|
د. مضاوي الرشيد |
الضحك على المجتمع السعودي لا الضحك معه
كوميديا سعودية تسخر من المجتمع
د. مضاوي الرشيد
منذ بداية شهر رمضان تتكاثر المسلسلات التلفزيونية
الكوميدية على شاشات الفضائيات السعودية، منها القديم
ومنها الجديد الذي اتخذ من المجتمع السعودي مادته الدسمة
لينشر معاناة وتجارب اجتماعية مختلفة ومتنوعة ومواقف فكاهية.
لقد سلطت هذه المسلسلات الضوء على لحظات ومناسبات اجتماعية
حقيقية لكنها نقلتها من بيئتها ومجتمعها المحلي الى الفضاء
العربي الفسيح لتستعرض تراكمات وترسبات اصبحت سمة من سمات
المجتمع ومعاناته المختلفة وبعد عقود من حالة الصمت على
آفات اجتماعية نجد مشاكل المجتمع السعودي تحولت الى مادة
فكاهية يستمتع بها الكثيرون من اهل البلد وخارجه. لقد
أزاحت هذه الكوميديا الستار عن طريقة حياة ونمط معيشي
ومفاهيم ثقافية ودينية وعادات اجتماعية واختلافات مناطقية
ولغات محلية كذلك استعرضت هذه المسلسلات حالات فشل على
مستوى الدولة والنظام عندما تطرقت الى الفساد والعنجهية
وسوء التدبير الذي يتفشى في دوائر الدولة ويمارس من قبل
موظفيها.
الا ان مسلسلات الكوميديا تظل تدور في اطار ضيق تنعدم
فيه الحرية الحقيقية والقدرة على التطرق لأمور أبعد من
موظف بسيط أو شرطي متعجرف أو رجل أعمال جشع. حتى هذه اللحظة
لا تستطيع الكوميديا السعودية ان تتجاوز الفكاهة البسيطة
والمواقف المضحكة التي تعتمد على الحركات الجسدية او خصوصية
اللهجات المحلية او الايماءات السريعة او تعابير الوجه
لتنتقل الى مستوى الكوميديا الساخرة التي تعرفها المجتمعات
عادة خاصة عندما ترتبط الانتاجات الفنية برسالة هادفة
الى تغيير الوضع القائم من خلال النقد اللاذع ليس فقط
للمجتمع وانما للسلطة التي تطغى عليه وتكبله وتحد من فرص
نقله الى حالة مستقرة.
لا تزال الكوميديا السعودية كغيرها من التعبير الفني
والانتاج الأدبي رهينة للسلطة ومشروعها وهي في مجملها
تتبع سياسة الدولة ومشروعها وغير قادرة ان تفرض اجندتها
الخاصة بها. فتسخر الكوميديا السعودية من الدين والتطرف
في لحظة تاريخية معينة لان الدولة تبنت مشروع تحجيم الدين
واعادته الى المكان الذي رسمته كذلك تسخر الكوميديا من
الموظف البسيط وكسله وغياب روح المبادرة في مكتبه لتظهر
عجز الموظف البسيط عن استيعاب المبادرات الكبيرة للشخصيات
المهمة في البلد. وان كانت هذه الشخصيات تغيب على مخرج
الكوميديا بسبب الرقابة الاّ ان تركيز النقد على الدرك
الأسفل من موظفي الدولة يظهر عجز المجتمع عن مساعدة النظام
في اصلاح ذاته.
يظهر المجتمع في الكوميديا السعودية الحالية وكأنه
مجتمع غبي وكسول خامل غير مؤهل تسوده روح الاسطورة والتعنت
والاشكالية والتخلف فتخلق صوراً نمطية تلعب على أوتار
الاختلاف بين المناطق في مجال الثقافة والمفاهيم والممارسات
الاجتماعية. وقد تصنف هذه الكوميديا على انها نوع من النقد
الذاتي الجريء الاّ انها غير قادرة على احداث حالة نهضوية
لانها لا تزال في بداية مرحلتها الفنية وتنقصها الخبرات
التي اكتسبتها الكوميديا العربية وخاصة السورية والمصرية.
وان ظلت الكوميديا السعودية لا تجرؤ على التعاطي مع الاطار
السياسي العام الذي تدور فيه اللحظات الفكاهية والمواقف
الساخرة فانها لن تستطيع ان تحدث التغيير المرجو والذي
من شأنه ان يصلح فساد الموظف واستهتار رجل الاعمال وتسلط
الكبير على الصغير واستبعاد المرأة وهضم حقوقها او التعاطي
مع غباء البسطاء وحيرتهم امام البيروقراطية والقوانين
التي تقيد معيشتهم وتحد من حريتهم.
وان كانت الكوميديا السعودية قد نجحت في أمر ما فهي
استطاعت ان تستعرض صوراً مخزية للمجتمع المحلي الذي تكثر
فيه السلبيات وتنقصه الحكمة وتدبير الامر والشأن الخاص
والعام. فالمشاهد لمثل هذه البرامج هو على موعد كل ليلة
مع حلقة فكاهية تسخر من هذا المجتمع الناقص وتدعوه لان
يقهقه على زلاته وعيوبه وعنصريته تجاه الآخر خاصة العامل
الاجنبي وسوء معاملته له. ورغم ان بعض المواقف المتلفزة
هي واقعية وحقيقية الا انها تفتقد بهزليتها لنظرة تحليلية
عميقة. فالسعودي الذي ربته الدولة على السمع والطاعة وعدم
مساءلة الكبار يجد نفسه مضطراً لان يمارس استعلائية فجة
على عامل وافد بسيط فيشعر عندها بأهميته كمواطن، خاصة
وان المجال الوحيد للأمر والنهي قد ينحصر في سوء معاملة
هذا العامل. وان كان المواطن العادي هو في مؤخرة الصف
الا انه قد يتلذذ بسوء معاملة الغريب ليشعر ان في بلاده
من هو أدنى مستوى منه.
