طلال في رؤية منفردة عن الإصلاح السياسي
خطابان متعارضان أحدهما للأمراء والآخر للمواطنين
في سياق تصريحاته المثيرة طالب الامير طلال بن عبد العزيز في
مقابلة مع وكالة رويتر حكومة المملكة والدول العربية لاعتماد مبدأ
الانتخابات. وقال ''هل نحن متخلفون اكثر من دول أخرى تجري فيها
انتخابات ديكورية؟''. الامير طلال الذي كان يحضر مؤتمر اليونسكو في
بيروت الخاص بالتعليم العالي قال في ديسمبر الماضي بأن ''ما هو مطلوب
الآن هو تطوير مجلس الشورى كيما يصل الى مرحلة تكون فيها المملكة
العربية السعودية قادرة على الشروع بانتخابات حقيقية وأصيلة''. ويشير
الامير هنا الى مجلس الشورى المعيّن الذي جرى تعيين اعضائه المائة
والعشرين بقرار من الملك. الامير طلال يتبنى فكرة التحول التدريجي
نحو الديمقراطية في الوطن العربي: ''هناك انتخابات في بعض الدول.
ولكن هذه الانتخابات ديكورية وموجّهة للعالم الخارجي. فهل تريد هذا
النوع من الانتخابات؟''.
طلال، صاحب الطموح المغدور منذ الستينيات، يحاول ارضاء كافة
الاذواق، فهو يحمل ''رسالة الى مواطن'' في يد، ويحمل في الاخرى رسالة
الملك فـ''الملك في عبد العزيز وأبنائه وأبناء أبنائه''، وهما
رسالتان تخضعان دائماً لانخفاضات وارتفاعات بحسب الظروف السياسية
التي تمر بها المملكة وفي أحيان أخرى المنطقة والعالم. فالنزعة
الاصلاحية لديه ليست موجهة للاساس الايديولوجي والاستحقاق السياسي
للعائلة المالكة، بل هي محاولة لاستيعاب تطورات خارجية لتعزيز وضع
داخلي. فالتغييرات المطلوبة أو المأمولة لدى الامير يجب ان تسير في
سياق تعميق أسس استقرار السلطة، وتحديداً وحدة العائلة المالكة.
ولذلك، فالامير طلال لا يتبنى إصلاحات سياسية لا تؤدي الى ضمان
السلطة واستقرارها، فقائمة المطالب الاصلاحية التي يحملها التيار
العام في السعودية، غير مأمونة في نظر الامير طلال بل ربما تحمل
تهديداً كامناً يضر أولاً بوحدة السلطة. و طلال يعارض، على سبيل
المثال، مبدأ الانتخابات ما لم تتوفر ضمانات أكيدة بعدم اختلال
السلطة، وهو لا يرى البدء بالانتخابات الآن ''فالوقت لم يحن بعد. ولا
أعتقد بأننا جاهزون'' حسب رأيه. وحتى يكون هذا الرأي مترجماً للرأي
العام الداخلي، فان الامير لا يتردد في اعتبار ما يقوله ترجمة أمينة
لموقف الشعب: ''فالغالبية في السعودية، كما الغالبية في الدول
العربية، يفضّلون خطوات تدريجية نحو الحياة الديمقراطية. فاذا كان
المواطن قادراً على التعبير عن رأيه والمشاركة في القرارات بصورة أو
أخرى، فهذا هو المهم''.
وفي سؤال حول ما اذا كان طلال يأمل في لعب دور مستقبلي في السياسة
السعودية، اجاب قائلاً: ''تركيبة النظام في السعودية مختلفة عن
العالم الخارجي.. (وهي محكومة بـ) أعراف هي أقوى من القوانين..
فالرجل الصغير يحرك الرجل الكبير. والرجل القوي يصغي للرجل الضعيف،
ونحن نسير في هذا الطريق. هناك اختلافات في الرأي وهذه تعتبر ظاهرة
صحية''.
