الدكتور غازي القصيبي: وجهة نظر معاكسة
عبد الباري عطوان
إختلف الكثيرون قطعا حول شخصية الدكتور غازي القصيبي
ومحطات حياته المتنوعة، وانتاجه الادبي والفكري الغزير،
ولكن ما يتفقون عليه هو كونه (ظاهرة)، او (بركانا)، يهدأ،
ويَغضب ويُغضب، يصالح ويخاصم، يصطدم وينحني، وفوق كل هذا
وذاك يتمتع بأعلى درجات الكياسة والادب وخفة الظل، ويحرص
على التواصل مع الخصوم والاصدقاء، ويتمسك بالتواضع كعنوان
وهوية.
اعترف بأنني لم أكن من أصدقاء الدكتور القصيبي، ولا
من المقربين منه، ولم اقابله وجها لوجه الا اثناء مرحلته
اللندنية، عندما جاء الى العاصمة البريطانية سفيرا لبلاده،
بعد (مصالحة) مع العاهل السعودي الملك فهد عبد العزيز،
اثر قطيعة طالت لسنوات عكستها قصيدته الشهيرة (رسالة المتنبي
الاخيرة الى سيف الدولة)، وانتقد فيها بقسوة بطانة السوء
التي باعدت بينهما.
المحطة اللندنية ربما كانت الاغنى والاغزر انتاجا في
حياة الدكتور القصيبي، فقد اصدر خلالها اهم كتبه، وخاض
اثناءها اهم معاركه واشرسها، وانهى حالة الرتابة التي
كانت تعيش في ظلها الدبلوماسية السعودية في لندن، بحيث
اصبحت لهذه الدبلوماسية نكهة ادبية وعلمية، وعنوان جديد
اسمه الانفتاح على الآخر، والتواصل معه من موقع الاختلاف.
وهذه سمة حضارية انقرضت من بعده. فقد اسس مركزا ثقافيا،
واستضاف كل شهر ندوة ادبية او علمية، حاضر وشارك فيها
نخبة من الادباء، كان من بينهم الاديب السوداني الكبير
الراحل الطيب صالح الذي كان يشاطر القصيبي هيامه بالمتنبي.
ومن المفارقة ان محاضرته التي القاها عن المتنبي بدعوة
من القصيبي، في المركز الاعلامي السعودي، كانت من اهم
محاضراته، لما اتسمت به من ثراء بحثي، واستخلاصات جديدة،
وفوق كل هذا وذاك خفة ظل فاجأت الكثيرين، وانا واحد منهم.
شهر رمضان المبارك كان إحدى محطات التواصل بين الدكتور
القصيبي والمؤسسات الاسلامية والعربية في بريطانيا، وصحيفتنا
(القدس العربي) احداها، رغم الخلاف السياسي الكبير بيننا،
خاصة حول (العراق(. فقد كان يرسل الينا ولآخرين كل عام
صندوقين من التمر (متوسط الجودة!) مع مطلع الشهر الفضيل،
مرفوقين بصندوقين آخرين من ماء زمزم في عبوات بلاستيكية،
ورسالة تهنئة باسمه الشخصي، وعلى ورقه الخاص، وليس ورق
السفارة الرسمي.
* * *
الأصول كانت تقتضي الرد، وتقديم الشكر لمرسل هذه الهدية،
وكان مضمونه كالتالي (الدكتور غازي القصيبي الموقر، وصلتني
(جعالتكم) السنوية من التمر وماء زمزم، ونشكركم جزيلا
على التفضل بارسالها، وكل عام وانتم بخير بمناسبة مقدم
الشهر الفضيل). وكنت احرص على ان اضع خطين تحت جملة (جعالتكم
من التمر)، حتى لا تقع الرسالة في يد احد المخبرين في
السفارة، أو خارجها، ويعتقد انها جعالة من المال.
في احدى المرات وصلتنا الهدية كالعادة في موعدها، وكانت
عبارة عن صندوقين من (التمر الخالص) ودون ماء زمزم. فكتبت
اليه محتجا، ومطالبا بمعرفة اسباب نقصانها وغياب الماء
الزمزمي منها، وتمنيت ان لا يكون النبع الطاهر قد جف.
فاتصل بي مهاتفا، طالبا (الستر) وقال إنه اوقف ارسال الماء
لنا وللآخرين، بعد ان راجت بعض الاقوال التي تفيد بأن
حكومة بلاده باتت تصدر ماء زمزم وتستفيد من مداخيله، ووعد
بأن يعوضنا في العام المقبل بصندوق تمر اضافي!
الدكتور القصيبي كان يحرص على دعوة معظم (الاعداء)
الذين يختلفون مع سياسة بلاده الى حفل السفارة السنوي
بالعيد الوطني السعودي، ولم يسبقه الى هذه السّنة الا
السفير الراحل ناصر المنقور، وكان رجلا وطنيا عروبيا شهما،
وكنت البي الدعوة مضطرا ومحرجا، وانا الذي اكتب مقالات
نارية انتقد فيها موقف المملكة من العراق وحصاره في ذلك
الوقت. وفي إحدى المرات وبينما كان واقفا على رأس مستقبلي
الضيوف، نادى على المصور بأعلى صوته، وطلب منه ان يلتقط
صورا عديدة لي وانا اصافحه، وقال مازحا: (ان هذا اثبات
على تسليم (الصك)! بالصوت والصورة وفي حضور شهود عدول)!
