هل أصبح العنف ظاهرة سياسية في السعودية؟
دور الدولة في تغذية العنف الداخلي
يمكن المجادلة بأن تتابع الإنفجارات في العاصمة السعودية ومدن
أخرى والتي كان آخرها انفجار يوم الأحد (29 سبتمبر الماضي) أدّت الى
مقتل ألماني، تلاها اختطاف طائرة سعودية من مطار الخرطوم (في 15
أكتوبر الماضي).. لا يمثل ظاهرة عنف سياسي، باعتبارها أحداثاً متفرقة
ومتباعدة من حيث الزمان والمكان. لكن إذا ما تمّ تعريف العنف بمعناه
الواسع، فإنه يمكن القول في أقلّ الأحوال أن المملكة ومنذ سنوات عدّة
تشهد حوادث لم تألفها من قبل كالتفجيرات المتعددة، واختطاف الطائرات
والأشخاص، والتمرّد في السجون، والإغتيالات التي شملت رجال أمن ورجال
دين (كان آخرها اغتيال الشيخ القاضي السحيباني في سبتمبر الماضي)،
والتمردات الجمعية الشعبية المسلّحة كالذي شهدناه في نجران قبل
عامين، والذي نتج عنه حملة من الإعتقالات واقتحام المدينة بالمدرعات
العسكرية، إضافة الى القتل في الشوراع كما حصل قبل شهرين أيضاً حين
أقدم أحد الأمراء (فهد بن نايف بن سعود) بقتل أحد المواطنين في
الرياض (منذر القاضي).
قبل الانفجار الأخير، نعمت المملكة ببضعة أشهر هدوء. فقد كان آخر
حادث عنف سياسي قد وقع في فترة الهجوم الأميركي على أفغانستان في أحد
أسواق مدينة الخبر وراح ضحيته كالعادة عدد من الأجانب. قيل أن ذلك
الهدوء كان نتيجة اتفاق غير مكتوب بين وزارة الداخلية وبين عدد من
مشايخ التيار السلفي ممن يصنّفون تحت مسمى (مشايخ الصحوة) وقضى ـ كما
يقال ـ بأن تخفف أجهزة الأمن وطأتها عليهم وأن تفسح لهم المجال في
الإعلام الداخلي والخارجي وفي الحركة بإلغاء منع السفر، مقابل السعي
الجادّ لتهدئة الشارع السلفي والذي تنظر الحكومة إليه كمصدر أساس
للعنف.
والحقيقة أن المملكة كانت توّاقة الى هدوءٍ داخلي بعيد أحداث
سبتمبر والحرب ضد أفغانستان، منعاً لإثارة المزيد من التوتر في
علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. وربما انعكست الرغبة
الحكومية على الشارع السلفي مجملاً، وبدا وكأنّ دعاة مواجهة الغرب
والمتعاطفين بشدّة مع حركة طالبان والقاعدة قد تمّ تهميشهم أو بمعنى
آخر جرى تثبيط عزائمهم بفعل الهجوم الأميركي الكاسح على كل المستويات
السياسية والإعلامية والعسكرية، والذي شمل المملكة وقيادتها.
لم يكن الوضع الداخلي للتيار السلفي في مجمله يسعى الى مواجهة مع
الولايات على الأرض السعودية، وكان توّاقاً الى حدوث انتصار أو ضربات
انتقام ضد الغرب في أماكن أخرى: في أفغانستان، او اميركا أو أي مكان
آخر، عدا داخل المملكة. والسبب حراجة العلاقة الأميركية السعودية من
جهة، والتوتر الشديد في العلاقة بين التيار السلفي والحكومة
السعودية. لكن الحكومة السعودية نفسها، وفي سبيل الحصول على شيء من
الهدوء السياسي، قامت بعدّة خطوات تنفيس داخلية للتيار السلفي، ليس
بينها تحفيزه بمزيد من القمع. على العكس تماماً، فقد تعاملت وزارة
الداخلية مع السعوديين العائدين من أفغانستان، سواء كان أولئك الذين
جاؤوا عبر ايران أو عبر الباكستان، أو غيرهما، باحترام غير مسبوق.
صحيح أنها اعتقلتهم ولكنها أطلقت سراح معظمهم بعد توقيف استمر بضعة
أشهر، وبالنسبة لبعضهم بعد بضعة أسابيع.
