الوهابية كتلة ملتهبة قذفها السعوديون ضد ''الآخر''
قراءة نقدية في الخطاب الديني الرسمي
هناك، بلا ريب، ما يبرر الفزع لدى القيادة السعودية، وهناك ايضاً
ما يبرر المنافحة امام الهجمة الاعلامية الاميركية والتي قد تنطوي
على اهداف تتجاوز حدود المأزق الافغاني وتنظيم القاعدة بقيادة اسامة
بن لادن، وحتى التيار السلفي الراديكالي، وهناك ايضاً ما يبرر كثافة
التواصل بين القيادتين السياسية والدينية في المملكة. فالسعودية التي
انطفأت أضواء الاعلام الغربي فيها بعد حرب تحرير الكويت في فبراير
1991، وجدت نفسها الآن في مركز الاهتمام الاعلامي الغربي وعلى وجه
خاص من الحليف الاستراتيجي الذي طالما لجأت اليه لمواجهة تهديدات
المجاورين.
اللقاء المحموم بين قادة الاخوان والملك عبد العزيز بعد استكمال
اجراءات اخضاع منطقة الحجاز في العام 1926 لخص مجمل الازمة العميقة
بين العلماء والامراء. فبينما حسم الامير ابن سعود موقفه بالامتثال
لقوانين السياسة الدولية والقبول بالحدود الدولية المرسومة من قبل
القوى الكبرى، كان قادة الاخوان يرون بوقف ابن سعود لمشروع ''نشر
الدعوة'' في الآفاق خيانة للمثل الدينية التي قامت عليها حركة الدعوة
الوهابية.
هذه الازمة العميقة بين رجال الدعوة ورجال الحكم رغم تواريها
الظاهري خلف سطوة الدولة والتدابير المتواصلة لترسيخ اسس السلطة
الجديدة في المناطق ''المفتوحة'' ظلت دائماً حاضرة، ولعل تخصيص جزء
كبير من المخزون الدعوي لهذه المناطق بغية اخضاعها لمذهب الدولة
الرسمي كان مقرراً له ان يمتص جزءا من النزعة شديدة الضراوة ''لنشر
الدعوة'' عبر ممارسات هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واقرار
تدريس المعتقدات الدينية وفق المنظور الوهابي في المدارس الحكومية،
وتشجيع بناء المساجد وطباعة كتب الدعوة على المستويين المحلي
والدولي.
وكان توفر فرص خارجية في افريقيا وشرق آسيا وافغانستان واخيراً
جمهوريات آسيا الوسطى قد يحقق بلا شك بعض ما يختزن الخطاب الدعوي
الوهابي من رغبة جارفة في ''تصدير'' الوهابية الى الخارج، الأمر الذي
عبر عنه أمين عام رابطة العالم الاسلامي عبد الله بن عبد المحسن
التركي بقوله: ''كان الملك عبدالعزيز وكانت السياسة السعودية المتزنة
دائما تتابع وتحرص على خدمة القضايا العربية والإسلامية''.
فتصميم جيش المسلمين ـ الوصف المتكرر في تغطية ابن بشر وابن غنام
لحملات جيوش نجد على المناطق الاخرى في الجزيرة العربية ـ على غزو
ديار المشركين واستيعابهم في مشروع ''اعتناق الاسلام''، قد وفّر
دائماً قابلية مفتوحة لدى جحفل الدعاة الوهابيين في تحقيق المنجز
الدعوي في ارجاء المعمورة.
النشاطات الدعوية سواء الداخلية او الخارجية لم تسر دائماً في خط
مواز او متناغم مع التوجهات السياسية للدولة بل في كثير من الاحيان
تسببت هذه النشاطات في مشاكل كبيرة في المناطق التي تمت فيها، ويكفي
قراءة كتابات الاستاذ فهمي هويدي مثل ''ثقوب في الوعي الديني''،
''أزمة الوعي الديني'' و''حتى لا تكون فتنة'' وكتابات المرحوم الشيخ
محمد الغزالي واهمها ''السنة النبوية بين اهل الفقه واهل الحديث''
و''ليس من الاسلام'' و''دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين''..
