ما هي فوائد شراء سلاح لا يدرأ خطرا ولا يمنع عدوانا؟
محمد عبد الحكم دياب
|
محمد عبد الحكم دياب |
تعقد صفقات السلاح عادة من أجل الدفاع عن الأوطان،
أو لمواجهة خطر متوقع، أو بهدف تعديل ميزان مختل في القوى،
أو توفيرا لإمكانية ردع استراتيجي أمام قوة متربصة وغاشمة.
لم يكن أي من هذا له علاقة بالصفقات، التي نشرت عنها
الصحف الأمريكية والبريطانية في الأسابيع الأخيرة، أطرافها
هم الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية
ودولة الإمارات العربية المتحدة. تبلغ قيمتها الإجمالية
123 مليار دولار. وتعتبر الأضخم في تاريخ تجارة السلاح.
جاءت في وقت تراجعت فيه الصناعات العسكرية الأمريكية،
وفي ظروف أزمة اقتصادية خانقة؛ لا تعاني منها الولايات
المتحدة وحدها إنما شملت المنظومة الغربية وملحقاتها والدائرين
في فلكها، خاصة دول الخليج العربي، ولم يكن المشتري وهو
يعيش هذه الأزمة بأحسن حال من البائع. لذا بدت لغزا يستعصي
على الفهم. ولولا أجواء الحرب المخيمة على المنطقة، وهي
تعيش طورها النفسي والمعنوي، وتستهدف إيران والمقاومة
وحلفاءهما. لولا هذه الأجواء لكان من الصعب فهم ذلك اللغز.
ومدخلنا إليه سؤال عن متى استخدمت الأسلحة المشتراة من
الولايات المتحدة وحلفائها للدفاع عن السعودية وحماية
أمن الخليج واستقراره؟
والإجابة لن تكون بمعزل عما جرى من تغيرات وتحولات
في الجغرافيا السياسية، وفي العقيدة القتالية العربية.
فمنذ إندلاع الحرب العراقية الإيرانية وحروب المنطقة أخذت
منحى غير الذي سارت عليه منذ نكبة فلسطين في 1948، كانت
حروب ذلك الزمان دفاعية وتحررية؛ واجهت الوجود الاستعماري
وحدت من هيمنته على منطقة تعددت فيها أشكال الوجود وتنوعت
صيغ الهيمنة. بدأ ذلك وجودا استيطانيا مع احتلال الجزائر،
وعسكريا بعد سقوط امبراطورية العثمانيين، ليعود استيطانيا
مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية على أرض فلسطين.
ومن تلك البداية حتى الآن والهيمنة الاحتكارية ما تكاد
تذهب حتى تعود مرة أخرى، وطوال ذلك التاريخ استطاع العرب
كسر احتكار السلاح أكثر من مرة؛ المرة الأولى كانت مع
محمد علي، وبدأ مشروعه معتمدا على التصنيع العسكري، من
مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصفه. وكانت الثانية على
يد جمال عبدالناصر؛ بانفتاحه على الاتحاد السوفييتي ومجموعة
عدم الانحياز الناهضة مثل الهند والصين ويوغوسلافيا، وذلك
جاء مقترنا باهتمامه هو الآخر بالصناعات العسكرية. وبعد
تراجع دور مصر عمل العراق على السير على نفس الطريق، لكن
مشروعه ارتطم بصخرة الحروب المتتالية؛ بدأً بالحرب ضد
إيران. تليها حرب الخليج الثانية، ثم استمرار الغارات
والحصار والتجويع؛ إلى أن تهيأ المسرح للغزو والتقسيم.
كثير منا يذكر أنور السادات وإعلانه بأن حرب 1973 هي
آخر الحروب، وكان يعني وقف معارك وحروب التحرير والمقاومة،
والتوقف عن التصدي للاستيطان الصهيوني والاحتلال الأجنبي.
وتغيرت تبعا لذلك الإعلان العقيدة العسكرية العربية، وهي
أساس تحديد العدو وطرق التعامل معه. وبعدما كانت الأخوة
والصداقة والعداوة يحددها المصير الواحد، والمصالح المشتركة،
والأمن المتبادل، والتصدي للهيمنة؛ استقرت منذ أمد على
التبعية المطلقة والرضوخ لمتطلبات المشروع الصهيوني. واندلعت
في المنطقة حروب من نوع مختلف؛ أهلية داخلية وأخرى إقليمية
بين أشقاء وجيران. ورافق هذه الحروب زيادات في أعداد الأساطيل
وحاملات الطائرات والبوارج والقواعد العسكرية الأمريكية
والفرنسية والبريطانية؛ في مياه الوطن العربي ومحيطه.