أيضاً، وفي خطوة لا تخلو من الحكمة، أطلقت أجهزة الأمن سراح
العشرات من المعتقلين على خلفية تفجيرات الخبر عام 1996، وهم خليط
ينتسب لتيارات سياسية متناقضة في توجهها الفكري والسياسي (شيعة
وسلفيين).. وجاء اطلاق سراح معظم هؤلاء بعد مضي اكثر من ست سنوات على
اعتقالهم دون أن يثبت إدانة أيّ منهم بارتباطات مع الحادث الذي لا
يزال مدبّروه مجهولين حتى الآن. لقد كانت تلك الإعتقالات في واقعها
مجرد تصفية حسابات سابقة استغلّت أجهزة الأمن حادث الخبر للتغطية
عليها، الأمر الذي شجّع عدداً من عوائل المعتقلين في الآونة الأخيرة
للتقدّم بشكوى الى إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة ضد الحكومة
السعودية نفسها. هذا ولازالت هناك بقيّة من المعتقلين وفي مقدمتهم
هاني الصايغ الذي لم تتم إدانته لا في الولايات المتحدة ولا في
السعودية التي تسلمته منها، ومع هذا لازال معتقلاً رغم انتفاء مبررات
الإعتقال من أساسه.
المهم في أمر حوادث العنف التي تشهدها المملكة أنها شديدة الخدش
لصورة الإستقرار في على المستويين الداخلي والخارجي. لقد كان
الإستقرار الأمني ـ ولا نقول السياسي ـ واحداً من مبررات وشرعية نظام
وإن الفشل في إيقافه يهزّ شرعية النظام، ويسقط هيبته، ويحفّز كثيرين
على الإستمرار فيه وتوسيع نطاقه. وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة
السعودية رسم صورة معتدلة لسياستها في الخارج، تأتي التفجيرات
الداخلية وأحداث العنف التي يشارك فيها سعوديون في الخارج، لتظهر
صورتين متناقضتين بشكل جلي في تفاصيل الصورة، وحقيقة الإستقرار
الداخلي، وطبيعة الثقافة السائدة في المجتمع السعودي.
ولأنّ ظاهرة العنف والجريمة في أي بلد تحتاج الى حلول سياسية
واقتصادية واجتماعية قبل أن تكون أمنيّة.. ونظراً لغياب مثل هذه
الحلول في المملكة ولربما بسبب انسداد آفاق الحلول المعالجة لجذور
الأزمة، فالوضع السياسي الجامد والخانق، والإنتكاس الإقتصادي يتجه
الى المزيد من التدهور، وكذلك فإن هامش الحرية المتاح للتعبير ضيق لا
يوجد له مثيل بين دول الخليج والجزيرة العربية على الأقل.. لهذا، فإن
المرجح استمرار العنف الداخلي، ومن المرجح أيضاً أن تكون شراراته
السياسية أكثر وضوحاً من جهة ارتباطها بالأوضاع السياسية المحلية:
الهجوم الأميركي على العراق بمساعدة السعودية، والتهديدات الأميركية
التي تتعرض لها المملكة دولة ونظام حكم وتيار سلفي، واستمرار الأوضاع
المؤلمة في فلسطين المحتلّة وما تثيره من مشاعر ألم في ظل استمرار
العجز العربي عامة والسعودي خاصة.
كل هذا يدفعنا الى الإعتقاد بأن العنف في المملكة لن يتوقف،
وسيأخذ أشكالاً متعددة عبّر من الناحية الفعلية عنها أكثر من مرة
خلال السنوات الماضية.
ومن القضايا الجديرة بالإنتباه، أن كل قضايا التفجيرات على وجه
الخصوص لم يتبناها تنظيم معيّن، وحتى أولئك الذين قبض عليهم في
تفجيرات العليا بالرياض وأعدموا، لم تفد التحقيقات بانتمائهم الى
تنظيم أو اتصال بجهة خارجية. من يكون هؤلاء إذن؟
القضية هنا لا تتعلق بإسم بقدر ما تتعلق ببيئة مغلقة سياسياً
ومحاصرة فكرياً.
فمن جهة أولى إن التنظيمات السياسية السعودية تعاني من مشكلة
مزاحمة التجمعات التقليدية التي يحفل بها المجتمع السعودي. وتزداد
المشكلة حين يتم تجريم التنظيم السياسي الذي يمكن أن يستوعب بعض
القوى الشبابية في المجتمع فيؤطرها ضمن اللعبة السياسية المحلية، إذا
ما وجدت فعلاً قواعد للعبة السياسية على المستوى القانوني.