وكذلك كتابات الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ''السلفية مرحلة زمنية
مباركة لا مذهب اسلامي'' وغيرها من الكتابات، عبرت عن مواقف اعتراضية
على المنهج الدعوي الوهابي والارتدادات السلبية التي خلقتها هذه
النشاطات. ولربما كان القادة السياسيون في المملكة يضربون صفحاً عن
تجاوزات رجال الدعوة سواء في الداخل أو الخارج طالما ان هذه
التجاوزات محتملة أو أنها لا تؤول الى خسائر سياسية داخلية او حتى
دولية.
تفجيرات نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر وجّهت الى
الخطاب الديني السعودي الرسمي ضربة قاسية فور توجيه اصابع الاتهام
الى 15 سعودي من اصل 19 متهما في التفجيرات وما لحق ذلك من حملة
اعلامية مكثفة تقودها كبريات الصحف ومحطات التلفزة الاميركية، والتي
تحمل التعليم الديني في المملكة مسئولية نمو مشاعر الكراهية ونزعة
العنف بين السعوديين تجاه غير المسلمين باعتبارهم كفاراً. هذه الصحف
والمحطات سلطت ضوءاً كثيفاً على المواد الدينية المقررة في المدارس
والجامعات الحكومية في المملكة، وتوصلت الى نتيجة ان هذه المواد من
شأنها اشاعة روح الكراهية ضد غير المسلمين.
بكلمة.. ان ثمة أزمة سياسية بين حكومة المملكة والولايات المتحدة
استعلنت نفسها على نحو غير مسبوق وربما بارادة اميركية، وكانت
ايذاناً بمرحلة حرجة شهدتها العلاقات بين البلدين، عبر عنها ولي
العهد الامير عبد الله ضمنياً بقوله ان بلاده تعيش ''اياماً عصيبة
تتطلب الحكمة والوعي في الحديث والخطاب والتصرف''.
اتساع الحملة الاعلامية الغربية والاميركية تحديداً على السعودية،
وبخاصة على نظام التعليم الديني فيها والذي حمّل مسئولية تشجيع العنف
والارهاب، دفع بقيادة المملكة الى اعتماد مبدأ الشفافية في عرض
القضايا والتعامل معها وان تطلب احياناً تسليط الضوء على اخفاقات
مسكوت عنها في هذا البلد، كما في زيارة ولي العهد الامير عبد الله
لحي الشميسي بالرياض، والذي مثّل إقراراً ضمنياً بمشكلة فقر مدقع
أصابت ملايين من المواطنين في بلد يختزن أعلى احتياطي نفطي في
العالم.
الشفافية السعودية بدأت ملامحها مع خطاب الامير عبد الله في
الرابع عشر من نوفمبر عام 2001 أمام رؤساء أجهزة المؤسسة الدينية
الرسمية الممثلة في هيئة كبار العلماء وادارة البحوث العلمية
والافتاء، ومجلس القضاء الاعلى، وهيئة التمييز والمحاكم، وديوان
المظالم، وهيئة التحقيق والادعاء العام، واللجنة الدائمة للافتاء،
وهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووزارة العدل ووزارة الشئون
الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد. وهذا الخطاب جاء بعد يومين من
تفكك بنية حكومة طالبان وبدء الترتيبات لاقامة حكومة جديدة في كابول،
وانتصار الولايات المتحدة وبريطانيا في الحرب ضدها، وكان من المؤكد
أن هذا الانتصار سيبقي باب النقد مفتوحاً على السعودية التي باتت
تشعر بأنها الهدف التالي للتحالف الدولي، حيث صنّفت الوهابية بأنها
مصدر للعنف والارهاب للقاعدة ولطالبان. في رد فعل على هذه الاتهامات،
سارعت القيادة السعودية لمواجهة التطورات المتسارعة بابداء التعاون
مع قادة التحالف في الحملة على الارهاب واستباق اي تطورات قد تؤثر
سلبياً عليها.
