السعودية: أمن الدولة أم دولة الأمن
د. مضاوي الرشيد
|
د. مضاوي الرشيد |
ستقبل السعودية على مرحلة مبهمة المعالم في السنوات
القريبة القادمة خاصة بعد انتقال العرش من الملك عبد الله
الحالي الى خليفته والذي قد يؤدي الى تجاوز ولي العهد
الحالي الى وزير الداخلية الامير نايف إن سمحت صحة هذا
الأخير بذلك. ومهما تغيرت ملامح الدولة على اعلى مستوى
في الهرم الا أن المخاطر التي ستواجه السعودية في المرحلة
القادمة ستكون مرتبطة بأمن الدولة. هذا الأمن سيكون الهاجس
الأول والأخير للطاقم الحاكم والذي يفوق بأهميته أمن المجتمع
بكافة اشكاله الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية.
لقد حدد النظام السعودي المخاطر الأمنية التي تطاله
كنظام ودولة بأمرين اولهما الخطر الايراني وثانيهما خطر
الارهاب والقاعدة وفي مجال الخطر الأول اثبتت وثائق ويكيليكس
المسربة مدى تعلق الملك الحالي بالخيار العسكري لضرب ايران
من قبل الولايات المتحدة او حليفتها في المنطقة اسرائيل
وحرض على قطع رأس الأفعى، وهذا ما فضح الخطاب المعلن للمملكة
والذي يروج للسلام والدبلوماسية مما جعل العلاقة تتوتر
وتتصاعد لهجة الشك والريبة بين دولتين كبيرتين على ضفاف
الخليج العربي. ليس لهما من خيار سوى التعايش مع اختلافاتهما
السياسية والدينية والاستراتيجية. ونعتبر تحريض الولايات
المتحدة على ضرب ايران هو نوع من قصر النظر وغطرسة سياسية
غذتها اسعار النفط المرتفعة والتي توهم الذين يحملون مفاتيح
خزانتها انهم معصومون من تداعيات حرب عشوائية يدفعون فاتورتها
واستحقاقاتها بملايين الدولارات ويظلون في ابراجهم العالية
محصنين مسيجين وبعيدين عن شظاياها المتطايرة على الارض
وفي صميم المجتمع.
ولقد اثبتت الضربات الخاطفة التي تتوقعها السعودية
فشلها في ايجاد حلول دائمة لمشاكل سياسية واستراتيجية
عالقة. وربما تشجع الملك السعودي على المطالبة بقطع رأس
الأفعى من دروس التاريخ القريب المغلوطة خلال حربين خليجيتين
داميتن دفع ثمنهما المجتمع بموارده وثرواته ومسيرته التنموية
وافرزت هذه الحروب تيارات واتجاهات دموية لا تزال السعودية
تعاني منها رغم أن السلطة بقيت في برجها العاجي المحصن.
لكن الوضع في هذه المرحلة يختلف تماما عما سبق اذ أن
ايران اليوم تختلف عما كانت عليه في اوائل الثمانينات
والحراك الاجتماعي في المنطقة على الضفة المقابلة لها
قد تغيرت ملامحه ومطالبه ناهيك عن مناطق النفوذ الايرانية
في الخليج ذاته وابعد من ذلك بكثير. لذلك نعتقد ان هاجس
الأمن السعودي بعد الملك عبد الله سيبقى ايران اولا واخيرا.
لكن النزعة العدوانية وعسكرة الموقف تجاه ايران واستمرار
التحريض على الضربات الخاطفة سيثمر، ان تولى نايف عرش
البلاد، خاصة وان امن الدولة هو من اختصاصه واختصاص طاقمه
في اكبر وزارة تعرفها البلاد. ورغم انه معني بالامن الداخلي
الا أن منطق الهاجس الامني يسيطر تماما على تفكير الوزارة
وممارساتها، ناهيك عن منطق الاستخبارات والتجسس حيث لا
يوجد تمرس بالدبلوماسية او الحوار او البحث عن المصالح
المشتركة بين الدول وخاصة دول الجوار.
سيسود المنطق الامني الاستخباراتي وسيطغى على منطق
الدبلوماسية في التعامل مع أي معضلة تواجهها السعودية
خارجيا أو داخليا. وربما ستقوم القيادة الجديدة باستعمال
الاساليب المتبعة داخليا للحفاظ على امن الدولة والمعروفة
منذ اكثر من نصف قرن في تعاملها مع ملفات العلاقات الدولية.