الناشيء من تردّي الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، لا يجد الجيل
الشبابي الجديد المحبط من متنفّس إلا عبر تشكيلات صغيرة. أي جماعات
تتشكل من بضعة أفراد من نفس العائلة أو الحي أو من نفس المدرسة أو
زملاء في عمل أو جيران يرتادون مسجداً ما، أو يشكلون شلّة من الشلل.
يقرر هؤلاء لمواجهة الوضع وحالة الخوف والإحباط القيام بعمل ما
لتغيير الوضع. وهنا تكمن المشكلة.
فهذه البؤر الصغيرة قد لا تصمد أو ترتكب الأخطاء فيجري اعتقال
أفرادها بسرعة ولكن بعد أن تنجح في العادة في القيام بعمل كبير
بمقاييس السعودية وربما غيرها. ولكن سقوط الجماعة في فخ الأمن لا
يفيد كثيراً، ذلك أن هناك عشرات التجمعات والشلل المشابهة التي تبادر
من ذاتها للقيام بأعمال مماثلة. وهي هنا تستطيع الإزعاج وتهدد
الإستقرار الداخلي الهش، ولكنها غير قادرة على التغيير السياسي
الجذري، أو ليس هذا مطمعها، ولكن فعلها قد يفتح بعض النوافذ نحو
التغيير السياسي السلمي.
في المملكة طاقة هائلة قابلة للإنفجار، وهي تستقي المزيد من مخزون
العصبيات الدينية والقبلية، ومن الأخطاء والخطايا الحكومية على مختلف
الصعد الداخلية.. هذه الطاقة قابلة للإشتعال الداخلي، كما هي للتصدير
الخارجي. وحتى الآن فإن العنف السعودي في أكثره موجه للخارج السعودي،
أو الداخل السعودي المتعلق بذلك الخارج. وهناك من يعتقد بأن المسألة
لا تعدو مجرد الوقت حتى يتحوّل مخزون العنف نحو (التدمير الذاتي) أي
للداخل السعودي إن لم يتم تفاديه سريعاً بمعالجات تسحب فتائله.. هذه
المعالجات التي ينتظرها كثيرون في المملكة وخارجها لا تلوح في الأفق،
وإن لاحت ففوق غمامة من الإضطراب العنيف.
الخوف الذي يجتاح فئات اجتماعية كثيرة من تطور العنف الداخلي يأخذ
بعين الإعتبار التطورات الإقليمية وتزايد الإحباط الداخلي، كما يلحظ
ثقافة العنف السائدة سواء لدى المواطن أو لدى المسؤول، وحقيقة أن
موانع عدم انفجار الوضع ليس رهيناً بموقف الحكومة بقدر ما هو قرار
تمسك بخيوطه فيما يبدو القوى التي تنفذه. وقد بادرت الحكومة فعلاً
بزيادة إجراءاتها الأمنية في المواقع الحكومية المهمة وفي الحراسات
الخاصة، وفي المنشآت النفطية. ترى هل جاءت هذه الإجراءات الإحترازية
من فراغ؟.
المسألة اليوم تدور حول ما إذا كانت جماعات العنف ترى بأنه آن
الأوان لإشعاله أم لا؟ هل استكملت المبررات الداخلية له أم لا؟ وهل
تتطور الأمور من تكفير الحكومة الى محاولة إسقاطها؟ وهل تقدم الحكومة
مبررات إضافية لتيارات العنف عبر انغماسها في سياسات دولية وإقليمية
تؤجج النقمة وتسحب بساط الشرعية عنها، كالتعاون مع أميركا في موضوع
العراق؟.
ختاماً، مرة أخرى نقول بأن مفاعيل العنف حاضرة في المملكة، كما أن
استمراره بل وتصاعد حدته يكاد يكون أمراً شبه حتمي، لأنه نتيجة
(طبيعية) أو ردّة فعل (عاطفية) حادّة على ما يجري من سياسات وأوضاع.
تلك السياسات لا يظهر أنها ستتغير على المستوى المحلّي، ولا يبدو
أنها ستتغير على الصعيد الخارجي (الإنغماس أكثر في الإستراتيجية
الأميركية)، ولا يبدو أن من يقف وراء تلك السياسات يفكّر في معالجات
بغير عصا الأمن.. وإذن ليس هناك من بديل يمنع الإنفجار.
قد تكون هذه نظرة بالغة القتامة، وهي كذلك حقاً. لكن المملكة ومنذ
نحو عقد من الزمان أصبحت مفتوحة على كل الإحتمالات، وجاءت أحداث
سبتمبر 2001 فجعلت ما لا يصدّق واقعاً حياً نراه على شاشات
التلفزيون.