مسؤولية الدولة
سؤال يفرض نفسه دائماً: اين دور الحكومة مما جرى؟ وهل ان خطابها
الديني يصاغ من خارجها او بالاصح دون علمها؟. كانت حاجة السلطة
السياسية للغطاء الديني والمعنى الشرعي شديدة الالحاح منذ تقررت
المصاهرة بين الدين والدولة والتي بموجبها تصبح ممارسة السلطة مشروعة
ومستكملة للشروط الضرورية الواجب تحققها في الحاكم الشرعي.
وبمقدار ما أفادت المؤسسة الدينية من دعم الدولة اللامنقطع في
تحقيق ما تراه من تطلعات، وفي رأسها نشر الدعوة وبالتالي اتساع رقعة
سلطانها الروحي والرمزي، فإن الدولة هي الاخرى وظفت المؤسسة الدينية
بكافة فروعها ورموزها الكبار في دعم سياساتها وتحقيق اهداف سياسية لم
يكن بالامكان انجازها بدون الرموز الدينيين. فمنذ نشاة الدولة كانت
المؤسسة الدينية العاضدة الاساسية لمشاريعها والخصم اللدود لمنافسيها
المفترضين والمحارب العنيد لاعدائها في الداخل والخارج. فبيانات
وزارة الداخلية المشفوعة بحكم هيئة كبار العلماء القاضي بتهمة
''الافساد في الارض'' والتي تشمل طيفاً واسعاً يبدأ بمهربي المخدرات
ويمر بمروجي عقائد مخالفة للعقيدة الرسمية للدولة، وانتهاءً
بمعارضيها السياسيين، تقدم دليلاً غير قابل للكسر على التنسيق
المباشر بين أهل الحكم وأهل الدعوة. كانت الفتاوى تصدر برغبة الدولة،
وكان العلماء قادرين على تبرير انتكاستهم واستضعافهم بل وقادرين على
تمرير المفاسد الصغيرة بحسب ''اجتهادهم الشرعي'' لدرء مفاسد كبيرة،
ولهذا السبب سقط بعض الابرياء بسلاح الدولة وبفتوى رموز الشرع، وكان
هناك ما يكفي لتبرير أخطاء المجتهد فكيف اذا كانت في مسائل مرتبطة
بمن تصفنهم المؤسسة الدينية الرسمية ضمن قائمة ''فاسد المعتقد'' وهو
وصف مفتوح لغير المنتمين للمعتقد الديني الرسمي.
على أنه لا يجب تحميل المؤسسة الدينية المسئولية كاملة في
التداعيات السلبية للحركة السلفية او سياسة تصدير الدعوة. فقد يرى
بعض المتضررين من غلواء المؤسسة الدينية في نصائح الامير عبد الله في
نوفمبر 2001 لرموز المؤسسة بالتأني والتحري وتحمل أمانة الكلمة
واللجوء الى ''الكلمة الطيبة''.. محاولة لتسوية ازمة سياسية عاجلة
بين الحكومة السعودية والولايات المتحدة، ولعل ذلك واضح من تعقيبه
''اننا نحن الان في موقف يتطلب منا الحكمة ويتطلب منا الوعي''، او
قوله ''آمل منكم أن تقدروا هذه المسؤولية أمام الله جل جلاله وأمام
شعبكم والمسؤولين لكي لا نكون في موقف حرج''، فيما قد يرى البعض
الآخر بأن ثمة ارادة عليا لتخفيض دور المؤسسة الدينية ونفوذها في
الحقلين الاجتماعي والسياسي من خلال ترديده ''فلا غلو في الدين، لا
غلو في الدين، لا غلو في الدين''.
في حقيقة الامر، أن المؤسسة الدينية وان بدت لاعباً ثانوياً في
العملية السياسية، الا أن اضبارة الفتاوى الداعمة للسياسة وللمواقف
الرسمية السعودية تعكس الاهمية المركزية للمؤسسة الدينية، اذ بدون
تلك الفتاوى ستكون تلك المواقف والسياسات عارية عن الشرعية.
