(الدولة) السعودية متوحشة تميل الى (إنتاج) المختلف وتبث
الكراهية بين مواطنيها
لماذا يتكاثر اللامنتمون للدولة؟
ندرك تماماً الاسباب التي تجعل وشائج بعض الجماعات بالدولة ضعيفة،
فالشيعة في المنطقة الشرقية والمنطقة الجنوبية الذين شعروا بالحرمان
والتمييز على قاعدة مذهبية، وقبائل العجمان وشمر وغيرهما على قاعدة
قبلية، ومناطق الغرب الشمال والجنوب على قاعدة مناطقية، كل هؤلاء
يمثّلون نقاط ضعف في بنية الدولة السعودية، اذ فيها يضعف إحساس
الافراد بالانتماء للدولة.
ضعف، وربما انعدام، الاحساس بالانتماء للدولة يردّه البعض الى
التكوين الايديولوجي والاجتماعي او التنشئة العائلية، ولكن الامر ليس
دائماً كذلك. فهناك من الامثلة المضادة ما يثبت عكس اتجاه التحليل
السائد، بل هناك من يحمّل الدولة مسئولية زرع وتنمية مشاعر الانتماء،
كما يحمّلها مسئولية اقتلاع تلك المشاعر وتحطيمها.
الفريق القائل بمسئولية الدولة في تنمية مشاعر الولاء او البراء
من الدولة يرى بأنه لا يمكن تصوّر جماعات يُقدح رسمياً في عقائدها
(الشيعة مثالاً) ويهمّش تمثيلها السياسي (العجمان وآل الرشيد مثالاً)
ويقلل من شأنها (الشرقية والغربية والجنوبية والشمالية)، أن تقدّم
فروض الطاعة لدولة قررت منذ البدء الاصطدام بهذه الاطراف ونبذها،
وكأن علاقتها بهم مؤقتة ستنتهي ريثما تستكمل غايتها منهم.
فالادبيات الدينية، مثلاً، والتي شاع انتشارها وسط جنود إبن سعود
وحليفه الديني كانت تحمل رسالة ''توحيد'' من نوع آخر، الا وهو توحيد
عقيدة المجتمع، أي بمعنى آخر ''توهيب'' الدولة وبناء مجتمع وهابي في
المناطق التي جرى اخضاعها بالقوة وألحقت بالمركز النجدي، ولذلك بقيت
النزوعات الايديولوجية وآمال الدعاة الاوائل على حالها حتى الآن، فهم
يتصرفون وكأن الدولة يجب ان تسير بتكسير هذه الجماعة وعزل تلك
المنطقة وتهميش تلك القبيلة، أملاً في اقامة دولة متوحدة مذهبياً.
ولكن هذا لم يحصل بل الادلة تتكاثر على استحالة حصوله في المستقبل
ايضاً، ولكن الخطاب ظل كما هو لم يتغير، خطاب يتجاوز واقع التعددية
المذهبية والاجتماعية والمناطقية والايديولوجية كميزة أصيلة ومترسخة
في هذا البلد.
ما حصل ايضاً أن تدابير الدولة قادت تدريجياً الى تصنيف الغالبية
العظمى من السكان في خانة غير الموالين للدولة، ثم جاءت حقائق لاحقة
ومبررات اضافية كيما تفصل قطاعات اخرى عن مركز الدولة. فالتدهور
المتواصل في الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية الماثل في الخدمات
التعليمية والصحية ونسبة البطالة وزيادة الضرائب والرسوم، وهي محك
اختبار كفاءة الدولة، أقنع كثيرين بعدم جدارتها في البقاء، وخصوصاً
بالنسبة لأولئك الذين لم يشهدوا أيام الطفرة، ولم يمسهم بعض ما كان
يوصف حينها بـ ''جميل الدولة''، فهؤلاء في حلّ من كل ارتباط سابق
ووشيجة جميل لم يكن بامكانهم التحرّر منها.
