|
محمد بن علي المحمود |
الإنسان الغائب.. تراتبية القيم
محمد بن علي المحـمـود
تُهيمن الرؤى التقليدية (الخطاب التقليدي) على مساحات
شاسعة، تتمدد على مساحات من الجغرافيا الواسعة التي تؤكد
حقيقة الهيمنة على المساحات نفسها من الوعي. الهيمنة في
الغالب هي للرؤى التقليدية، وليست للإسلام المشتعل برؤى
التنوير، ليست لهذا الإسلام الذي لا يزال للأسف بعيدا
عن مجالات التأثير، ولا يمتلك إلا القليل من القدرة على
النفاذ إلى الوعي الإسلامي العام الذي لا تزال تطحنه رؤى
التخلف والتعصب ومقولات الخرافة منذ ألف عام.
هذه الهيمنة، وبصرف النظر عن ملابساتها النظرية والتطبيقية،
هي التي تصوغ السلوك الإسلامي العام؛ على اختلاف بين الأقطار
الإسلامية في مدى تفردها بهذا النفوذ. لكنها تبقى هي الأشد
تأثيرا في المجتمعات المحافظة ذات المنزع التقليدي، بل
ربما تكون هي المؤثر الوحيد ذا الفاعلية الحقيقية، وما
سواها لا يعدو كونه مجرد اعتراضات هامشية، تؤكد هيمنة
المتن التقليدي وتفرده بكل منافذ التأثير. وهذا يعني أن
كل السلوكيات، سواء كانت إيجابية أو سلبية، وخاصة تلك
السلوكيات التي تقع في ميدان اهتمام التوجهات الروحية،
هي من مسؤولية الخطاب التقليدي الذي إن حاز باعترافه شرف
منصب: المُؤثّر الأكبر، فلا بد أن يتحمل الوجه الآخر من
المعادلة، أي كونه: المسؤول الأكبر عن الأفعال التي يُشرعنها
صراحة، أو تلك التي يشرعنها ضمنا بالسكوت عنها أو بمنحها
مجرد هامش صغير من الاهتمام.
هامشية البُعد الإنساني في الخطاب التقليدي الديني،
واضحة وجلية للعيان. بل الأمر أكبر، إذ إن ما يحدث داخل
المنظومة التقليدية هو عملية تشريع لهذا التهميش عن طريق
طرح أنواع من التمايز والتمييز بين بني الإنسان. وهو طرح
يبدأ من مجرد التمايز، فالتمييز في المعاملة، إلى أن ينتهي
بضرورة تعمد الكراهية والعداء؛ فالتقليدية تطرح المسألة
الإيمانية في الإسلام بوصفها مسألة لا تكتمل إلا بكراهية
المختلف لمجرد الاختلاف الديني أو المذهبي. أي أن الأصل
لديها: هو أن يكون (الإنسان) مكروها، ولا ينقذه من هذه
الكراهية المشرعنة إلا أن يتنازل عن كل خياراته الدينية
والمذهبية بل والفكرية؛ ليتطابق تماما معها. وإذا لم يفعل
ذلك؛ فإنه سيبقى مكروها بمُوجب فرمان ديني عقدي، تُصدره
التقليدية وتُلزم به أتباعها البؤساء؛ الذين يتحولون إلى
كارهين، ومن ثم إلى مكروهين يتساءلون: لماذا يكرهنا كل
الناس؟
إذن، وفق هذه الرؤية التقليدية، لا يكتمل التّدين،
بل لا يتحقق الدين، إلا بكراهية (الإنسان)؛ مهما كان هذا
(الإنسان) طيبا ومُصلحا ومحبا للناس. وهكذا تُصبح الكراهية
هي الأصل في التعاطي مع كل المختلفين لمجرد اختلافهم.
الكراهية وفق منظور هذا الوعي التقليدي المشحون بلهيب
العداوة والبغضاء تصبح دينا، والتقليديون لجهلهم، ولغبائهم
المستحكم بفعل التقليد، لا يدركون أنهم بهذا يمنحون أعداء
الإسلام فرصة أن يصفوا الإسلام بـ: دين الكراهية؛ مستشهدين
بمقولات التقليديين التي تجعل من الكراهية (كراهية غير
المسلم وغير التقليدي) شرطا للإيمان.
