|
د. مضاوي الرشيد |
الإنعزالية السعودية موضع التطبيق
السعودية تترفّع عن لعب الأدوار في المنطقة
د. مضاوي الرشيد
في زيارة رسمية لمملكة النرويج، صرّح الأمير سلمان
بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، أن بلاده لا تبحث عن
دور تلعبه في مناطق ملتهبة كأفغانستان، بل أن الأدوار
تلاحقها. ومن منطلق متواضع لا غرور فيه ـ حسب تعليقه على
أسئلة الصحافيين ـ يبدو أن السعودية باعتراف أميرها قد
قررت فتح صفحة جديدة في ملف علاقاتها بالعالم، وتكريس
مبدأ الإنشغال بالهمّ الداخلي. وبعيداً عن مبدأ الغرور
أو التواضع، ربما جاء هذا الإعتراف كنتيجة حتميّة لحالة
الفشل التي وصلت اليها الأدوار السابقة والمبادرات القديمة
في مناطق مختلفة من العالم العربي والاسلامي، حيث اصطدمت
المبادرات السعودية بمعطيات محلية وعالمية أدّت الى تراجع
الدور السعودي.
هناك ثلاثة محاور للتراجع السعودي: أولها محور فلسطين؛
وثانيها: محور العراق؛ وثالثها: محور افغانستان. على الجبهة
الفلسطينية، أثبتت السعودية تراجعها، ليس فقط في دفع عملية
التسوية وانهاء الصراع القديم المتجدد، بل على المستويات
كافة وبينها إغاثة غزة وفك الحصار عنها. فمنذ الحرب الاسرائيلية
على غزة، نجد أن عمليات الإغاثة أصبحت تدار من قبل أطراف
أخرى كقطر وتركيا ومؤسسات المجتمع المدني العربي والاوروبي
والعالمي، في حين تكتفي السعودية بنشر إحصاءات المساعدات،
دون أن يكون لها دور ولو رمزي في أخذ المبادرة، أو حتى
المطالبة الجدية بفك الحصار في المحافل الدولية والعربية
والاسلامية.
لقد خرجت السعودية من الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني
دون تطبيع رسمي مع اسرائيل، تماماً كما خرجت منه أنظمة
عربية معروفة، وقّعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل. بل إن
السعودية تجاوزت ذلك حينما حرمت على المجتمع السعودي التظاهرات
او الحراك الشعبي لمناصرة المحاصرين في غزة. وزجّت بالداعين
لوقفة ولو رمزية ضد العدوان الاسرائيلي في السجون.
واذا كانت السعودية لا تبحث عن دور فهي بالفعل تلعب
دوراً مهما في عزل مجتمعها عن قضية تعتبر من اهم القضايا
التي شغلت العالم العربي. وإذا كان السلام بعيد المنال
في ظل الوضع العربي الحالي المتسم بالتشرذم والصمت واللامبالاة،
فإن نصرة رمزية أو مساندة معنوية أو حتى زورق مساعدات
قد يحسب تفاعلاً ايجابيا مع مسألة الحصار الحالية المضروبة
على أكثر من مليون فلسطيني.
الصمت السعودي الحالي ما هو الا عملية استئصالية للضمير
السعودي الشعبي، الذي كان منذ اكثر من ستين عاما يتحرك
باتجاه التفاعل مع قضية سياسية لها ابعاد انسانية حركت
ضمائر الكثيرين في العالم، حتى أولئك الذين لا تربطهم
بالمنطقة أي مشتركات تاريخية او دينية او حضارية. ان السعودية
اليوم وان كانت لا تبحث عن دور، الا انها تلعب أكبر دور
في استمرارية حالة الصمت واللامبالاة المنتشرة في العالمين
العربي والاسلامي على مستوى الأنظمة. وهي بذلك وبطريقة
غير مباشرة تعطي لمنتهكي حدود غزة والمتلاعبين بأمنها
الضوء الاخضر للتمادي في انتهاكاتهم، خاصة وان اكبر دولة
نفطية فضلت التنحي عن دورها بل فرضت هذا التنحي على شعبها
عن طريق القمع والتصدي لأي محاولة تضامنية قد يفكر بها
المجتمع السعودي.
أما في العراق، فقد اثبت الدور السعودي مدى تذبذبه
منذ ان قرعت طبول الإحتلال. وفي أيامها الأولى تأرجحت
السعودية في مواقفها فبدت لحظة مؤيدة للاحتلال ولحظة اخرى
ممتنعة عن التصريح بموقف واضح وصريح، متخفية وراء قرارات
الامم المتحدة. ولكنها بالفعل لعبت دورا هاما رغم التذبذب
والتأرجح عام 2003. وبعد ذلك بدأت تذرف الدموع على التغيرات
التي حصلت في العراق والتي قوت مركزية دولة الجوار الإيرانية.
وخلال المعارك الطائفية التي دارت بعد الاحتلال، لم تستطع
السعودية لعب أي دور يذكر يقود الى التهدئة، بل انها وقفت
موقف المراقب لحروب طائفية استطاعت الآلة الاعلامية والدينية
السعودية ان تؤججها بدل أن تخمد نيرانها.
ورغم مؤتمرات مكة، والرحلات المكوكية الى الرياض، فشلت
المبادرات السعودية في التعاطي مع الشأن العراقي الا من
باب الحفاظ على أمنها الداخلي، وربما تصدير الفائض البشري
المحتقن في الداخل السعودي الى العراق، وتوقيع اتفاقيات
تعزل الحدود السعودية وتضمن عدم تسرب مشاكل دول الجوار
الى الداخل السعودي. الا ان التسرب من السعودية الى خارجها
ظل مفتوحا رغم كل التعهدات التي قطعها النظام على نفسه،
وقدمها للولايات المتحدة كضمان للأمن العراقي تحت المظلّة
الامريكية.
