أخطاء السياسة الخارجية السعودية ونتائجها الكارثية
إنتهى وقت الزراعة وحان قطاف الحصاد المر
زيارة ولي العهد الامير عبد الله الى حي الشميسي بالرياض في
الحادييمكن القول أن العقد الماضي بالنسبة لأمراء آل سعود كان بحق
عقد حصاد سياسي بعد طول زرع فيما سبقه من عقود.
عام 1990 كان بداية الحصاد المرّ حين غزا العراق الكويت، وأطاح
بعقد تحالف سعودي عراقي كان قائماً على مشروع مواجهة إيران، وراح
ضحيته أكثر من مليون عربي ومسلم من القتلى غير الجرحى والأسرى وضياع
مئات المليارات من الدولارات. ذلك الخطأ لم يعترف به السعوديون،
فالمسألة لا تعدو (نكران جميل) عراقي للسعودية، دفعت الأخيرة فيه
خمسين مليار دولار فقط، وقدمت الى صدام كل ما يحتاجه وفق مبادئ
الشهامة والأخوة العربية. حصيلة ذلك كان الغزو، وحصيلة الغزو المزيد
من القواعد العسكرية للأميركيين، وعشرات المليارات الأخرى احترقت في
أتون المعركة لتحرير الكويت، وأتت على ما تبقى من أرصدة في البنوك
الغربية.
خطأٌ يجرّ آخر.. استبدل الخطر الإيراني المحتمل بخطر عراقي أكبر
مؤكد، واستبدل الخطر العراقي بخطر أميركي أشدّ منه. نتج عن هذا
الأخير مقتل نصف مليون طفل عراقي، وتدمير بنى الدولة العراقية. هذا
والسياسة السعودية حتى الآن لا تعترف بأنها أتت خطيئة، لا في البدء
ولا في الختام. لم تعترف بخطئها حين تآمر الملك فهد مع صدام في
الطائف حيث قرر الحرب ضد إيران، ولم تعترف بخطئها حين استدعت كل جيوش
الدنيا وفي مقدمتها الجيش الأميركي لإخراج العراق من الكويت، وكان
نضالها سجالياً وساذجاً: هل يحق لي فعل ذلك أم لا؟ وليس ماذا سيحدث
بعدئذ؟ وكلما تصاعدت المشاكل كانت الإجابة السعودية غير مقنعة. فهي
ليست مع صدام، وليس مع إزالته عبر انتفاضة شعبية.
وهي ضد النظام العراقي، تفتح أجواءها لقصفه، بذريعة تطبيق قرارات
الأمم المتحدة، وهي في الوقت نفسه مع تجويع الشعب العراقي ومع إغلاق
حدودها لتجويعه.. والمسؤول ليس أميركا والسعودية وحلفائهما من
غربيين، بل هو صدام حسين نفسه، فهو حسب السياسة السعودية من يتحمل
مسؤولية ما يجري على شعبه، أما هم وقرارات الحصار الظالمة فليس لها
يد فيها. والآن، لا تريد الحكومة السعودية تطبيق قرارات الأمم
المتحدة بشأن ما يُزعم من وجود أسلحة دمار شامل، والتي أيدتها وطالبت
العراق بالإمتثال لها، ولا تقبل بالقرارات الجديدة والتي تشير الى
مطلب تغيير النظام هناك.
وحتى الآن، لم يفعل أمراء آل سعود خطأً يعترفون به، لا ضد شعبي
إيران والعراق، ولا تجاه شعبهم نفسه، فكل ما كانوا ولازالوا يفعلونه
أمراً مشروعاً في الدفاع عن أنفسهم، وعلى الآخرين وبالخصوص شعبهم أن
يتفهم ما يفعلونه رغم أنهم يتنقلون به من سياسة النقيض الى النقيض.
أيضاً حصدت السعودية نتاج سياستها في أفغانستان، فهي أيّدت الجهاد
يوم كان في خدمة الغرب وضد الشيوعية، ودفعت بأبنائها وأموالها
للمساهمة فيها لتشكل النموذج الإسلامي المقابل لإيران، وكانت النتيجة
حرباً أهليّة انخرط السعوديون في ترجيح طرف على آخر رغم محاولاتها
الظاهرية لإصلاح ذات البين، فلما غرقت السفينة دعمت الطالبان وكانت
بين ثلاث دول اعترفت بها، فكان نموذج الدولة الإسلامية الصحيحة بل
الوحيدة بنظر متطرفي الوهابية. أما أبناء المملكة الذين سهلت ويسرت
لهم وسائل الوصول الى الباكستان وأفغانستان، فأصبحوا أفغان عرب
يهددون ـ بعد ان قضى آل سعود وطرهم من جهاد الشيوعية ـ نظامها
والأنظمة الصديقة، وراحت تطاردهم وتحقق معهم وتعاقبهم على ما فعلوه.