ورغم أن العبارة الاخيرة تعتبر مفتوحة على أفهام متعددة كعادة
الامير حين يغمض ما هو واضح في داخله، فإنه يترك الاجابة قابلة
للتعدد، فهو لا ينسى كيف يمدّ نفسه بقدرة على الدفاع عن موقفه من
خلال عبارات مبهمة متروكة لاجتهادات الآخرين. ففي هذه العبارات ما
يعكس النزوع السلطوي لدى الامير طلال وصورة الرجل القابع في التقاليد
الملكية، بل في هذه العبارات ما يذوي معها مقولاته الملتهبة عن
الاصلاح والديمقراطية في السعودية. فهو ملكي في مداومته على التواصل
الاسري إذ يتناول الغداء مع الملك فهد في بعض الايام، وفي مكان آخر
يدافع عن العائلة المالكة ازاء الحملة الدعائية الغربية وما يقال عن
احتمالات الصراع على السلطة بين ولي العهد الامير عبد الله ووزير
الدفاع الامير سلطان، مؤكداً على التفاهم التام داخل العائلة المالكة
على القيادة الثنائية الممثلة في الملك فهد وولي العهد، ولكن حين
يحتدم الجدل حول توزيع السلطة داخل أبناء الملك عبد العزيز، يكون
الامير طلال أحد المهندسين لعملية توزيع الحصص وانتقال السلطة من
الجيل القديم الى الجيل الحديث، فهو يريد ان يلعب دوراً في اعداد جيل
الشباب الى كرسي الملك، هذا الثابت غير القابل للمساومة في نظر
الامير الليبرالي!
وفي سياق التهديدات الكامنة في سياسة الادارة الاميركية الرامية
الى تغيير الخريطة السياسية في المنطقة والتي تشمل السعودية، فإن
الامير طلال ينتظم داخل الموقف الاسري الموحد ازاء الاخطار المحتملة
للتغييرات السياسية المترافقة واللاحقة للهجوم الاميركي على العراق،
فهناك من التصريحات الاميركية ما يثير فزع الامير طلال وخصوصاً
المتعلق منها بمسألة تقسيم السعودية او تقليصها او حتى دمقرطتها ولكن
ليس على الطريقة الملكية السعودية او حتى على طريقة الامير طلال..
''فأميركا تريد انظمة تخدم مصالحها''، كما جاء في مقابلة طلال مع
صحيفة (الوسط) البحرينية في الثامن والعشرين من ديسمبر الماضي، وهو
تصريح يحمل في داخله اتهاماً للمملكة نفسها التي كانت نظاماً يخدم
مصالح الولايات المتحدة، وأن الأخيرة استنفذت اغراضها منها ولا بد من
تغييرها. والغريب من ربط الامير كل هذه المخاوف بدعوته لاطلاق يد
الصحافة السعودية واعطائها الحرية لانها ضرورية للنظام وللمواطن.
الاصلاح السياسي والتيار الديني
لم يعرف للامير طلال موقف معلن من التيار الديني، وان كان واضحاً
نزوعه المناوىء لكل ما هو سلفي، فهو كما عبّر عن نفسه ''مسلم
ليبرالي'' رغم ما يبطن هذا الوصف من تناقض شديد في مضامينه
الايديولوجية. طلال يعارض احتضان الدولة للتيار الديني قائلاً: ''إن
على الدولة ان تكون محايدة''. ولكن ما يثير في تصريحات الامير لصحيفة
(الوسط) البحرينية هو قطعه بتولي الليبراليين الحكم في السعودية
وتخفيضه لدور التيار الديني في الحكم، وهو في حد ذاته استجابة غير
مباشرة للضغوط الخارجية.
وكما يبدو فإن طلال يفصح عما يعجز الكبار في الاسرة المالكة عن
البوح به للسلطة الرابعة بمن فيهم الملك فهد نفسه، والذي تحدث مراراً
لخاصته عن غيظه الشديد من رجال الدين ومقاومتهم له في مشاريعه
التحديثية والتي تصطدم بالمرتكزات العقدية للمذهب. فالامير طلال طالب
بوقف هدير الفتاوى المتعارضة مع التوجه الاصلاحي. وفي صراحة اكثر رد
بالايجاب على صدور فتاوى مسايرة ومحابية للاسرة المالكة، وعارض في
الوقت ذاته ضمنياً على الاقل التحالف المعقود بين التيار الديني
والاسرة المالكة لما يحمله هذا التحالف من اخطار مستقبلية قد تطيح
بالدولة او ببعض أركانها، ويتمثّل الامير طلال بمصر وما جرى لرئيسها
انور السادات الذي تحالف مع التيار الديني في السبعينيات ضد اليسار
الناصري والاشتراكي والشيوعي، فسقط على يد أحد أفراد هذا التيار
الديني. ورغم نفيه ان تشهد المملكة احداثاً مماثلة، الا أنه اعترف
بوجود تيار ديني متطرف يستمع لزعماء كاريزميين يحملون توجهات مخالفة
لسياسة الدولة.
وعلى الضد من المقاييس الدينية، والسلفية الوهابية حصراً، في
التكافؤ الحقوقي بين الافراد، يضع الامير طلال المواطنة كأساس مشترك
بين الافراد وبه تتساوى الحقوق وتقرر الواجبات: ''فهذا هو الاتجاه
العالمي، فهل سنكون شاذين عن العالم؟''. نشير هنا الى انتقادات واسعة
وجهها كثير من دعاة الاصلاح في المملكة لغياب أسس المواطنة الصحيحة
وسيادة أشكال التمييز القائمة على اعتبارات دينية مصممة في الاصل
لخدمة فئة دينية او حتى مناطقية معينة بما يسقط حقوق القطاع الاكبر
من السكان باعتبارهم غير حائزين على المواصفات والمقاييس الدينية
الرسمية.