لم تكن هذه المقولات التقليدية التي تقتات على مخزون
هائل من الكراهية مجرد مقولات تنظيرية بعيدة عن الواقع،
بل على العكس، كانت ولا تزال، وبفعل هيمنة الخطاب التقليدي،
هي التي تتحكم في تفاصيل السلوك العام، بعد أن هيمنت على
مجمل التصورات الذهنية التي تحدد طبيعة العلاقة مع الناس
والأشياء. ولهذا رأينا الإنسان هامشيا في كل المساحات
التي تخضع للنفوذ التقليدي، أقصد الإنسان المجرد من أي
صفة إضافية تشفع له، وتحجب عنه سياط الكراهية؛ حيث تُهيمن
التقليدية، ولا كرامة للإنسان ولا حقوق؛ ما لم يمتلك صفة
أخرى، صفة تُضاف إلى كونه إنسانا. أي أن الصفة الإضافية
تصبح في الخطاب التقليدي هي الأساس، هي المتن، هي التي
تحدد طريقة التعامل معه، بينما الصفة الأساس ( الإنسان)
هي الطارئ والهامشي.
إذا أدركنا هذا، استطعنا فهم سر غياب المسلمين عن الفعاليات
الإنسانية الصريحة في إنسانيتها، كإغاثة وإعانة ضحايا
الكوارث والحروب. إن كل الهيئات الإسلامية لا تنهض لإغاثة
الإنسان ما لم يكن مسلما، وأحيانا ما لم يكن مسلما تقليدا،
أي لا تغيثه لمجرد كونه إنسانا، وإنما فقط لأنه مسلم.
بينما نجد هيئات الإغاثة العالمية المنتمية لحضارة الإنسان
ومعظمها مسيحية تساعد جميع المنكوبين بصرف النظر عن الملل
والنحل؛ لأنها تدرك أنها تغيث إنسانا كامل الإنسانية؛
لا مجرد وسيط مادي لحمل الأفكار وإشاعة الإيديولوجيا الخاصة،
بحيث تتحدد قيمته بها.
ومع وحشية هذا السلوك، فنحن لا نقف عند هذا الحد؛ لأن
سيكيولوجية الموقف من الآخر لابد أن تأخذ أقصى آمادها
وتتشظى في كل الاتجاهات؛ فالذي يكره الإنسان الآخر ويحتقره
ويلغي إنسانيته لمجرد الاختلاف الديني؛ فسيكره الإنسان
الآخر ويحتقره ويلغي إنسانيته لمجرد الاختلاف المذهبي،
وهو سيفعل الشيء نفسه مع الآخر المختلف جنسيا ( المرأة)
والآخر المختلف عرقيا (غير العربي) والآخر المختلف وطنيا
( غير المواطن) والآخر المختلف اجتماعيا ( الأدنى مكانة
اجتماعية كما يتصور، من موظفين ليسوا في منزلته أو عمال
أو خدم.. إلخ) والآخر المختلف عُمريا (الأطفال). وهكذا،
يُصبح المجتمع ماكينة إلغاء واضطهاد واحتقار لأي مختلف
لا يملك من النفوذ أو قوة القوانين ما يحميه من هذا الإلغاء
المعنوي الذي يقود إلى إلغاء مادي؛ لتكتمل حلقات سحق ومحو
الإنسان.
إن غياب الإنسان كقيمة في الخطاب التقليدي الديني،
وعدم ظهوره بالدرجة الكافية في الخطاب التقدمي بكافة أطيافه؛
جعلا الإنسان مُهمّشا لدينا على مستوى الفكر، ومن ثَمَّ
على مستوى الواقع. ربما يكون تهميش المرأة كإنسان، ومأساة
العمال والخدم، هما الصور الأبرز والأوضح في واقعنا. وهي
مآس مع وضوحها وضخامتها (خاصة وضع العاملات في المنازل
= الخادمات) لا يزال خطابنا يتجاهلها عن عمد، ويقدم عليها
كثيرا من القضايا ذات البعد الترفي، أو التي هي من فروع
الفروع من الدين.
لكن، وبما أن قضية المرأة تحتاج لعدة مقالات متخصصة؛
لتشعب إشكالياتها، فضلا عن كونها موضع نقاش لا ينتهي،
فإن الإشارة هنا تتحدد في: مأساة العُمّال، وعلى الأخص:
الخادمات في المنازل. ربما يستطيع العامل الخروج من إطار
عمله والتغلب على وضعه المأسوي إن وجد، كما أنه وبوصفه
رجلا يستطيع اكتشاف الفضاء المفتوح، ومعرفة كيفية الوصول
إلى استرداد الحقوق المسلوبة. لكن الأسوأ هو ما تلاقيه
الخادمات في المنازل من حصار واقعي ونفسي، ومن سوء معاملة،
تبدأ بعدم المخاطبة بالاسم، وبرفع ساعات العمل إلى أكثر
من عشر ساعات، بل وربما تجاوزت عند بعض المتوحشين خمس
عشرة ساعة، إلى أن تصل إلى الاعتداء اللفظي بأنواعه، وإلى
التكليف بأعمال شاقة لا تتناسب مع طبيعة العمل الأصلي،
بل وربما وصل الأمر إلى الاعتداء البدني، وتأخير دفع الأجور...إلخ،
فضلا عن بعض السلوكيات التي لا يراها بعضنا خرقا لحقوق
الإنسان ولا امتهانا لكرامته؛ لمجرد أنه اعتادها في تعامله
مع الآخرين.
