كيف يحقق إنقسام السكان وحدة السلطة السعودية
في تقريرها الصادر هذا العام (2002) كتبت شركة بي إف سي
(Petroleum Financing Company) بأن ليس
هناك ما يمكن وصفه بـ (مجتمع سعودي) وانما الصحيح قوله هو مجتمعات
متعددة. ويرى التقرير بأن الانقسامات الداخلية على قاعدة مذهبية (سنة
وشيعة) او مناطقية (نجد وحجاز وربما بدو وحضر) أو قبلية تحقق ضمانات
أكيدة حيال أي ثورة وطنية، وأن أسوأ التحديات التي تواجه السلطة حسب
التقرير ستكون في الغالب ذات طابع محلي أي مناطقي.
ينبّه التقرير الى قضية على درجة كبيرة من التعقيد وهي ان انتظام
المناطق والجماعات في وحدة سياسية موحدة هي المملكة العربية السعودية
لم ينتج عن انصهار جماعي اختياري بل نشأ على أساس استتباع قهري
والحاق قسري لهذه المناطق والجماعات.
وحتى قيام الدولة على أساس غلبوي في بدايات تكوينها لا يدحض
الحاجة لاحقاً الى اعادة صهر ودمج في بنية الدولة الجديدة، تطوي
مرحلة القهر والاستتباع وتوفر قناعات جديدة للملحقين الجدد بجدوى
الانتماء لهذه الدولة.
على اخضاع مناطق وجماعات عديدة تحت سلطة ابن سعود، بحيث طال
الالحاق الحجاز بشموخها التاريخي وتنظيمها الاداري وموروثها الثقافي
والديني وسجلها الادبي والفني، كما طال مناطق اخرى عزيزة كالاحساء
وعسير وحائل. ولكن هذا النجاح لم يتجاوز البعد السياسي وتحديداً
المتصل منه بفرض السلطة وتعزيز اركانها.
وظلت المشكلة الدائمة المترافقة مع الدولة منذ نشأتها هي كيف يمكن
تحقيق الوحدة الشاملة والاندماج الحقيقي المؤسس على فرص متكافئة في
العملية التنموية وفي الجانب الاقتصادي أولا، وحصص متعادلة في
التمثيل السياسي، وحقوق ثقافية متوازية بين الجماعات المنضوية داخل
مظلة الدولة الجديدة.
هذه المشكلة لم تحل ولا يبدو أن النخبة الحاكمة كانت ترى في
الاندماج الشامل خياراً يستحثها لانجاز ما يمكن ان يوصف بتحقيق شروط
الدولة القومية الحديثة أي دولة ـ الوطن. فما جرى تحقيقه عام 1932 هو
تأسيس دولة بلا وطن، دولة تحققت فيها طموحات الاسرة السعودية
المالكة، بينما لم يربح الشعب من هذا التأسيس وطناً يعيش فيه على
اساس مواطنة متساوية وشعور مشترك وانسجام داخلي.
لقد أصرّت النخبة السياسية الحاكمة على تحقيق كافة مقومات السلطة
الموحّدة. ولذلك سعى ابن سعود الى توفير التوافق الديني ولكن في نجد،
وقرر توحيد النظام القضائي على اساس الاحكام الواردة في المدرسة
الفقهية للامام احمد بن حنبل. وسارت عملية التوحيد والواحدية في سياق
تعزيز السلطة السياسية وتوحيدها.
نتيجة ذلك، أن ما أرسي في هذا البلد الكبير هو أسس انقسام المجتمع
لغرض توحيد السلطة، فالمؤسسة السياسية تم احتكارها ضمن دائرة الاسرة
المالكة والدوائر القبلية النجدية القريبة منها، والمؤسسة الدينية
بانغلاقها على علماء وأتباع المذهب الوهابي وفي الغالب ضمن الحدود
النجدية، ويستوعب الانقسام المؤسسة العسكرية بفروعها المختلفة
والمؤسسة الامنية، وهكذا المجالات الاخرى التجارية، والثقافية.