وذلك أضاف قوة أخرى إلى القاعدة الاستيطانية الصهيونية
المدججة بالسلاح حتى العظم.
وعلى الرغم من تأكد نتنياهو من أن الصفقة لن تلحق ضررا
به وبدولته، جاءت بالنسبة له بابا للابتزاز. وكانت صحيفة
يديعوت الصهيونية قد نشرت في 26/ 9/ 2010 أن نتنياهو مارس
ضغطا ضد الصفقة؛ بمعونة أعضاء في الكونغرس، وأثار بذلك
حفيظة الرئيس الامريكي، الذي استدعاه ولفت نظره إلى أن
صفقة بذلك الحجم تنعش صناعة السلاح الراكدة، وتقوي الاقتصاد
المأزوم؛ معتبرا أن العمل على منعها أخطر في نظره من توسيع
البناء في المستوطنات. وبدت لعبة كان من نتيجتها نزع الإمكانيات
التقنية والألكترونية المتقدمة من منظومات التسليح التي
تضمنتها الصفقات. وأضحت بذلك منزوعة الأسنان والمخالب
وعمياء. ولم تكن صفقة دولة الإمارات بأحسن منها حالا.
ومن أجل فهم ما وراء هذه الصفقات علينا الرجوع إلى
الوراء قليلا إلى صفقة اليمامة الشهيرة، وما علق بها من
فضائح مستمرة؛ رغم مضي ربع قرن على إقرارها في ايلول/سبتمبر
1985. كان ذلك قبيل غزو الكويت بخمس سنوات، وحرب الخليج
الثانية بست سنوات، وسبقت وقف إطلاق النار بين العراق
وإيران بثلاث سنوات، وفاقت ستين مليار دولار. لم يكن لها
أثر في حرب الخليج الثانية. وهي حرب كلفت السعودية ودول
الخليج ستين مليار دولار أخرى؛ دفعت للخزانة الأمريكية.
غطى نصفها التكلفة الفعلية للحرب، والثلاثين مليارا الباقية
كانت مكسبا لأكثر الاستثمارات السوداء عائدا في التاريخ.
وهدف الصفقات الأخيرة امتصاص فائض المال العربي وتوظيفه
في إنعاش صناعة السلاح الأمريكية، كما ورد على لسان أوباما
نفسه. ويبدو ذلك هدفا معلنا أما الأهم، من وجهة نظري،
فهو هدف غير معلن لتمويل الحرب القادمة؛ أيا كانت ساحتها؛
لبنان أو سورية أو إيران.
هذه الأسلحة سوغت للإدارة الأمريكية تزويد المؤسسة
العسكرية الصهيونية بأحدث ما لديها؛ للحفاظ على تفوقها
على الدول العربية مجتمعة. والحرب القادمة إذا ما اندلعت
فستبدأ بلبنان، ومن المتوقع امتدادها إلى سورية وباقي
المنطقة وصولا إلى إيران. يجمع الخبراء على صعوبتها بل
استحالتها. وتغاضى أغلبهم عن تأثير السقوط العربي، الذي
يغري كل طامع ومغامر. وأهم مظهر للسقوط هو انعدام الردع
العربي الرسمي. ولو لم يكن هناك غير هذا المظهر حافزا
لكفى. هناك أكثر من مجال لتهيئة مسرح المنطقة للحرب؛ أوله
النجاح في شد الأنظار لعدو بديل، بأثر الحملات الإعلامية
والنفسية ضد المقاومة وإيران ودول الممانعة؛ هذا شد من
أزر محور 'الاعتدال العربي'. وضم بدوره مجهوده السياسي
والعسكري والاقتصادي والإعلامي؛ بروافده الانعزالية والطائفية
والمذهبية. ضمه إلى المجهود الصهيو أمريكي. وأصبحت إيران
عدوا مشتركا لأولئك الذين تماهوا مع العدو التقليدي والتاريخي.
وبدلا من الضغط عليه شاركوه جرائمه، وجيشوا من أجله الإعلام
وأجهزة الحرب النفسية، وحشدوا الجيوش والقوات العسكرية،
وفُرضوا الحصار والحرمان والتجويع على المتصديين له وحلفائهم
ومؤيديهم.