المضمون الاحترابي في العقيدة السلفية
ثمة مواجهة حتمية بين اهل الخير واهل الشر، والتاريخ يسير
بالبشرية الى حتفها حيث المنازلة الكبرى بين معسكرين، معسكر الايمان
ومعسكر الكفر أو معسكر اهل التوحيد ومعسكر أهل الشرك، وعند آخرين
معسكر اهل الحق ومعسكر أهل الباطل. هذا البعد الاسكاتولوجي شديد
الحضور في الادبيات السلفية ينبىء عن التعبئة النفسية المتصلة لمرحلة
يلتحم فيها المعسكران، ليسفر عن انتصار حتمي لأهل الحق ممثلاً في
الغرباء المتحدرين من مدرسة السلف.
هكذا يبدأ التأسيس الايديولوجي للمواجهة التاريخية المرتقبة،
فالاسلام، كما في الاثر النبوي قد بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبي
للغرباء، حيث ينزع التفسير السلفي الى تشريع العزلة الاجتماعية
والنفسية ابتداء عن المحيط التي علقت بهم الغرباء، ليدخلوا في دورة
تطهيرية من أدران الماضي والحاضر الذي نشأوا فيها استعداداً ليوم
موعود. فالغربة الايمانية تمثل بالنسبة لأولئك انذاراً بقرب
المواجهة، فبحسب التصوير السلفي فإن الإسلام يكون في ادبار والكفر في
إقبال، وهذا في ذاته مؤشر على اقتراب الساعة ووقوعها. بطبيعة الحال
فإن عقيدة كهذه تفترض انزواء تام للغرباء، اذ لا مجال لتغيير القدر
وتغيير مسار التاريخ، ولا فائدة ترجى من الاصلاح. فقد جاء في صحيح
البخاري ان أنس بن مالك روى عن رسول الله (ص) قوله: ''لا يأتي عليكم
زمان الا والذي بعده شر منه''، وهو يلخص الانحطاط البشري منذ عهد
الرسالة الاول وحتى اللحظة التي ينتهي عندها التاريخ. على أن هذه
العقيدة السلبية جرى تطويرها لاحقاً بالاستناد على أحاديث أخرى
وزخمها بمعاني تليق بالدور التاريخي للغرباء الذين سيصحلون ما فسد من
سنة رسول الله، كما نقل في حديث نبوي عن وصف الغرباء.
فالديناميات السلفية تكتسب طاقتها من سلسلة الاحاديث الواردة في
المصادر الدينية مثل حديث أحمد والترمذي: ''مثل أمتي مثل المطر لا
يدري أوله خير أو آخره''. وحديث أحمد وابن حبان والحاكم: ''بشر هذه
الأمة بالسناء والدين، والرفعة والنصر، والتمكين في الأرض..''. وحديث
أحمد وابن حبان: ''ليبلغن هذا الأمر - أي الدين- ما بلغ الليل
والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله هذا الدين بعز
عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر''.
فهذه الاحاديث الخاضعة لتفسيرات منزوعة السياق ومسقطة على واقع حقيقي
او متوهم، يرسم للغرباء خطين: واحد في الاصلاح وآخر في المواجهة، وفي
كل الاحوال تشحن نزعة الفداء لدى الغرباء كونهم ينتظرون مكافأة
الانتصار المضمون سلفاً.
فالغرباء الناصبون أنفسهم أوصياء شرعيين على اصلاح ما فسد في
الارض، يمثلون الوراث الشرعي والتاريخي للمجددين الذين يبزغون تباعاً
على رأس كل قرن يبعثون ما اندثر من سنن الاولين ويجددون سنة رسول رب
العالمين.
من يكتب لوزارة الشؤون الاسلامية؟!
صنّفت وزارة الشؤون الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد في
موقعها الاكتروني www.isalmicdawah.org خمس
عشرة فرقة من فرق المسلمين في قائمة الفرق الضالة، وفي قراءة مضامين
الموضوعات العقدية والفقهية، ثمة حكم نهائي يطال كافة الفرق والطوائف
بل والمسلمين عامة باستثناء ''أهل السنة والجماعة'' وهو المعادل
الديني لأتباع مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يرمي كل من سواهم خارج
اسوار الدين الحنيف.