أصبح مجاهدو الأمس أعداءً، طريدي العدالة، وأصبح السفر الى أفغانستان
والباكستان تهمة تلاحق عشرات الألوف من المواطنين، الذين تعتقد
العائلة المالكة أنه جرى إعادة انتاجهم من جديد لممارسة المعارضة
ضدها وبغرض إزالة حكمها. وما موضوع القاعدة وأسامة بن لادن إلا نتاج
لتلك السياسة السعودية التي كانت تعتقد بأن ما فعلته مساهمة
للمخابرات الأميركية في حرب الروس، وإذا به تكتشف اليوم أن تلك
المساهمة أصبحت دليل إدانة ضدّها لدى الحليف الأميركي.
هذا ولم يخطئ الأمراء فيما فعلوه. الجميع أخطأ دونهم! يزعمون أنهم
كانوا يؤدون واجباً دينياً في بداية حربهم لروسيا ودعمهم للمجاهدين،
وهم يطالبون بالثمن من الفصائل الأفغانية المتقاتلة. ثم زعموا في
النهاية حين بدأ تكسير عظام الضحايا العائدين من المجاهدين، أن
أفغانستان أصبحت بؤرة تنشر الإرهاب والإضطراب الى دولتهم والى الدول
الحليفة والصديقة وخاصة أميركا، بينما هم أرادوها شوكة في خاصرة
أعدائهم الإيرانيين على وجه التحديد. وبهذا تحوّل كلّ ما أنفقته
الحكومة السعودية وكلّ ما فعلته الى وبال عليها، ولاتزال حتى الآن
والى الغد تدفع ثمناً باهظاً لسياستها التي (لا تخطئ) فالعيب في
(الآخر) دائماً: إبن لادن والملا عمر وقادة الفصائل الأفغانية
الأخرى. أما هم فمبرءون عن فعل العيب.
أما السياسة السعودية تجاه أميركا، فقد حرق الأمراء بترولهم
وأصابعهم وكتابهم المقدس وضحّوا بالغالي والنفيس إرضاءً لها. وكانت
النتيجة كما نشهدها عياناً اليوم: حملات إعلامية، واتهامات بتمويل
الإرهاب، وتهديدٌ بتقسيم البلاد وإزاحة آل سعود عن الحكم. إن أكثر
دولة دافعت عن أميركا وانخرطت في سياساتها هي السعودية، وهي اليوم
أول دولة عربية يضعها الأميركيون في مرمى نيرانهم، بل وتشاء الصدف ـ
أو الإرادة الإلهية ـ أن يكون أكثر الأمراء التصاقاً بالولايات
المتحدة مقدمة المستهدفين والمطعون فيهم. تركي الفيصل، المسؤول الأول
عن الإستخبارات الخارجية والتنسيق مع أميركا نموذج ليس بالوحيد.
فهناك بندر بن سلطان الذي يعاني من تداعيات موضوع دعم زوجته لإثنين
من مفجري أبراج نيويورك ـ كما يقول الأميركيون ـ نموذج آخر، إضافة
الى نايف وزير الداخلية وسلطان وزير الدفاع، والأمير سلمان، ووزير
الأوقاف وأمراء آخرين يعدّون من أشدّ دعاة التحالف مع أميركا.
والى الآن، لم يعترف أمير سعودي بخطأ السياسة المنتهجة في الماضي
تجاه أميركا، بل يعتقدون بصدق أنهم لم يخطئوا بحقها، ولم تتغيّر
نظرتهم تجاهها، ولا اعتذروا عن فعل أو سياسة أو نهج سابق، بل اعتبروا
الأميركيين مخطئين ولا يقدرون المصلحة وينكرون الجميل الذي أسدوه
لهم. لم ينطق أحدٌ من الأمراء باعتراف أن ارتهان السياسة السعودية
العسكرية والسياسية والإقتصادية لأميركا كان مشجّعاً لها للإستخفاف
بالعائلة المالكة وبالدولة السعودية نفسها، ولم يتنبهوا بعد الى
حقيقة أن مصادمتهم للمشاعر المحلية جعلتهم ضعفاء يرتجفون من كل تهديد
أميركي أو إعلامي دونما سند شعبي أو تعبئة سياسية داخلية.