وهكذا نجد أن قصص سوء المعاملة للعمالة الاجنبية وخاصة
من البلدان الفقيرة الآسيوية قد اصبحت مادة دسمة للفكاهة
السعودية ولكنها من منظور إنساني وعالمي نجد ان أبعادها
تطال مفاهيم حقوق الإنسان العالمية. وحتى هذه اللحظة تكتفي
الكوميديا السعودية بلقطات تصور أحد الممثلين يتعامل بعجرفة
وغلظة مع خادمه الآسيوي دون ان تتجاوز هذا الاطار الذي
لا يدعو للضحك بل لنظرة عميقة تكشف ابعاد هذا النمط السلوكي
الفج الذي اصبح مدعاة للاهتمام الخاص من قبل مؤسسات حقوق
الانسان العالمية. والسؤال المهم هو لماذا تحول السعودي
الى شخصية قمعية عندما تعامل مع غريب فقير يأتي طلباً
لمعاش بسيط مقابل خدمات وضيعة ومرهقة؟ ولماذا انخرط موظف
الدولة في الفساد والغش؟ ولماذا فاته قطار التعليم في
بلد يتغنى بالفرص التاريخية التي وفرتها له الدولة؟
ولماذا يستطيع صاحب الشركات التجارية التلاعب بالبسطاء
والفقراء والاستهتار بحقوقهم؟. كل هذه الاسئلة تبقى دون
جواب على شاشات الكوميديا السعودية لان الاجابة عليها
تتطلب نقلة نوعية في مجالات الحرية والاستقلالية للفن
المتلفز وهذا ما لم يتوفر حتى هذه اللحظة. لذلك تبقى هذه
الكوميديا قاصرة عن تجاوز ابتذالية المواقف الهزلية والانتقال
الى مستوى يجعلها أقرب الى الفن الذي يحمل رسالة ابعد
من الضحك والتسلية الرخيصة رغم ان النكتة والدعاية قد
توصلان الرسالة الجدية الى اكبر شريحة اجتماعية.
واذا كانت الكوميديا السعودية تريد ان تحدث تغييراً
جذرياً في المجتمع من خلال طرح مواضيع مهمة، فعليها ان
تتجاوز مرحلة جلد الذات وادانة المجتمع ليلياً خاصة في
شهر رمضان عندما تتكاثر المسلسلات العربية كما هو الحال
منذ بداية الشهر الكريم. ان الفن الذي يجلد الذات ليلياً
لا يصل الى هدفه بل هو يضحك على ذاته لانه لا يقدر على
تسمية المسؤول عن حالته المزرية بالاسم فينحدر المسلسل
والمشاهد الى مستوى الفكاهة والتسلية وملء الوقت الضائع
اصلاً وان كان المجتمع يتحمل مسؤولية تصرفاته وسلوكياته
المضحكة الا انه يحتاج الى فن اكثر جرأة وصدقاً مع الذات
يفضح المسكوت عنه ويعري الواقع بتجرد وامانة حتى لا نبقى
مجتمعاً يضحك على نفسه ويستعرض زلاته وعيوبه على المجتمعات
العربية التي ربما لا تعرف خلفية المغفل السعودي او الأبله
الذي تصوره مسلسلاتنا اليومية، او التاجر الغشاش الذي
يعيث في الارض فساداً دون ان يحاسبه الرقيب. وقد يملّ
المشاهد من عملية التكرار والاجترار لمواضيع يعيشها في
حياته اليومية ومن ثم يشاهدها في وقت التسلية واللهو على
شاشات الفضائيات فتفقد الكوميديا بريقها وجمهورها لانها
تتحول الى تكرار الواقع اليومي بأحداثه وتفاصيله.
من الصعب ان ينهض الفن المرئي التمثيلي بالمجتع ما
لم تتوفر معطيات مسبقة من اهمها استقلالية الفنان ومصادر
تمويله وحالة تقبل عامة للنقد اللاذع ليس فقط للمجتمع
بل ايضاً للسلطة. وهذان العاملان لم يتوفرا بعد في بلد
كالسعودية لذلك تقتصر النكتة على ترصد زلات المجتمع وثقافته
متجاهلة البعد السلطوي الذي يحدد اطار الابداع الثقافي
او الفني. فحتى هذه اللحظة يضطر المبدع ان يتبنى اجندة
السلطة ومسارها حتى يظهر ابداعه المرهون بالسياسة العامة
للدولة. في ظل هذا الاطار المقيد للمواهب يضطر الفن الى
التخفي والاستتار حتى لا يصطدم بالسلطة مما يؤدي الى حالة
تكرار وابتذال. وان كانت الكوميديا السعودية قد حققت نجاحاً
ما فهي بالفعل قد نجحت في شدّ اهتمام المشاهدين الى الضحك
على المجتمع السعودي لا الضحك معه.
عن القدس العربي، 5/9/2010
|