|
د. مضاوي الرشيد |
الكوارث السعودية بين الخرافة والبطانة
د. مضاوي الرشيد
تكشف الكوارث الطبيعية قدرة المجتمعات والدول المسؤولة
عنها من خلال تعاطيها مع أحداث طارئة من زلازل وسيول وأعاصير،
وتفتح الباب على مصراعيه لجدل وحوارات كلها تحاول تحديد
المسؤولية، وخاصة في تجهيز التدابير الوقائية التي تحد
من تداعيات الكارثة، وتؤمن سلامة المجتمع من عوامل تأتي
دون سابق إنذار، وتؤدي الى خراب المدن، وتفتك بالأرواح
والمنشآت. وقد تعرضت السعودية في الشهور القليلة الماضية
الى كارثة سيول في مدينة جدة، وبعدها تحولت مدينة الرياض
الى مستنقع كبير غرقت فيه السيارات، وجرفت المياه الغزيرة
المباني والمنشآت. واتضحت الصورة بشكل صريح، حيث ظهر للجميع
خطأ تصميم المدن، وقصور قدرتها على تصريف أي فائض من المياه،
حيث تنعدم في هذه المدن قنوات التصريف، واستيعاب أزمات
ولو كانت طارئة وليست بمستوى الكارثة الحقيقية.
لقد تحولت التنمية اللامتناهية والتي انحصرت في ثورة
معمارية مرئية الى غاية في ذاتها، هدفها الأول والأخير
تثبيت شرعية النظام، دون الانتباه الى البنية التحتية
التي تحتاجها المدن الكبيرة والخدمات التي تحتاجها المجتمعات
التي تقطنها، أو طبيعة البيئة التي تهيمن على جغرافية
المناطق، وكلما زادت الهجرة من الارياف والمناطق النائية
الى هذه المدن، كلما زاد الضغط على الخدمات التعليمية
والصحية والاقتصادية. فالكثافة البشرية في مدن السعودية
الكبيرة تحتاج الى بنية تحتية بمستواها، ولكن انشغال النظام
السعودي بالتنمية المرئية التي تبهر الناظر اليها، أدى
الى تجاوز أكثر الامور بديهية كمشاريع الصرف الصحي، والتخلص
من الفائض بطرق صحية، وتوفير الخدمات الضرورية لكتل بشرية
تنتقل يومياً الى المدن وتستوطنها.
وعند كل كارثة طبيعية قد تلجأ المجتمعات في لحظة ضعفها
الى الفكر الخرافي، فتستحضر مخزونها وأساطيرها لتتعاطى
مع أزمة طارئة، فتعلل كارثتها باللجوء الى مقولات الغضب
الرباني، ولعنة الآخرين الذين يحسدونها على نعمة ما، أو
ينبشون معاصيهم ليحملونها المسؤولية عن مأزقهم الحالي،
مبتعدين في ذلك عن التقييم الواقعي لأزماتهم، وتشخيص حالتهم
المزرية لحظة الكارثة.
وسيبقى هذا المخزون الخرافي يستشري في الفكر الجمعي
طالما ظلت الشفافية والمحاسبة غائبتين عن ذهنية المجتمعات
التي تنبهر بالتنمية المرئية.. تلك التنمية لا تصلح إلا
لالتقاط الصور التذكارية، كمعالم للنقلة النوعية من زمن
الخيمة وبيوت الطين، الى عصر الاسمنت والزجاج والحديد.
ولكن نلاحظ ان الامطار والسيول التي كانت في الماضي
تجرف المنازل والمنشآت، هي نفسها اليوم التي تكتسح المدن
الجديدة وتغرقها، لتتحول الى مستنقعات كبيرة، تطفو على
سطحها السيارات والاشجار وحتى البشر. ان كان منطق التنمية
لا يوفر أبسط الحقوق بالأمن، فهو قد فشل في احداث نقلة
نوعية في حياة الإنسان وضمان سلامته في مبان وطرق جديدة
تتعرض لتغيرات البيئة ومخاطرها الجديدة.