وفي كتاب صادر عن الوزارة بعنوان ''الولاء والبراء في الإسلام''
يثير دهشة القارىء واستغرابة وخاصة حين يكون ضمن اصدارات وزارة تابعة
لدولة تواجه حملة اتهامات واسعة، وها هي تقدّم دليلاً اضافياً على
تبنيها لفكر راديكالي يشجّع اتباعه على ممارسة العنف ضد الآخر
المختلف معه عقدياً. كتاب الشيخ صالح بن فوزان الفوزان في ''الولاء
والبراء في الاسلام'' يأتي ضمن سلسلة كتابات تحريضية أعدها المؤلف،
فكتابه ''التوحيد'' قدّم مثالاً شديد الاضرار بسمعة الحكومة السعودية
ان لم يكن بالاسلام كدين التسامح والاعتقاد الحر. ففي ''التوحيد''
يؤسس الشيخ الفوزان للرؤية العقدية التي تصنّف كل سكان المعمورة في
قائمة الكفار وتستبقي بعضاً منهم (وهم أهل السنة والجماعة = أتباع
الشيخ محمد بن عبد الوهاب) الفرقة الناجية التي ستضطلع بمهمة اصلاح
الكون واعادة أهل المعمورة الى الصراط المستقيم. اما في ''الولاء
والبراء في الاسلام'' فإن الشيخ الفوزان يصيغ الموقف العملي من
الكفار وأهل الضلال. وللتذكير فحسب فإن الكتابين تم طباعتهما في
مطابع الحكومة، وادخلا ضمن منهج التعليم الديني. على أن كتاب
''التوحيد'' تم الغاؤه من منهج التعليم الديني ولكن لم ينتقص ذلك من
حظه الوافر في التداول الشعبي بل وضمن حركة المنشورات التبشيرية
الداخلية والخارجية.
نحن اذن امام نص مثير للجدل، لا تحتمل عباراته معانٍ اضافية بل هو
معنى واحد ورسالة واحدة تحمل بداخلها مجموعة املاءات يراد من المسلم
الامتثال لها وتنفيذها بحذافيرها. بمعنى آخر ان الكتاب ذو سطوة
جبّارة فهو لا يترك لقارئه فسحة التفكير في الاساس الاستدلالي لقائمة
الاحكام الصادرة عن مؤلفه.
فالموالاة كما تنبىء عبارات الفوزان لا تقف عند حدود المعنى
الديني الحصري للكلمة بل تنضاف اليها ابعاد اخرى منزوعة من الواقع
اكثر منها من النص الديني، ويزداد الامر بلاء حين لا يكف المؤلف عن
التفتيش في خبايا الاشياء ليصيغ حكماً محكماً ينزله منزلة الوحي،
سيما حين تذّيل الاحكام بالذكر الحكيم. وتنفث فكرة الموالاة لدى
الفوزان كراهية بين الاقارب قبل الاباعد، فإن الايمان لدى الفوزان
يعني كره الآخر المخالف كرهاً نفسياً لا عقدياً. فهو يقبل من هذا
المصنّف كافراً كل منتجه التكنولوجي ولكنه يصرّ بالحاح على نبذ ما
اعتبره هذا الكافر شأناً خاصاً كالأكل واللباس. والمثير للسخرية أن
الفوزان يحرّم ما يصفه بـ '' الرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة''، ويعدّ
ذلك من باب التمثّل أو التشبّه بالكافر.
وفي حين تجد كثيراً من الجاليات المسلمة المهاجرة في الغرب فرّت
بدينها بل ومصيرها الى بلاد ''الكفار''، فإن الشيخ الفوزان يقلب
المعادلة رأساً على عقب ويلزم هذه الجاليات بعدم الاقامة في بلاد
الكفّار والانتقال الى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين. ونسي ان
الحريات الدينية وضمانها في بلاد ''الكفار'' صارت مكفولة اكثر منها
بمرات ومرات في بلاد المسلمين. ولأن الشيخ الفوزان كما يوحي فحوى
كتابه لم يخطو خارج حدود ''دياره الاسلامية'' فإنه بلا شك يجهل ما
يقوم به أهل دعوته في ''ديار الكفر'' حيث عمارة المساجد وانتشار
الدعاة بما يفوق قدرة تحمل دولته. فقد جاء أهل دعوته الى الغرب
الكافر في عقيدته ونشروا رسالتهم وسط الجاليات المهاجرة وغيرها، بل
وخرجوا على قوانين الدول التي نشطوا فيها، فهل الاقامة في بلاد الكفر
كانت ''تدل على موالاة الكافرين'' حتى يصدر الفوزان حكمه بحرمة
''إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة''، أو لم يعلم
بأن هجرة أولئك الملايين من المسلمين الى ديار الغرب كانت بسبب
استضعافهم في أوطانهم من قبل حكامهم والماسكين ـ زعماً ـ بمفاتيح
الجنة والنار.