وقائمة الحصاد المرّ السعودي لم تنته، بل هي البداية.. فهناك
إضافة الى ما ذكر، قطر التي قلبت للسعوديين ظهر المجنّ لتنتقم من
موقفهم ضدها: أولاً حين وقفوا مع البحرين في صراع الحدود حول جزر
حوار، وثانياً حين قضموا أراضٍ قطرية نشبت على أثرها معركة (الخفوس)
في عام 1992، وثالثاً، وهو الأهم، حين موّلوا بالتعاون مع البحرين
انقلاباً ضد الأمير الحالي انطلاقاً من قواعد في السعودية، يقول
القطريون أن لديهم الإثباتات الكاملة (محفوظة) ليوم (النشر)!! ربما
في قناة الجزيرة، أمضى الأسلحة القطرية فتكاً وتأثيراً على الإطلاق.
أما حصاد السعوديين المرّ من اليمن فقد يكون أكثر جلاءً في الشهور
القادمة. فالرأي العام اليمني شديد العداء للحكومة السعودية لسببين:
جريمة طرد اليمنيين بعيد الغزو العراقي للكويت دون أن تتاح للكثير
منهم حتى فرصة تصفية ممتلكاتهم. ثلاثة ملايين يمني قذفت بهم السياسة
السعودية فيما وراء الحدود، وسهّلت على فاقدي الضمير والدين
الإستيلاء على ممتلكات الكثير منهم دونما جريرة أو ذنب ارتكبوه. تلك
الجريمة لاتزال حيّة في النفوس، لم يلتفت أحد الى تبريراتها
(الإقتصادية) كتوفير العمالة للسعوديين! (هناك اليوم 7 ـ 8 مليون
عامل أجنبي). السبب الآخر هو انخراط السعودية (والكويت على وجه
التحديد) في تمويل الحرب الإنفصالية بعشرات الملايين من الدولارات،
وبأرتال الدبابات ومختلف أنواع الأسلحة ووصل الأمر الى استقدام
طيارين مرتزقة للمساهمة في الحرب، هذا بالرغم من الأميركيين ـ حلفاء
آل سعود ـ كانوا أشدّ المتحمسين للوحدة اليمنية، لأسبابهم الخاصة بهم
وفي مقدمتها تحويل اليمن الى عنصر تهديد للسعودية نفسها. وهذا المسلك
السعودي، رغم ترطيب الأمير عبد الله الأجواء، أخرج اليمن ومن قبلها
قطر من دائرة الفلك السعودي، وصارت تتبنى سياسات لا تتواءم بالضرورة
مع المصالح السعودية. وكان بإمكان السعوديين، معرفة الإتجاهات
الشعبية اليمنية، وانتهاج سياسة تحبط الخطط الأميركية، ولكنه الغرور
والصلف والنظرة الدونية لليمن دولة وشعباً، والذي قادهم الى إشهار
العداء.
والآن سيأتي الدور على اليمن لتردّ الصاع صاعين، إلاّ إذا قدّم
السعوديون تنازلات حقيقية مادية بالدرجة الأولى، هم اليوم غير قادرين
على تقديمها. وعلى نفسها جنت براقش.
اليمن والأردن وإيران وحتى عُمان والإمارات، قدمت شواهد على حصاد
السعوديين المرّ من سياساتهم الخاطئة، وهي تتفجّر بين الحين والآخر.
هذا في وقت يقوم فيه بعض أمراء الأسرة المالكة، بصنّع أعداء جدد
لبلادهم (المثال الحي والأخير الحملة العنيفة غير المبررة التي شنّها
وزير الداخلية ضد الإخوان المسلمون في صحيفتي السياسة الكويتية
والشرق الأوسط).
ورغم هذا التخبّط، يأتي من يتساءل ببلاهة: لماذا يقف العالم
العربي شعبياً وحكومياً ضدّ المملكة؟ لماذا وقفت كل الحركات
الإسلامية والجمعيات الدينية التي كانت المملكة تمولها ضد الحكم
السعودي؟ ولماذا يشمت كثيرون بالمملكة وهم يرون حلفاء الأمراء من
الأميركيين وهم يوسعونهم ضرباً وتهزيئاً؟!
هذا ما صنعته أيدي الأمراء، فلم يبارك الله لا في مالهم ولا في
أفعالهم. |