ومهما استنجدنا بالفكر الخرافي، الا أنه يظل قاصراً
على تحديد المسؤولية ومحاسبة القائمين على التنمية، رغم
الفرقعات الاعلامية المرتبطة بانشاء هيئات تستجوب وتحاسب
المسؤولين. إلا ان هذه الهيئات تظل قاصرة على تحديد أسباب
الكارثة وتداعياتها. وحتى هذه اللحظة ـ وبعد كارثتين الأولى
في جدة، والثانية في الرياض وهيئات مختصة بتقصي الحقائق
ـ فإن المحاسبة تظل بعيدة عن الصلاحيات المحددة لمثل هذه
الهيئات واللجان التي تظهر ومن ثم تختفي فجأة، ليطوى الملف
الذي يفتح بعد كل كارثة ومن ثم ينتهي الى لا نتيجة، وتعود
الحياة الى طبيعتها بانتظار أزمة طبيعية جديدة.
ربما من الخطأ أن نصنف هذه الازمات بأنها طبيعية، إذ
ان الكثير منها هو صنيعة بشرية، يساهم في تفاقمها الكثير
من عديمي الرؤية المستقبلية المنهمكين في اقتناص فرص التنمية
وتطوير المدن. وتتحول هذه الفرص الى وسيلة للإثراء السريع
على حساب التخطيط الذي يصمد أمام الاحداث الطارئة كفائض
الامطار. وبغياب الشفافية والمحاسبة، يظل القائمون على
مشاريع التنمية معصومين غير محاسبين عن اخطائهم وتسرعهم،
بل انهم ينتظرون الفرص القادمة بفارغ الصبر، علّهم يحصدون
من الثراء والمفاوضات الجديدة ما يجعلهم شركاء في ثروة
يعتمد توزيعها على الأهواء والمحسوبية والقرب من السلطة
والتملق لها، وان كان بعضهم واجهة للسلطة ذاتها.
إن كان البعض في السعودية قد استنجد بالفكر الخرافي
في تفسير غرق مدن الصحراء، فإننا نجد البعض الآخر قد وجد
في مفهوم البطانة الفاسدة ملاذا آخر يلجأ اليه في عملية
القاء اللوم والمسؤولية. لقد أصبحت البطانة مبتذلة لدرجة
مضحكة، حيث تستحضر دوما لتفسير التقصير والفساد الاداري
المستشري الذي ينكشف عند كل أزمة وكارثة. ان استنجاد البعض
بالبطانة هو عملية هروب الى المجهول وتغييب المعلوم. فالسؤال
الذي يطرح نفسه هو الآتي: اذا كانت دولة عتيدة تحكم من
قبل بطانة فاسدة، فمن هو المسؤول عن تعيين هذه البطانة
في مواقع القرار وممارسة السلطة والتحكم بمشاريع التنمية.
أليس الأجدر بالسلطة السياسية العليا ان تعزل هذه البطانة
وتستبدلها ببطانة أكثر نزاهة؟ أم ان السلطة نفسها تشترك
مع البطانة في تحمل المسؤولية وصنع القرار؟
لقد هربت السلطة السياسية العليا في السعودية من مسؤوليتها،
فهي تعتبر اي نجاح انجازا لها، وأي فشل يعود الى البطانة
وسوء تدبيرها. هذه الازدواجية تظهر مع كل أزمة، ولكنها
تفشل في استيعاب الاستياء من تردي الوضع البيئي وخاصة
في المدن التي تتعرض تكرارا للجرف بمياه السيول. هذه الازدواجية
هي أقرب ما تكون الى المنطق الطفولي الذي يحاول التملص
من المسؤولية عند كل زلة، والقاء اللوم على الآخرين، مع
الاحتفاظ بحق التمجيد عند كل نصر وانجاز. هذا المنطق الطفولي
لا يهيمن فقط في مجال التعاطي مع الكوارث الطبيعية، بل
اصبح الركيزة المتبعة في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية
والتربوية والصحية والاقتصادية، حيث تتملص السلطة المسؤولة
من المحاسبة، وتسقط أي فشل على البطانة الفاسدة.. وكأن
هذه البطانة قد جاءت من السماء لتحكم وتعيث في الأرض فسادا
دون حسيب أو رقيب.