وإذا كانت بوصلة أولئك قد ضُبطت على واشنطن وتل أبيب
ولندن وباريس وبرلين. ومن أجل أن تستمر هكذا فهي في حاجة
لغطاء فلسطيني يجمل الوجه الوحشي لمشروع الحرب قبل اشتعالها،
ويتخذها مبررا لحصار وتجويع الأطراف المعتدى عليها حتى
وإن وضعت الحرب أوزارها. تنشط الضغوط وتزداد الوعود عن
الحل وقيام الدولة.
وصار اللعب على الوتر الفلسطيني حرفة ومهنة؛ لها متقنوها
وتجارها وأبواقها، وأخطرها بين الفلسطينيين؛ منذ أن صارت
لهم سلطة احترفت التفاوض، وامتهنت التنازل (من المهنة)،
ولها باع طويل في التفريط في الحقوق، وقدرة عالية في التعلق
غير المبرر بوهم الدولة، التي لن ترى النور في ظل الموازين
الراهنة. وكما توظف الساحة الفلسطينية لتهيئة مسرح الحرب
يحدث نفس الشيء مع الساحة اللبنانية، كساحة مثالية؛ بتقسيماتها
المذهبية والطائفية، وصلاحيتها لتعزيز فكرة العدو البديل.
وأعيد فتح ملف المحكمة الدولية واغتيال رئيس الوزراء
الراحل رفيق الحريري. والهدف هو كسر شوكة المقاومة الوطنية
والإسلامية بقيادة حزب الله، وذلك الملف يفتح تلبية لرغبة
صهيو غربية في اقصاء حزب الله من المشهد اللبناني. وسعيا
لقطع الحبل الموصول بين دمشق وطهران والمقاومة، ولإحكام
سيطرة الدولة الصهيونية السياسية والامنية والعسكرية على
محيطها الجغرافي السياسي؛ الممتد من شرقي المتوسط وصولا
الى الجزيرة العربية وايران.
وأضحى هذا المسعى أكثر إلحاحا مع اكتشاف احتياطيات
نفط وغاز ضخمة بموازاة الساحل الفلسطيني؛ الممتد من رفح
جنوبا الى رأس الناقورة شمالا. وتستغلها الدولة الصهيونية
منذ ثلاث سنوات. وإقصاء حزب الله يعزز المشروع الصهيوني
ويزيد دولته قوة. ويرى الوزير السابق والأكاديمي اللبناني
المعروف عصام نعمان في مقال أخير بـ'القدس العربي' (26/
9) أنه إذا ما تمكّنت الدولة الصهيونية من امتلاك ثروة
ضخمة من عائدات الطاقة؛ يكون في مقدورها الاستغناء عن
دعم الولايات المتحدة، ومنافستها في مجالات عدة، وممارسة
دور أكثر تأثيرا على الصعيدين الاقليمي والدولي. وينعكس
ذلك سلبا على المشهد اللبناني ويزيده تعقيدا. والإدارة
الأمريكية، حسب وجهة النظر هذه تفضل الضغط الداخلي على
حزب الله؛ اعتمادا على الفتنة المذهبية السنّية الشيعية
لضرب التوافق السياسي. واضعاف حزب الله ومشاغلة المقاومة
باحداث تدور وراء ظهرها قد لا يغني عن شن الحرب، رغم مخاطرها
واحتمال توسعها وتمددها. ومن أجل ذلك أعيد فتح ملف المحكمة
الدولية بكل ما يترتب عليه من تداعيات.
صفقات السلاح الأمريكية للسعودية والإمارات الأخيرة
لها وظيفة في تغيير الظروف غير المواتية للإدارة الأمريكية
في العراق وأفغانستان. وتعالج التدهور الراهن في القدرة
القتالية الأمريكية الناشئة عن الانهاك، وطول أمد الحرب،
وزيادة الضحايا، وهبوط الروح المعنوية بفعل شواهد الانكسار
البادي في الأفق القريب. وتلك وإن كانت لتعويض الترسانة
العسكرية الأمريكية؛ تمثل كذلك حافزا داخليا يخفف على
الرئيس الأمريكي حدة البطالة ووطأة الأزمة الاقتصادية.
وعلينا ألا ننسى أنها تمويل للحرب المتوقعة؛ يدفع مقدما،
ولتعويض الخسائر قبل أن تقع. خدمة جليلة اعتاد عليها أهل
الاعتدال العربي.. قدموها حبا في واشنطن وتقربا لتل أبيب!.
* عن القدس العربي، 1/10/2010
|