أما في افغانستان، فليس من الدقة الجزم ان السعودية
لم تبحث عن دور فيها، اذ انها منذ الثمانينات دخلت بقوتها
الاقتصادية والبشرية خلف المشروع الامريكي في المراحل
الاخيرة من الحرب الباردة. وسخرت المبالغ الطائلة لدعم
الاستراتيجية الامريكية دون التنبه الى تبعاتها ليس فقط
عالميا بل على صعيد الداخل السعودي. وبعد الاحتلال الامريكي
لافغانستان ظلت السعودية تطلق الشعارات الكبيرة وتحتضن
الزيارات والمؤتمرات الهادفة الى تخليص الولايات المتحدة
من ورطتها الافغانية المستعصية، فتارة تتصدر مشاريع المصالحة
مع طالبان واشراكها في العملية السياسية، وتارة تستقبل
الشخصيات الافغانية في الرياض من اجل الوصول الى حل للازمة.
فان كانت السعودية بالفعل لا تبحث عن دور معين، بل ان
الأدوار تأتيها من الخارج، وربما تحت ضغوط أمريكية، لا
بد لنا ان نتساءل لماذا تنجرف السعودية خلف هذه الضغوط
وتنخرط في مفاوضات هنا وهناك، وهي تعلم ان منطقها يختصر
في انها لا تبحث عن دور. وهل السعودية لا تستطيع ان تقاوم
اولئك الذين يزجون بها في أدوار لم تكن يوما ما تفكر بها؟
التصريح الأخير لسلمان في النرويج يأتي ربما بمثابة
طي صفحة الأدوار السابقة المتشعبة، وبدء حقبة جديدة تحت
عنوان: الانعزالية السعودية التي تأتي بعد ان زجت السعودية
بنفسها خلف استراتيجيات الولايات المتحدة. وتبدو المعطيات
على ارض الواقع السعودي غير مؤهلة للاتجاه في هذا السياق
الجديد. فطالما ظلت السعودية تتمتع بفائض نفطي ومدخول
كبير، فسيستمر الاعتماد عليها في مخططات مستقبلية، ليس
فقط في العالم العربي بل الاسلامي أجمع. ولن تؤدي هذه
المخططات بالضرورة الى انفراج في القضايا العالقة، بل
ستستغل هذه الثروة في تمرير مشاريع سلبية تعود نتائجها
بخيبة أمل في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان.
وحتى لو تبنّت السعودية سياسة عدم البحث عن الأدوار،
فستجد الادارة الامريكية لها أدواراً جديدة تستثمر السعودية
فيها الفائض النفطي. ولن تكون للسعودية قدرة على التملص
من هذه الادوار لانها تفقد القدرة على تثبيت استقلالية
قرارها، وهي مرهونة أمنيا للولايات المتحدة الضامنة لاستقرارها.
إن بحثت السعودية عن دور أو لم تبحث، فستأتيها الأدوار
المطلوبة من الخارج، وستنفذ هذه الأدوار حسب استراتيجية
الغير، دون أن تكون لها القدرة على التنصّل منها. وبالفعل
يعتبر تصريح الأمير سلمان إقراراً واضحاً وصريحاً بأن
الادوار تبحث عن السعودية، لكنه لم يحدّد من هو الذي يزج
بالسعودية في أدوار تبدو بعض الأحيان مشبوهة. ولم يستشرف
مدى قدرة السعودية على التنصل منها ان كانت لا تصب في
مصلحة شعبها. فحتى هذه اللحظة وخلال نصف قرن لم تستطع
السعودية ان ترفض دورا نسجت سيناريوهاته في مراكز صنع
القرار البعيدة، ومعظمها اثبت انه لا يصب في مصلحة السعودية
القريبة والبعيدة المدى، ناهيك عن مصلحة الشعوب المنتفعة
من هذه الادوار.
ورغم مقولات المصالح المشتركة، الا ان السعودية اثبتت
فشلها حتى هذه اللحظة في الحصول على استقلالية تجاه مخططات
الغير وامنه القومي، والذي ليس بالضرورة هو أمن السعودية،
واستقرارها كدولة مستقلة تستطيع ان تحدد لنفسها الدور
الذي تريد القيام به ودعمه.
من حق أيّ دولة ذات طاقات اقتصادية كبيرة ان تحدد مصالحها
القومية، وأن تلعب الادوار التي تدعم هذه المصالح. ولا
بأس ان تتعاون الدول ذات المصالح المشتركة فيما بينها؛
ولكن هذا يظل مرهونا باستقلالية القرار. ومع الأسف لا
تزال السعودية بعيدة عن هذه الحالة الجوهرية لانها تدور
في فلك محدود، رغم كل المحاولات الجديدة وبناء الجسور
مع محاور عالمية بعيدة عن محور الولايات المتحدة، وترصد
هذه الاخيرة كل خطوة تقارب اقتصادية او تقنية، وكل عقد
وصفقة تبرمها السعودية مع لاعبين دوليين. ولكن في نهاية
المطاف تعلم الولايات المتحدة ان السعودية غير قادرة على
استبدال الحماية الامريكية بأخرى، وسيظل هذا الاعتماد
مصدر اطمئنان امريكي تستطيع بموجبه ان تفرض الادوار متى
شاءت، ولا بأس ان تشتري السعودية طائرة من هنا او هناك
او صاروخا جديدا او تقنية مبتكرة.. لكن في نهاية المطاف
يظل الأمن السعودي، او بالتحديد امن النظام ذاته، من اهم
المصالح المشتركة التي لا يمكن تجاوزها في الوقت الحالي.
القدس العربي، 31/5/2010
|