في حقيقة الأمر، لو قدّر لأحدنا اختبار نسبة ولاء السكان للدولة
منذ قيامها وحتى وقتنا الحاضر، لوجد بأن هناك انخفاضاً حاداً في ولاء
السكان. وتفسير ذلك واضح، فسياسات الدولة وأجهزتها وسلوكها العام
وتدابيرها لا يمكن الا أن تُخرج من أسوارها أكثر مما تُدخل. فالذين
لم يجرِ تمثيلهم سياسياً في مؤسسة الحكم، والذين لم تحترم حقوقهم
الدينية والاجتماعية، والذين لم ترع خصوصياتهم التاريخية والثقافية،
والذين حوربوا في رزقهم وحقهم في العيش حياة كريمة.. كل هؤلاء لا
مكان للدولة في قلوبهم، وإن التزموا الصمت لفترة من الوقت.
وبصراحة أكبر، لم تلزم الدولة السعودية جماعة خارج منطقة
الامتياز، أي منطقة نجد، بجميل صنع فعلته بحيث يستوجب رد الجميل،
ولكن هناك من المتضررين من سكان هذا البلد ممن صودرت اموالهم
وممتلكاتهم وحاول بعض الامراء مقاسمة بعضهم في ''حلاله ومحاله''،
فيما تحولت أوقاف وأراضي ومراكز الى أسماء بعض الأمراء دون وجه حق،
كما جرى في ارجاء الحجاز، سيما مكة المكرمة والمدينة المنورة.
مشاريع التحديث، أو خطط التنمية الخمسية، التي شهدتها البلاد كانت
كفيلة بإعادة دمج المجتمع وادخاله ضمن العملية التنموية العامة،
وبالتالي كانت الدولة في سنوات الطفرة أمام فرصة ذهبية من أجل كسب
ولاء السكان وتشكيل الهوية الوطنية الجامعة، وتشييد مؤسسات الدولة
الوطنية الحقيقية.. ولكن كل هذا لم يحصل، وانتهت سنوات الطفرة ودخلت
الدولة في سنوات عجاف وليس لديها ما تستند عليه في محنتها الراهنة.
فالذين خسروا في زمن الطفرة ليسوا على استعداد للتضحية في زمن
المحنة. والذين لم تنجح الدولة في تحويلهم الى موالين في زمن الرخاء
ليسوا على استعداد لعرض ولائهم في زمن الشدّة.
فالدولة لدينا فتحت معركة مع رعاياها خارج نجد وربما بداخلها
أيضاً، فلم تتحول الى الدولة الرحيمة كما يصفها جمال الدين الافغاني
التي تحنو على رعاياها وتشيع بينهم مشاعر المحبة والرحمة، بل كانت
دولة متوحشة، تميل الى (إنتاج) المختلفين أكثر من (المتوافقين)، وتبث
الكراهية بين مواطنيها أكثر مما تبعث المحبة والرحمة بينهم، وقد
اقتفت هذا السياسة حتى في أحلك مراحلها، ولاتزال سياستها اليوم خير
شاهد على ذلك.
فالدولة حالياً تعيش أسوأ ظروفها، إذ يكثر المنسحبون عنها،
وتتربصها المشاكل في مركز قوتها، داخل نجد التي بدأ بعض أهلها يشعر
بعبء الانتماء لهذه الدولة. لم يمنع هؤلاء انتماؤهم التقليدي للمنطقة
والمذهب والقبيلة التي تشاركهم فيها العائلة المالكة، من التعبير عن
سخطهم من الاخيرة. فحين تجف مصادر الولاء التي فبركتها الدولة
لحلفائها، لم يبق هناك ما يربط الدولة بهؤلاء إلا إعادة الروح لتلك
المصادر.
شراء الولاء غير ممكن في ظل انخفاض ''كمية النقود'' المتوفرة في
أيدي الحكام، وهذا ما يجعل تعداد اللامنتمين للدولة في تزايد مستمر،
أما المتضررون فقد حسموا أمرهم وباتوا ينتظرون مرحلة تكون فيها مكانة
الدولة شاغرة. |