السعودية: قرار تقنين الإفتاء بين الترحيب والترهيب
حبيب طرابلسي
بعد مرور أقل من 48 ساعة عن صدور القرار الملكي بحصر
الإفتاء في هيئة كبار العلماء، والذي لاقى ترحيبا واسعا
في المملكة العربية السعودية و خارجها، باعتباره "خطوة
في الاتجاه الصحيح لمواجهة فوضى الفتاوى"، كما وصف على
نطاق واسع، بدأت تبرز بعض التساؤلات والتحفظات والتخوفات
والتحذيرات من "تسييس الفتوى واحتكارها"، و "تمرير الكثير
من الأهداف بغطاء ديني رسمي".
ما قبل القرار
ما من شك في أن القرار الملكي جاء ليضع حداً لتصاعد
وتيرة الفتاوى العشوائية التي تحرم الحلال و تحلل الحرام
وتسيء إلى الدين و الوطن، حتى طفح الكيل.
وقد حذر عشرات الكتاب و المثقفين من هذا الإدمان على
الفتاوى الشاذة ومن التباين في الإفتاء بين الفقهاء. ولخص
الدكتور علي الموسى في صحيفة "الوطن" المشهد بقوله أن
"الخطاب الديني بدأ يأكل نفسه".
وكان لا بد لمجلس الشورى أن يحذر قبل حوالي شهر من
"الإساءة للإسلام والمساس بالوحدة الوطنية" و يوصي بوضع
ضوابط لتوحيد الفتوى، بحيث تكون تحت إشراف مؤسسة الإفتاء
الرسمية. وأوصى كذلك بمحاسبة من يتسرع ويعطي أحكاماً وهو
غير أهل للفتوى.
و بعد ذلك بأيام، شكلت هيئة كبار العلماء لجنة تنظم
الفتوى، برئاسة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، ، كما ذكرت
"عكاظ". وكان الشيخ اللحيدان قد أعفي في فبراير 2008 من
منصبه كرئيس لمجلس القضاء الأعلى. وكان الشيخ اللحيدان
قد أصدر سابقا فتوى تتضمن دعوة غير مباشرة لقتل أصحاب
قنوات التلفزيون التي "تبث الفساد والفسق وتثير الفتنة
بين المسلمين".
كما رفعت هيئة كبار العلماء أسماء 12 مفتياً ليتم توزيعهم
جغرافيا على مناطق المملكة فيكونوا تمثيلاً للفتوى بالنيابة
عن الجهة الرسمية لها في المملكة. وتصدرت القائمة أسماء
الشيخ عبد الله التويجري، وخلف المطلق وعبد الله بن عبد
العزيز الجبرين.
"إغلاق بازار الفتاوى!"
فجاء الأمر الملكي "الصريح و الواضح وضوح الشمس في
رابعة النهار"، كما وصفه علماء أزهريون في مصر، كمثابة
طوق النجاة. و رحب به عدد غفير من العلماء في المملكة
و مصر و الكويت و الأردن و غيرها من الدول العربية واعتبروه
إجراءً حكيماً وتطبيقاً صريحاً لما جاء في القرآن الكريم.
و من بين ردود الفعل المؤيدة بشدة، ما جاء على لسان
مفتي مصر، الدكتور علي جمعة، الذي طالب الدول العربية
والإسلامية بوضع ميثاق موحد يتضمن الضوابط والمعايير الشرعية
والعلمية للإفتاء، وإنشاء هيئة إسلامية عالمية لبحث شؤون
الإفتاء خدمة لقضايا الأمة المعاصرة والنهوض بمجال الدعوة
الإسلامية.
ونقلت الصحف السعودية تصريحات لعلماء مصرين يطالبون
بتطبيق الإجراء نفسه في مصر، بحيث يقتصر الإفتاء على دار
الإفتاء المصرية ومجمع البحوث الإسلامية.
أما الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين، فصرح لـ"المدينة" أن "خادم الحرمين الشريفين
سنّ سنّة حسنة يجب أن تتبعها كلّ الدول الإسلامية"، و
أضاف بأن "التسيب في الفتوى أحدث بلبلة وتطاولا على الدين
من أعدائه وقد آن الأوان ليكون الإسلام واضحًا للجميع
وأحكامه أكثر وضوحا من خلال علماء الأمة الثقاة وأهل العلم
الموثوق بهم".