إن المأساة ليست محدودة ولا عابرة، ولا يجوز أن تبعد
عن دائرة الضوء؛ لمجرد أن ضحاياها ليسوا في دائرة الضوء.
إننا إذا عرفنا أن عدد الخادمات لدينا بالملايين، عرفنا
حجم المأساة الإنسانية التي تنتظر منا الكثير، خاصة ممن
يزعم أنه ينتمي إلى خطاب ديني ذي أبعاد إنسانية، تهتم
بالإنسان بصرف النظر عن أي انتماء.
لابد من حلول. والحل الأولي لن يكون بسَنّ قوانين رادعة؛
رغم أهمية ذلك، بل بتغيير تراتبية القيم في الوعي. لابد
أن تكون قيمة الإنسان تتحدد بمدى إنسانيته، وأن يكون معيار
سقوطه هو: انتهاكه لحقوق الإنسان. لن تنتهي المأساة؛ ما
دامت مسألة هامشية: كالحجاب مثلا، تحظى من رموز الوعظ
الديني بأهمية تتعدى مسألة الظلم الواقع على العاملات
في المنازل. إن رفع الظلم وخاصة عن الضعفاء، والتصدي لكل
اعتداء على حقوق من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لابد أن
يأخذ مكانه الحقيقي كما في نصوص الوحي الأولى، النصوص
التي رافق فيها تقرير وحدانية الله، تقرير حقوق اليتيم
والمسكين والضعيف. هناك مأساة في الخطاب تجسدت مأساة في
الواقع. ولإدراك ذلك، تأمل حجم الخطب والمواعظ والمحاضرات
التي تُحدّد للمرأة تفاصيل ملابسها، مقارنة بالتي تُحدّد
للمرأة نفسها كيفية التعامل الإنساني مع خادمتها، وسترى
الفرق الهائل في الخطاب، وهو الذي يرسم حدود المأساة في
الواقع.
التراتبية الموجودة الآن ليست هي التي في صريح الإسلام.
في الإسلام، امرأة دخلت النار في (هرة حبستها)، أي أنها
امرأة كانت تستحق الجنة المشروطة برضوان الله، ولكنها
بسبب حبسها لحيوان ذي روح، وتسببها في موته، دخلت النار.
في المقابل يطرح الإسلام قصة أخرى: امرأة بَغيّ (عاهرة)
أنقذت كلبا من العطش بشربة ماء فدخلت الجنة. ومقارنة عابرة
بين ما جرى للمرأتين، تُظهر لنا البعد الإنساني للإسلام،
وأن الأولوية فيه للروح الإنسانية التي ترحم الضعفاء،
هذه الروح التي لم تشفع فقط لامرأة لم تضع الحجاب، أو
حتى لامرأة متبرجة أو مُتعرية، وإنما شفعت لامرأة كانت
تمتهن البغاء. وهذا يدل على تراتبية أخلاقية عالية في
الإسلام، لا يزال خطابنا التقليدي يتنكر لها بكل إصرار.
عندما نتأمل حال المرأتين في المثال السابق، نتساءل:
هل يطرح الخطاب التقليدي المسألة الإنسانية وفق هذه التراتبية،
وهل الوعي العام الذي صاغه هذا الخطاب يؤمن بهذه التراتبية
الإنسانية الإسلامية ؟. الجواب في تقديري يتضح بطرح مثالين
لامرأتين مسلمتين من واقعنا: الأولى، امرأة محافظة جدا،
وتلتزم بكل تفاصيل ما يمليه عليها الخطاب التقليدي في
اللباس، وتشارك في الجهود الدعوية، ولكنها تُجبر خادمتها
على العمل خمس عشرة ساعة وربما أكثر. والثانية: امرأة
تمتهن التمثيل، وتقع في تبرج أو تجاوز شكلي، وهي أخطاء
(أخطاء لا خطايا) بلا شك، ولكنها في الوقت نفسه تعامل
خادمتها بإنسانية عالية، ولا تلزمها بأكثر من ساعات العمل
المحددة نظاما. وهنا يأتي السؤال: أيٌّ من المرأتين يراها
المجتمع المتدين ملتزمة أكثر من الأخرى بتعاليم الإسلام،
أيهما أكثر إسلامية في نظر المجتمع ؟. طبعا، كلنا يعرف
الجواب، والجواب هو ما سيحدد حقيقة تراتبية القيم لدينا،
والتي هي للأسف تراتبية لا تعكس تراتبية الإسلام، وإنما
تعكس حقيقة غياب الإنسان عن الوعي العام.
|