لقد أصبح هذا المبدأ مبدأ أساسيا تتعاطى معه الصحافة
السعودية يوميا على صفحاتها تحت مظلة حرية الصحافة الجديدة
التي تتباهى بها السلطة، وبينما تبقى الرؤوس الكبيرة دون
حساب وغير خاضعة للنقاش، ينهمك المجتمع في قراءة ملفات
صغيرة تستعرض زلات البطانة الصغيرة وتقصيراتها الكبيرة،
وتتسابق في نقل هذه الزلات واخبارها مما أدى الى تحول
صفحات الجرائد الى قواميس للفضائح: منها تزوير الشهادات
الطبية والعلمية، وسرقات المال العام، وتدني مستوى المباني
المخصصة للمدارس والتعليم، وغير ذلك من مشاغل قد ألهت
الجمهور عن المعضلة الأساسية، وهي غياب مؤسسات المحاسبة
المستقلة، وشفافية وزارات صناعة القرار.
ويعتقد البعض ان كثافة قصص التقصير المستهلكة إعلاميا
قادرة على امتصاص اهتمام المجتمع بالصورة الكبرى، وقد
تنفع عملية اللهو في المدى القصير، إلا انها غير قادرة
على استيعاب جملة من الاسئلة التي تدور في ذهن المجتمع،
الذي يراقب ويعيش مع أزماته بصمت حتى هذه اللحظة. وقد
يصحو المجتمع من حالة الانبهار بالتنمية المرئية، ويستفيق
من بهرجتها، عندما يكتشف هزليتها وهشاشة مبادئها التي
قامت عليها، وعندما تطفو ممتلكاته على سطح المستنقعات
في مدن صحراوية.
من اجل هذه الصحوة، يحتاج المجتمع ان يتخلص من الفكر
الخرافي ونظيره المتعلق بالبطانة، كي يتحرر من القيود
الذهنية التي تكرس الغشاوة على عينيه، وتمنعه من تسمية
الامور بأسمائها الحقيقية، وان لم يجد المنابر مفتوحة
أمام نظرة جديدة.. الا انه قد يلجأ الى منابر اخرى تكون
اكثر مصداقية وقدرة على التعبير عن ذهنية جديدة؛ وقد وجد
البعض في الفضاء الالكتروني وسيلة جادة للتعبير دون قيود
السلطات الرسمية، حيث رسم هؤلاء صورة واقعية وحقيقية عن
التقصير الرسمي في مواجهة كوارث بسيطة اذا قارناها بما
تتعرض له مناطق اخرى في العالم. حيث يظهر جليا ان تداعيات
أي كارثة والخراب الذي تسببه يرتبط ارتباطا وثيقا بقدرة
اجهزة الدولة على استيعاب الأزمات.
وكلما كانت اجهزة الدولة خاضعة للمحاسبة، كلما كانت
قدرتها أقوى على تخفيف حدة تداعيات الكوارث، طبيعية كانت
أو من صنع البشر. وان كان لنا عبرة في قدرة الولايات المتحدة
على استيعاب أزمة بحيرة النفط المتسرب في خليج المكسيك،
حيث تحاسب الشركة المسؤولة وتتحمل تكاليف عملية الاحتواء
والتنظيف، فيجب ان نتعلم دروسا في فن احترام الانسان ومصدر
عيشه. ولكن مع الاسف يظل الأمن البشري في آخر سلم الاولويات
في دول تعتبر التنمية هبة تقدم للمجتمع، مقابل الولاء
المطلق، وتظل زلاتها أو فشلها خارج اطار النقاش والمحاسبة.
وان استطعنا ان نتمدد افقيا وعموديا في مدن نفتخر بتنميتها،
الا ان الطبيعة ومتغيراتها ستضغط على مشاريع حالية ومستقبلية
وتعري المبدأ الذي قامت من أجله.
ولن يسعفنا للحظة ضعف خطاب الخرافة أو البطانة، لأن
الكارثة ستكون أكبر بكثير حينما تودي بأرواح بريئة. عندها
ستكون المحاسبة حتمية لن تتهرب منها السلطة مهما استطاعت
حاليا ان تتملص من مسؤولياتها.
عن القدس العربي، 10/5/2010
|