حتى سنوات قريبة ماضية كان الاعتقاد بأن السعودية تمثل أبرز نموذج
تحقق فيه الانسجام بين مناطقه وجماعاته، ولكن هذا الاعتقاد ظل يختفي
خلف الهدوء السياسي النسبي الذي عاشته البلد بسبب أوضاع معيشية
مستقرة الى حد كبير، مع بدايات اضطراب هذه الاوضاع في منتصف
الثمانينات وانكشافها للخارج في أزمة الخليج الثانية عام 1991 بدأت
أسس ذاك الاعتقاد تتقوض نتيجة ما ظهر من حقائق جديدة، هدّمت ما كان
متوهماً عن الانسجام الكبير بين مناطق وفئات المجتمع في السعودية.
بل ان مقدار ما تكشف من حقائق للباحثين والمراقبين، كما هو الحال
بالنسبة لمعدي تقرير التحديات التي تواجه السعودية في القرن الحادي
والعشرين الصادر عن بي إف سي المومأ اليه في بداية المقالة، قادهم
للقول بأن ثمة حقيقة اخرى تختفي خلف عدم تشكّل (مجتمع) سعودي.
هذه الحقيقة تتلخص في أن تشكل هذا (المجتمع) ينذر بمخاطر محتملة
على وحدة السلطة. فالاندماج بين المناطق والفئات وانفتاحها الثقافي
والسياسي والاجتماعي يعني فيما يعني أن ثمة فرص للتشكل الاعتراضي قد
تنجح في تهديد مصير السلطة ووحدتها. مجلة ميريا (ميديل ايست ريفيو
Cf] انترناشيونال أفيرز) نشرت دراسة في ديسمبر عام 1999 بعنوان:
المملكة العربية السعودية: عناصر اللاإستقرار داخل الاستقرار، لداريل
شامبيون.
بعد استعراض الكاتب لتصاعد حركة الاحتجاج السياسي في السعودية منذ
الغزو العراقي للكويت في اغسطس عام 1990، حاول تقديم قراءة تشريحية
للمعارضة السياسية في السعودية. وقد لحظ بأن هذه المعارضة لا تميل
للعنف الا أنه لحظ ايضاً الانقسام الحاد بين جماعات الاعتراض السياسي
في السعودية. فالمشاركون في التوقيع على (مذكرة النصيحة) التي رفعت
للملك فهد بعد صدور الانظمة الثلاثة في مايو 1992 كانوا في الغالب من
نجد ومن تصنيف مذهبي موحد تقريباً.
كتب شامبيون يقول (المعارضة في السعودية كانت دائماً متشظية وان
الوضع سيبقى كذلك دون تغيير في المستقبل المنظور. فكل تجارب
المعارضات السياسية في السعودية القديمة والحديثة تؤكد الصعوبة
البالغة لتشكل معارضة وطنية حقيقية تضم بداخلها مجموعات متنوعة
مناطقية وايديولوجية وايضاً مذهبية. والسبب المركزي وراء الصعوبة
يكمن دائماً في ضعف التواصل والانفتاح وربما الثقة بين المناطق
والجماعات في هذا البلد).
يعتقد بعض المراقبين بأن غياب معارضة سياسية وطنية منظمة سببه
قدرة النظام السعودي على صناعة مجتمع متشظي. ففي مجتمع كهذا يكون
الافراد فيه غالباً مستعدين للنقد ليس الا، أي أن النقد لا يتحول الى
عمل. فالمعارضة في السعودية محدودة وتأتي من اتجاهات مختلفة. وهناك
من يتطرف لحد الاعتقاد بأن ليس هناك معارضة حقيقة في السعودية بناء
على افتقار هذه المعارضات القدرة على التمثيل الوطني، أي انعدام
لآليات قابلة لاستيعاب جماعات اخرى خارج أُطر الانتماء التقليدي أي
المنطقة والمذهب والقبيلة.
وتساق أدلة انشطار المعارضة السياسية في السعودية لاثبات شيء آخر
الا وهو انقسام السكان كعامل رئيسي يوظّف غالباً لتحقيق وحدة السلطة
وخصوصاً في بلد تكون فيه السلطة هشة او تخشى التحالفات الداخلية التي
تؤدي الى تقويضها، تماماً كما أن التحالفات التي أسستها الاسرة قبل
قيام الدولة أدت الى تقويض أسس الوحدات التقليدية القائمة سابقاً. |