واستعانوا بذلك على شرعية النص، والذي بقي المصدر الاول
والاخير الذي يستحضره العقل البشري، ويحاول تفسيره تفسيراً
محدداً بالحقبة التاريخية. اما اليوم فقد تحولت السلفية
الموروثة من تاريخ المسلمين الى سلسلة من الفتاوى التكفيرية،
والتي تناست ما هو اكبر واكثر الحاحا من مواضيع الاختلاط
والفضائيات. لقد فقدت السلفية القديمة ـ والتي هي منهج
يتبع ـ قدرتها اليوم في ان ترتفع الى مستوى اعلى، يكرس
مفهومها كمفهوم حضاري شامل، عندما تدحرجت الى مستوى اوصلها
اليه ضغط السلطة وسقوط العلماء في فخها.
على ايدي هؤلاء العلماء تحولت السلفية اليوم الى اضحوكة
للعالم يجترها ويتناقش بها ويستمتع بفتاواها التي تصدر
هنا وهناك، ويتناسى هؤلاء كيف ان سلفية العصور القديمة
كانت مشروعا دينيا اكبر بكثير من قضايا جانبية تتعلق بالرجل
والمرأة، واستنجدت السلفية القديمة بالنص لتحد من سلطة
الانسان وتجاوزاتها ومخيلته الخصبة واهوائه، ولكن اندثر
هذا المشروع لحظة ارتباطه بدخلاء جدد دعمتهم السلطة في
بداية الامر لتثبيت شرعيتها وليس شرعيتهم، ومن ثم اسقطتهم
في متاهات العلاقات الانسانية المتشعبة والمتغيرة، حتى
اصبح همهم الشاغل اليوم هو اصدار الفتاوى وتسويقها في
سوق كبير فيه من المنافسة والتناحر ما فيه، ولو كان لهم
من الوعي الشيء البسيط، لما وقعوا في هذا الفخ الذي نصب
لهم بشيء من الحيلة والمناورة. وبدل ان تنمي السلفية مؤسسات
مستقلة، تحولت الى بيروقراطية يمسك زمام امرها مسؤولون
هم اقرب الى الجهاز الاداري من جهاز فكري، يستلمون معاشاتهم
من خزينة الدولة التي حجرت عليهم في زوايا معروفة، ان
تجاوزوها سرعان ما يتعرضون لعمليات الفصل والاقصاء.
وهذه نتيجة حتمية لمشروع الدولة، والتي هي في جميع
مظاهرها مشروع عنيف، يحاول الحجر على كافة المؤسسات وترويضها
لخدمة المشروع السلطوي، بما فيها المؤسسات الاجتماعية
والتربوية والاعلامية والاقتصادية.
لن تستطيع السلفية ان تعود لمشروعها الحضاري القديم
طالما ظلت ذراعا من اذرع السلطة، بل ان استمرارية الوضع
الحالي سيطيح بها كليا ويبعدها عن مشروعها ومنهجها القديم،
ولن يجد فيها المسلم القوة التي تمكنه من تجاوز سلطة البشر،
بل ان وضعها الحالي سيزج بها في خانة لم تكن يوما ما تطمح
له او تتقيد به، وان كانت تطمح في السابق لان تكون هوية
شاملة لكيان ديني واجتماعي وسياسي ينهض بالمجتمعات، تتجاوز
حدوده حدود القومية والقطرية.. الا انه اليوم تحول الى
مساحة محدودة تختزل في طول اللحية وقصر الثوب والهرولة
في المشي، إذا ما كان من رموز حديثة التصقت بالهوية الجديدة
للسلفيين الجدد من الرجال. اما النساء فاصبحت سلفيتهن
برقعاً اسود، وقفازاً مماثلا.. وهكذا اختزل المشروع الحضاري
القديم بين ايدي المنظرين الجدد والذين هربوا من مسؤوليتهم
التاريخية كفعاليات كانت المجتمعات تنظر لهم باحترام وتقدير.
وتتفرج السلطة اليوم على معاركهم الجديدة التي يخوضونها
على الانترنت والفضائيات، وترصد اي زلّة قد يقع بها احدهم
في امور تتعلق بها وحدها حتى يأتي العقاب على قدر تلك
الزلة وبسرعة معهودة.
سينتظر المسلمون اعادة السلفية الى مسارها الاول ومنهجها
السابق، ولكن لن يحصل هذا بالسهولة او العفوية، اذ انه
يرتبط بتغيير علاقة الدين بالدولة، وهذا ما لم يصله اي
مجتمع اليوم، وطالما بقيت السلفية مرتبطة بمشروع الدولة،
فستظل تنحرف عن مشروعها الحضاري وهدفها الاول، وهو النهوض
بالمجتمعات بعيداً عن السلطة ومشاريعها.
* عن القدس العربي، 1/3/2010
|