الوضع الداخلي مخيف حقاً، وما يبعث على القلق هو أن هناك شيئاً
مكتوماً لا يبوح به المواطنون مما يجعل استقراء الوضع بالغ الصعوبة.
والأكثر إخافة هو أن تنظيراً للوضع الداخلي السعودي ودراسة لنفسيات
الجيل الجديد لم تقدم بصورة مرضية أو شمولية بحيث يمكن تتبع مواطن
الخلل وتقدم العلاجات.
إن نقص الشفافية أحد أدوائنا، وإلا من يصدّق أن عدد المنتحرين
السعوديين سنوياً يبلغ نحو ستمائة شخص (بلغ عدد المنتحرين المسجلين
عام 2000م 596 حالة، بزيادة 320 حالة عن عام 1997م، أي بزيادة 53% في
ظرف ثلاث سنوات! هذا ولا يزال الخطاب الرسمي يتحدث عن البلد المحافظ
والمؤمن الذي لا يريد رؤية وجهه الآخر). لم يسأل أحدٌ من المسؤولين
نفسه مثلاً: لماذا هذه الزيادة الرهيبة، ولماذا حصدت المنطقة الشرقية
التي لا يزيد سكانها عن 22% من مجمل سكان المملكة 40% من مجموع
الحالات أي (239 حالة انتحار) في حين أن منطقة الرياض سجلت 102 حالة
فقط، ومنطقة مكة المكرمة 77 حالة، والقصيم 50 حالة انتحار، وعسير 47
حالة؟
يبدو أن الشعب السعودي كما حكومته صندوق مغلق لم يكتشف ما بداخله
حتى الآن. إنه شعب لم يجرب تعاطي السياسة ولم يقتحم التابو إلا
متأخراً وعبر الإنترنت فقط. ومع هذا وبعد طول غياب عن الساحة
والتهميش المتعمد لدور المواطن، يأتي الأمراء السعوديون ليقولوا له:
هيا فكر في المستقبل! أنت مسؤول عن الدفاع عن الوطن! كيف؟ المسؤول
نفسه لم يفكر أبعد من أرنبه أنفه، وكان نائماً على خيارات جامدة لم
يتصور أن تكون في يوم ما بهذا العنفوان الذي نشهده، ولذا فإنه لا يرى
خيارات أمامه كثيرة، لأن النظام السياسي أصلاً متيبّس، والتفكير في
الغد شبه مشلول. وحتى إذا فكّر لم يتعود على القرار الحاسم والسريع
والجريء ويتحمل مسؤوليته، بل نهج الى المسكنات في حين أن حركة
السياسة اليومية لا تنتظره، لا إقليمياً ولا دولياً ولا حتى محلياً.
إن حركة الشارع السعودي ومطالبه وتحولاته النفسية والفكرية أسرع
من حركة الحكومة بشكل كبير.
إن موضوع العنف جدّ خطير وهذا ليس جديداً.
باختصار فإن المملكة بحاجة الى خطوات حاسمة عديدة آخرها الجانب
الأمني واستخدام العصا.
1 ـ الإصلاح السياسي ضرورة، فبدونه لا يكون هناك تنفيس حقيقي
للغليان الداخلي. والإصلاح السياسي يشمل برلمان منتخب ودستور صحيح
وحرية إعلام وصحافة وتجمع.
2 ـ ضبط الأوضاع الإقتصادية، فالنوافذ والأبواب اليوم مقفلة
سياسياً واقتصادياً ولا نظن أن هناك شعباً في العالم يتحمّل هذا.
الوضع الإقتصادي ينذر بأزمات اجتماعية. ونحن بحاجة الى إصلاح الوضع
الإقتصادي بالقضاء على الفساد، وضبط تصرفات العائلة المالكة
وحاشيتها، وتأمين أوليات الحياة الكريمة للمواطن. لازال هناك متسع من
المال فيما لو أحسن تدبيره. أزمة البطالة وأزمة التعليم الجامعي
وأزمة الخدمات الصحية، ثلاث مسائل متفجرة تنتظر الحل.
3 ـ المؤسسة الدينية تحتاج الى إصلاح وترشيد، فهي شئنا أم أبينا
أصبحت عبئاً على الدولة والمجتمع. القضاء وهيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وصلاحيات المؤسسة الدينية الواسعة في التعليم
والرقابة يجب أن تقلّ، وأن ترشد العقلية السائدة الآن. بدون هذه
الأمور لن نكون بعيدين عن العنف إلاّ قليلاً. نحن في الحقيقة على
الحافة جداً. |