فأمن الدولة الذي تصونه وتحرسه وزارة الداخلية من منطلق
القمع والاستخبارات والاعتقالات التعسفية ومصادرة الحقوق
المدنية والسياسية لن يكون خلفية تبشر بالخير ان هي استعملت
ومورست في مجال التعامل مع الدول الاخرى.
ان انتقال شخصيات مرتبطة بأمن الدولة الى اعلى منصب
في القيادة على مستوى ملك او ما شابه سيكون محفوفا بمخاطر
قد تخسر السعودية نتيجتها الكثير من سمعتها العالمية وثقلها
الاستراتيجي في المنطقة. وان كان منطق القمع والاستخبارات
ومصادرة الحقوق هو سيد المواقف فما هي يا ترى تداعيات
هذا المنطق على علاقة السعودية بالدول الاخرى المجاورة
وتأثيره على المحيط الاقليمي الضيق والآخر العالمي المفتوح.
انه تأثير سلبي بالفعل حيث ستسود سياسة خلف الكواليس
وتستمر في التعاطي مع أي مشكلة عالقة او خلاف قد ينشأ
مع أي طرف خارجي بنفس منطق المؤامرة وسياسة تدبير المكائد.
ان اي طاقم حكومي صاحب خبرة محدودة في مجال الامن الداخلي
وهواجسه وكوابيسه لن يصلح ليقود دولة ذات ثقل اقتصادي
وسياسي او هكذا متوقع من دولة كالسعودية.
لا يهيئ الأمن الداخلي لقيادة اوطان ناهيك عن دول تنال
احترام المجتمع الدولي اذ ان محدودية الخبرات السابقة
وارتباطها بالقمع سيكون ان فخا تقع به السعودية وربما
لا تنشل نفسها منه الا اذا كانت بالفعل تطمح لأن تتحول
الى محور استخباراتي يدير مشاريع كبيرة بالوكالة. وهذا
ما بدأ يلوح في الافق خلال السنوات القليلة الماضية حيث
اصبحت السعودية تروج لنفسها وكأنها المحور الاستخباراتي
المهم أو ربما الأهم في المعادلات الدولية والحروب العالمية
ضد الارهاب. وقد قلصت القيادة السعودية دورها الى دور
المخبر الذي تنتفع منه الدول الاخرى في كشف خبايا طرود
ملغمة او خلفيات مفخخة من باب التعاون في مجال الحرب على
الارهاب.
ولا بد ان نتساءل هل هذا المصير الذي يليق بدولة ذات
ثقل اقتصادي واقليمي وديني. هل من المعقول ان لا تجد السعودية
لنفسها اي دور سوى دور المخبر الذي تعتمد عليه دول العالم
في حروبها الصغيرة والكبيرة.
لقد حصل هذا قبل ان تتحول القيادة المسؤولة عن امن
الدولة الى القيادة الاولى فما بالك عندما يحصل هذا ويصبح
امراً واقعاً عندما ستصبح السعودية بالفعل دولة الاستخبارات
بالوكالة حتى تضمن لنفسها موقعا مركزيا على قائمة الدول
الصديقة والحليفة للغرب والتي لا يمكن التخلي عن أمنها
ليس فقط بسبب نفطها بل أهم من ذلك هو بسبب خدماتها الاستخباراتية
للعالم الغربي. انتقال الحكم من قيادة امن الدولة الى
اعلى منصب سيؤدي بالنتيجة الى تكريس السعودية كدولة امن
محلية ذات بعد عالمي واقليمي ينحصر في دور محدود يكسبها
عدم ثقة دول الجوار ناهيك عن تداعيات هذا على الساحة المحلية
السعودية.
لقد تمرست القيادة المسؤولة عن أمن الدولة خلال العشرين
سنة الماضية الاخيرة في مواجهاتها مع الارهاب. وهي حرب
محدودة ذات صفات خاصة بها وان كان هدفها الأول القضاء
على خطر العنف الا ان هذه الحرب اصبحت ذريعة جاهزة لممارسة
كل انواع القمع المكشوف. وقد ارتبطت ممارسات الاجهزة الامنية
بتوسيع دائرة التجسس والتقييد على الحريات وكأن البلاد
في حالة طوارئ دائمة وغير معلنة.