فالهجرة، أي الانتقال من بلاد الكفار الى بلاد المسلمين لأجل
الفرار بالدين لم تعد متحققة في الواقع، بل ما يجري في زماننا هو عكس
ذلك تماماً، فالهجرة الى بلاد الكافرين كما يصفهم الفوزان هو واجب
للفرار بالدين، ولكن ليس الدين الطقسي بل الدين النضالي التغييري. ما
يزيد الامر غرابة، أن السعي في مناكب الارض والأكل من رزق الله بات
خاضعاً لمنطق الولاء والبراء، وشمل ذلك حتى السفر ''لغرض النزهة
ومتعة النفس''. فالسفر الى ''بلاد الكفار مُحرَّم'' الا عند الضرورة،
فاذا ارتفعت لزم المباشرة بالرجوع الى بلاد المسلمين. ولا ندري في أي
زمان تصدر هذه الاحكام؟. ولكن الشيخ الفوزان المستحضر لتجربة الرسالة
الاولى يصر على انتاج احكام لتجربة مضت من اجل تكرار ماضي تليد لن
يقع ولذلك فهو يستثني الراحلين الى نشر الدعوة في بلاد الكفر من
قائمة المحظور سفرهم اليها.
ونقطة الفصل في الموالاة تكون حين تصطدم الرؤية العقدية مع الموقف
الايديولوجي، فمن تمظهرات الموالاة الاستعانة بالكفار ''والثقة بهم
وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة
ومستشارين'' وكنا نأمل أن واضع هذا النص قد تريث قليلاً قبل نشره او
أن رقيباً مقرّباً من الاسرة المالكة قد اطّلع عليه وأدرك معناه، فهو
بلا شك نص صادم لكل المنضوين داخل الفلك الرسمي ديناً ودولة. ولا
نحتاج للتذكير بموقف الدولة السعودية خلال أزمة الخليج الثانية منذ
قدوم القوات الاميركية والغربية الكافرة من كل اصقاع الارض، الى
اتخاذ مقر وزارة الدفاع السعودية مقراً للقيادة العسكرية الاميركية
الى القررات العسكرية والسياسية والامنية اللاحقة.
فالاطلاع على احوال المسلمين (في السعودية) واسرارهم لم يكن بحاجة
لكل هذه الفذلكات والتأسيسات الفقهية الاجترارية والمتهالكة، فالكافر
في عقيدة الشيخ الفوزان يطلع منذ نشأة الدولة السعودية على اسرارها
وخباياها وهذا ما فرضه منطق اتفاقيات الحماية، أي حماية العرش
السعودي التي وقعت مع الادارة الاميركية وقبلها البريطانية منذ عقود.
ومن بين ما أثاره الشيخ الفوزان في كتابه عن الولاء والبراء في
الاسلام هو تعريضه بما وصفه بـ ''العمالة الكافرة'' وهي العمالة التي
ساهمت بصورة فاعلة في تشييد البنية التحتية لدولته من بناء المطارات
والشوارع والمجاري والمدارس والمستشفيات ومراكز التسوق والتسلية،
وكان حرياً به ان يسجّل هذا المعروف لمن وصفها بالعمالة الكافرة، وهو
وصف كفيل بالغاء كل حق انساني وديني لأفراد هذه الفئة. سأترك النص
كيما يتحدث عن نفسه: ''ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام
الكفار إلى بلاد المسلمين - بلاد الحرمين الشريفين - وجعلهم عمالاً
وسائقين ومستخدمين، ومربين في البيوت وخلطهم مع العوائل، أو خلطهم مع
المسلمين في بلادهم''. فالى من يشير ومن يحمّل الذنب؟ هل هو ذنب
العمالة الكافرة التي جاءت لخدمة مواطنيه ام ذنب مواطنيه الذين لجأوا
لهذه العمالة، ام ذنب الحكومة التي فتحت باب السفر للعمالة الاجنبية
الكافرة بطبيعة الحال في عقيدة الفوزان الى ديار المسلمين.