ولعل الواقعة التي لا أنساها، انه بادر بالاتصال بي
مبكرا في صباح احد الايام اللندنية المعتمة الباردة، فسألته
عما ايقظه في هذه الساعة المبكرة وهو من محبي السهر وقيام
الليل؟ فقال انها (الرياض) يا صاحبي. فسألت عن (الخطب
الكبير)، فقال إنه ما نشرته صحيفة (القدس العربي) هذا
الصباح، مستفسرا عن مدى دقة ذلك الخبر الذي تصدّر الصفحة
الاولى. واردف قائلا ان الصحيفة معروفة لديه بدقتها، ولكن
قد تكون جانبت الصواب هذه المرة.
الخبر كان عن اقامة السفير السعودي في امريكا الامير
بندر بن سلطان حفل عشاء لمجموعة من رجال الاعمال السعوديين
كانوا في زيارة عمل لواشنطن، وقد تحدث الامير بندر بصراحة
غير مسبوقة عن حال الشلل التي تعيشها المملكة في ذلك الوقت،
حيث كان رأس النظام (الملك فهد) مريضا، ونائبا رئيس الوزراء
اي الاميران عبدالله بن عبد العزيز (الملك حاليا)، والنائب
الثاني الامير سلطان بن عبد العزيز (والد بندر) متقدمين
في السن، والمملكة دولة كبيرة ومؤثرة تحتاج الى نائبين
شابين يديران شؤون الدولة، ويتعاطيان مع الملفات الاقليمية
والدولية، الى جانب الداخلية، بفاعلية ونشاط، الى جانب
انتقادات اخرى لا اريد تكرارها.
الدكتور القصيبي قال ان هناك انزعاجا شديدا من نشر
هذا الخبر، لان هناك عرفا (مقدسا) بين ابناء الاسرة الحاكمة
بعدم انتقاد بعضهم البعض في العلن، ولذلك من غير الممكن
ان يصدر مثل هذا الكلام عن الامير بندر.
اكدت للدكتور القصيبي ان الخبر صحيح، وان مصدره لا
يخطئ مطلقا، فسألني عما اذا كان من الممكن نشر تصحيح او
نفي من وزارة الاعلام اذا ما تقرر اصداره (كانت وزارة
الاعلام السعودية تسمى بوزارة النفي لان مهمتها الابرز
كانت نفي الاخبار الصحافية التي لا تروق للحكومة) ووعدته
بنشر التكذيب او التصحيح في المكان نفسه، وعلى صدر الصفحة
الاولى، فشعر بالارتياح.
النفي او التصحيح لم يصدرا، وعندما التقيت الدكتور
القصيبي في منزل صديق مشترك على دعوة للعشاء، بعد شهرين
تقريبا، سألته عن أسباب عدم صدور النفي، قال ان (الجماعة)
تأكدوا ان الخبر كان دقيقا، وقرروا طي هذه الصفحة. وعلمت
بعد ذلك ان السلطات السعودية ظلت تبحث وتنقب حتى عرفت
مصدر الخبر، ولا اعرف ماذا حدث له، وان كنت متأكدا انه
ما زال على قيد الحياة واموره المالية في تحسن متسارع.
* * *
المحطة الاهم في رحلة الدكتور القصيبي اللندنية في
نظري كانت عندما كتب قصيدة (الشهداء)، واشاد فيها بإعجاب
شديد بالشهيدة آيات الاخرس، التي فجرت نفسها في سوق في
القدس عام 2002 واسفرت عمليتها الاستشهادية تلك عن مقتل
ثلاثة من الاسرائيليين على ما اعتقد. فقد ثارت ثائرة اللوبي
اليهودي البريطاني ضده، وتعرض لحملة هجوم شرسة في عدد
من الصحف البريطانية طالبت بإبعاده عن منصبه بتهمة التحريض
على الارهاب.
وقفنا في هذه الصحيفة مع الدكتور القصيبي ودافعنا عنه
(وهذا اقل واجب) في برامج تلفزيونية، واذاعية في حينه،
ووصفنا الحرب ضده بأنها ابشع انواع الارهاب الفكري والسياسي،
علاوة على كونها محاولة لقمع حرية التعبير، ولقتل الرأي
الآخر، في بلد يدعي الديمقراطية ويتباهى باحترام الحريات.
كان مؤلما لنا، وربما للدكتور القصيبي ايضا، خضوع الحكومة
السعودية لحملات الابتزاز هذه، واقدامها على سحبه من موقعه
الذي احبه، و(اختراع) وزارة جديدة له (وزارة المياه) حتى
تخفي هذا الخضوع وتبرره، وتصور الامر على انه ترقية. ولعلها
كانت تريد تخفيف الضغوط عليها، خاصة ان هذه الحملة تزامنت
مع حملات اخرى ضدها بسبب احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)
ومشاركة 15 مواطنا سعوديا في الهجمات على مركز التجارة
الدولي في نيويورك، والله اعلم.
الرسائل الشخصية لم تنقطع بيني وبين الدكتور القصيبي
حتى توليه وزارة العمل، وتضاعف مشاغله واعبائه بعد ان
اصبح كبير المستشارين للعاهل السعودي، واقتصرت العلاقة
على (سلامات) متبادلة يحملها اصدقاء، الى ان جاء احدهم
ليبلغني ان الدكتور القصيبي سئل ذات مرة من صحافي (ملقوف)
اثناء حضوره مجلساً ضم الكثير من الوزراء الحاليين والسابقين
واعضاء مجلس شورى وكتاب ومثقفين، عن الشيء الذي يفتقده
بعد مغادرته لندن، فأجاب صحيفة (القدس العربي).
لم استغرب هذه الاجابة الجريئة العفوية من شخص مثل
الدكتور القصيبي، كما انني لا استغرب مواقف كثيرة اخرى
لا يسمح الظرف بذكرها حاليا، فالجعبة مليئة، و(المجالس
أمانات).
رحم الله الدكتور الموسوعة غازي القصيبي.
عن: القدس العربي، 15/8/2010
|