ان من حق أي دولة ان تستعمل وسائل مشروعة في ضمان امنها
وامن مجتمعها لكن بانعدام المحاسبة والمراقبة والشفافية
تصبح هذه الوسائل ضبابية وقاتمة ومعتمة تختبئ تحت عباءتها
اشد انواع القمع همجية دون ان يجد المجتمع وسيلة فعالة
لفضحها وكشفها والتصدي لها. لقد استغلت قيادة الامن الحرب
على الارهاب كغطاء جاهز لتمرير مشروع الدولة البوليسية
الامنية وقلصت مجال الحريات ولبست قفازا تدعي انه تارة
من الحديد وتارة من الحرير لتطبيع مشروع عسكرة الدولة
واجهزتها. وان كان المجتمع السعودي بكافة اطيافه الفكرية
والاجتماعية قد عانى من معضلة دولة الأمن هذه خلال السنوات
الماضية والتي ادت الى ارتفاع عدد المعتقلين السياسيين
وتقليص مساحة حرية الفكر والغاء اي حق بالتجمع او التنظيم..
الا ان تداعيات دولة الامن عندما تجلس على العرش على المجتمع
الاقليمي ستكون محطة توجس من قبل جيران المملكة العرب
والعجم ناهيك عن المجتمع الدولي خاصة اطيافه المعنية بحقوق
الانسان والمتمسكة بمبدأ الحلول الدبلوماسية لأي مشكلة
عالقة بين الدول وليس مبدأ الحلول العسكرية التي اثبتت
فشلها في حل المشاكل المعقدة.
فها هي الولايات المتحدة تخوض حربا ضد الارهاب كما
تدعي منذ عشر سنوات دون ان تؤدي هذه الحرب الى نتائج ملموسة
او ايجابية. فبعد حربين في افغانستان والعراق وحروب صغيرة
دائرة في مناطق اخرى كباكستان واليمن وغيرهما، نجد ان
الكثير من المحللين بدأ يشك في جدوى هذه الحروب الطويلة
غير المجدية وغير المؤدية الى نصر حاسم. سيتكاثر المشككون
في جدوى الحلول الامنية والعسكرية بينما ستكون السعودية
في صدد تجهيز ذاتها لتصبح المحور الامني والاستخباراتي
في المنطقة بدون منازع مما قد يضر بها في الامد البعيد
ويعرضها لهزات حتمية.
اذ ان دولة الامن ستكون دولة هشة تعتبر التآمر والعضلات
الاستفزازية من الوسائل الناجحة رغم انها اثبتت فشلها
خلال العقود الطويلة خاصة ان المنطقة العربية لها باع
طويل في مثل هذه النماذج والتي اندثر بعضها لكن بعضها
ما يزال يتمسك بمنطق الامن والقمع على حساب منطق الدبلوماسية
خارجيا واشراك المجتمع في امنه داخليا عن طريق المشاركة
السياسية والشفافية.
لدولة الامن تداعيات خطيرة ليس فقط اقليميا بل اجتماعيا
ونفسيا اولا. اقليميا هي بمثابة قفزة ترتطم بالريبة وتشويش
العلاقة بين الدول. اجتماعيا هي مسؤولة عن افرازات خطيرة
تتمثل في تكريس مبدأ العنف لحل المشاكل. وتخلق دولة الأمن
تيارات تمارس العنف المضاد تماما كما تمارسه الدولة. وهذه
التيارات هي مرآة حقيقية لما تمارسه دولة الامن ضد المجتمع.
واخيرا تفرز دولة الامن علاقات انسانية مشوهة بين الافراد
والعائلات والاصدقاء وتفكك اللحمة البشرية وتقهر النفس
البشرية حتى تتحول الى بؤرة من الشك والريبة وعدم الثقة
مخاطر دولة الامن المهووسة بأمنها في المديين القريب والبعيد
هي مخاطر حقيقية تصيب الدول والمجتمعات في صميمها. ونأمل
ان لا يكون هذا هو مصير السعودية في مرحلة ما بعد الملك
عبد الله.
* عن القدس العربي، 9/1/2011
|