يلفت استنكار الفوزان مشاركة المسلمين اعياد أهل الكتاب او حتى
مساعدتهم في اقامتها او تهنئتهم بمناسبتها أو حضور اقامتها.. الى
حقيقة العزلة الحضارية والجغرافية التي شهدتها نجد والتي ترفض
التفاعل مع حضارات مجاورة لها، ولذلك جاء المذهب نتاج جغرافية محددة،
فقد ولد مطابقاً للبيئة الثقافية المعزولة، ولذلك يرفض الاعتراف
للآخر بحقه في الاعتقاد والعيش، بل ويحظر على من يجاوروه التفاعل معه
وان بالايجاب.
يسلب الفوزان من قارئه مشاعره وانسانيته، فهو يحظر عليه ألمه
وسروره لنظرائه في الخلق، ويمنعهم من اسداء النصح لهم بل ومحبة الخير
لهم.. لماذا كل ذلك؟ وهل الدين الا الحب كما في حديث شريف. ثم الا
يجوز لي كمسلم ان احترم شركائي في الانسانية بتوقير كبيرهم والعطف
على صغيرهم، كل ذلك لأنهم اعتنقوا ديناً غير ديني، فهل اختلاف
الاديان مبرر العدوان والكراهية، وهل كونهم من أتباع دين آخر يحرم
اعانتهم حال العسر والشدة.. فهل ذلك من قيم الاسلام واخلاقه ورسول
الله (ص) يقول: ''انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق''. وهل من اخلاق
الاسلام الغلظة والنفور والنبذ والعداء لبني آدم، وانتقاص حقوقهم.
ولكن بالنسبة للفوزان هكذا يجب ان يكون الموقف الايديولوجي، فحتى
الاعجاب بحضارتهم بات محظوراً وان اضطر المسلمون للأخذ عنهم من
الابرة الى الدبابة، على أن ينشغل المسلمون بتهديم ''عقائدهم الباطلة
ودينهم الفاسد'' وهي عقائد قد نبذوا أكثرها وهو دين لم يعد يعتنقوه.
وحتى يبدي الفوزان مرونة مصطنعة يترك للمسلمين فرصة الأخذ بـ
''أسباب القوة من تعلم الصناعات ومقومات الاقتصاد المباح والأساليب
العسكرية بل ذلك مطلوب''، فهذه ''المنافع والأسرار الكونية هي في
الأصل للمسلمين''، يستدل بذلك على آيات مباركات مقطوعة من سياقها
التاريخي. ولكن لم يجب الفوزان عن السؤال الافتراضي: كيف سيتعلم
المسلمون الصناعات وهي كلها في ديار الكفار، وهل التعلم كالبيع
والشراء ينتهي العقد حال انتقال البضاعة الى المشتري والثمن الى
البائع، ام أن التعلم أشد تعقيداً منه ويمس بصورة مباشرة المنظومة
الفكرية والقيمية للمجتمعات. فليست العملية كما يصوّرها الفوزان مجرد
استيراد بضائع واستفادة من خبرات ومخترعات، ولو كان الامر كذلك
لتحولت السعودية بأموالها الى دولة صناعية من الطراز الأول، ولما
كانت نمور آسيا نموراً. خلاصة قراءة الكتاب تقدّم وثيقة ادانة ضد
حكومة المملكة ممثلة في إحدى وزاراتها الهامة حيث تعبىء مشاعر
الكراهية ضد قطاع واسع من المسلمين وأتباع الديانات السماوية الاخرى،
وهو أمر يجب الفات نظر المسؤولين اليه من اجل ايقاف تدفق تلك الثقافة
التي ترجمت نفسها في الحادي عشر من سبتمبر. |