وبالطبع، تنافس العديد من الكتاب في تخليد هذا القرار
الذي، كما كتب محمد صادق دياب، في "الشرق الأوسط"، تحت
عنوان "إغلاق بازار الفتاوى!"، "جاء ليخرجنا من النفق
المظلم والمربك والكئيب الذي أدخلتنا إليه فوضى الفتاوى،
ولإنقاذنا من أن نكون مصدر دهشة وتندر العالم من حولنا،
فهذا القرار أعاد الأمور إلى نصابها، وأسند الأمور إلى
أهلها، وأرجع للفتوى اعتبارها".
أصوات خارج السرب
في المقابل، تعالت أصوات، بعضها متسائلة و مناصحة،
و بعضها متشككة ومشككة، و بعضها منتقدة ورافضة.
فهذا الشيخ محسن العواجي، عضو مؤسس الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين وعضو في المؤتمر القومي الإسلامي، يطرح
سيلا من التساؤلات على الهواء مباشرة على قناة "الجزيرة"
القطرية، قبل أن يشير إلى "الحل الأمثل للأزمة الفكرية
الموجودة على الساحة السعودية، وهو عدم حصر الفتوى ولكن
إيقاف العابثين فيها وهم قلة. و هذا يأتي من أن يكون هناك
هيئة مستقلة من أناس معروفون بمؤهلاتهم العلمية، لا أن
تكون بقرار سياسي".
ويضيف الشيخ العواجي، وهو من أبرز الدعاة السعوديين
و كان قد اعتقل عدة مرات بسبب نشاطاته السياسية: "وإلا
توجه المسلمون إلى هيئات علمية مستقلة، كالاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين و منظمة العلماء المسلمين أو، و هذا هو
الأسوأ، أن يتوجهوا إلى الفتاوى السرية في الدهاليز السرية،
و منها فتاوى الإرهاب".
وبدوره، توقع منصور النقيدان، الباحث السعودي المتخصص
فى تاريخ حركات الإسلام السياسي، "فشل" الأمر الملكي،
مبيناً أن الفقه السني يرفض كلام موظفي الحكومة.
وقال النقيدان لبي.بي.سي: "إن القرار هو محاولة لإنهاء
الخلافات العلنية بين رجال دين بينهم أئمة سابقين للحرم
المكي وعلماء دين بارزين حول قضايا عدة". وتوقع "فشل هذه
المبادرة نتيجة لطبيعة "الفقه السني الذي يرفض التراتبية
وحصر الإفتاء في أشخاص تعينهم الحكومة".
أما المعارض الدكتور سعد الفقيه، زعيم "الحركة الإسلامية
للإصلاح"، التي تتخذ من لندن مقراً لها، فقد كان أشد ضراوة
في موقفه ضد القرار الملكي، حيث قال في بيان على موقع
الحركة أنه "خروج على منهج أهل السنة ومرفوض حتى عند المذاهب
الأخرى"، معللا ذلك بأنه "لا يجوز عند أهل السنة لكائن
من كان أن يحصر الفتوى في فئة معينة أو أشخاص معينين،
ومن يقول بهذا القول يعد نفسه فورا مخالفا لمنهج أهل السنة".
وينتهي الدكتور الفقيه إلى القول بأن "هذا القرار اعتداء
على المنهج الشرعي السليم" وأن "حيثياته تشير إلى أن الهدف
الحقيقي هومنع البيانات التي تكتب من قبل بعض المشايخ،
والتي تشتمل على إحراج للدولة لأن فيها تحميل غير مباشر
للدولة مسؤولية ممارسات غير شرعية".
تخوفات من "نوايا خفية"
لقد حظي القرار الملكي بعدد قياسي من التعليقات على
شبكة النت في أغلبها مرحبة و مؤيدة.
لكن لم تخل هذه التعليقات من تساؤلات عن "النوايا الخفية"
للقرار، إذ تساءل أحدهم: "هل ستكون هيئة كبار العلماء
سيفا مسلطا على كل من يفتى بخلاف المزاج السياسي ؟ و هل
سيكون للهيئة حرية إبداء الرأي والأهم من ذلك الحرية بعد
إبداء الرأي ؟".
وأجاب آخر:" القرار واضح جداً في محاصرة كل من يحاول
أن يحذر الناس مما تخاذلت عنه المؤسسات الرسمية. نحن نمر
بمرحلة انتقالية حساسة وسيتم تمرير الكثير من الأهداف
بغطاء ديني رسمي".
وذهب قارئ إلى أبعد من ذلك، قائلا: "القرار واضح في
محاصرة كل من يحاول أن يحذر الناس مما تخاذلت عنه المؤسسات
الرسمية. فهو يحمل مضامين خطيرة جداً يقصد بها ضرب المحتسبين
من دعاة و خطباء بالمؤسسة الشرعية ... القرار سيشعل الحرب
بين العلماء".
عن: وطن، 15/8/2010
|