إصلاح مناهج التعليم: إرادة الداخل أم
أميركا؟
ولكن دعوة الامير طلال الى ارساء مبدأ المواطنة تبدو منفصلةً عن
متوالياتها أي بما تتطلب من احداث تغييرات جوهرية احياناً في المناهج
التعليمية والتي تتضمن توجهات انقسامية ونزعات تشيع الكراهية بين
السكان على قاعدة دينية. الامير عارض تغيير المناهج التعليمية بحجة
أنها مطالب من أميركا، رغم أن هذه الدعوة سبقت أحداث الحادي عشر من
سبتمبر بسنوات.. ولعل كتابات الاستاذ الشيخ حسن بن فرحان المالكي
تقدّم نموذجاً ساطعاً في هذا الاتجاه.
في محاولة الجمع بين خطابين شديدي التعارض: خطاب السلطة وخطاب
الاصلاح السياسي، يعارض الامير طلال كرد فعل أولي على المطالب
الاميركية باصلاح المناهج التعليمية، ولكن حين يوضع السؤال في اطار
حرية التعبير والفكر، فإنه لا يجد مثالاً الا في سبّ الولايات
المتحدة على المنابر او سبّ الكفار على المنابر. ومع ذلك فهو ينفي
ويثبت في ذات الوقت حقيقة ذلك. فهو ينفي بـ ''هذا غير صحيح'' ثم يثبت
ناقلاً قول المرحوم الشيخ محمد الغزالي: ''بأن هؤلاء أهل كتاب يجب
الا نشتمهم بل يجب ان نتعايش معهم''. ويزيد في تثبيت ما نفاه ابتداء
بقوله: ''ونحن عيبنا أننا لا نقبل الرأي الآخر، ولا التعاون مع
الآخر.. لدينا حظر على الآخر.. لذلك فنحن متخلفون ويجب ان نكون
متواضعين، لا أن تأتي كل يوم وتشتم هؤلاء في المنابر: هؤلاء كفار..
هؤلاء كفار''.
وفي عودة لطرح مجدد للسؤال حول اصلاح المناهج التعليمية باعتبار
أن ذلك يتماشى مع الوضع الدولي الجديد، كرر أسلوبه القديم باستباق
الزمن، وأجاب: ''لازم وهذا مطلب سعودي قبل ان يكون مطلبا غربيا، ونحن
كسعوديين نطالب به''. وتذكرنا هذه الاجابة بما ذكره في احدى حلقات
''شاهد على العصر'' الذي بثته قناة الجزيرة قبل نحو سنتين حيث أكد
على أن الشورى لم تأت نتيجة ضغوطات محلية بل هي مبدأ أقره الملك عبد
العزيز منذ قيام دولته من خلال مجلس الشورى في الحجاز، ولذلك فإن ما
تم عام 1992 ليس اكثر من اقرار لمبدأ قويم في هذه الدولة، فاذن لم
يأت دعاة الاصلاح بجديد على حد قوله.
فهكذا إذن تكون المملكة متماشية مع أوضاع العالم، فكل ما جد جديد
في مطالب الداخل والخارج فإن المملكة قد سبقت العالم اليه رغبة او
حقيقة. وهكذا رد الامير على ما اعتبره مزاعم الرضوخ للمطلب الاميركي
في تغيير المناهج التعليمية ''لا.. لا.. اشهد بالله ان التوجه في
السعودية هو تغيير المناهج، ولكن للأسف ان الطريق الذي سلكوه بطيء.
السعي لتغيير المناهج التعليمية في السعودية لم يكن خوفا من التأثير
على النظام من قبل الخارج اذا لم يبادر إلى هذه التعديلات؟ لا.. لا..
أبدا، فهذا التغيير لن يؤثر على النظام في المملكة''.
الامير طالب بتقليص عدد الجامعات الدينية في السعودية من ثلاث الى
واحدة باعتبارها مراكز قابلة لتفريخ المتطرفين، كما طالب في لهجة
دبلوماسية مبهمة معارضة لتصريحات الامير نايف لصحيفة السياسة
الكويتية والتي حمّل فيها مسلمي الخارج مسئولية نشوء التطرف الداخلي،
طالب بما نصّه: ''ونأتي بالمتنورين من رجال الدين الاساتذة الذين
يقومون بالتدريس وفق التعليم الديني الحقيقي والاسلام الصحيح الذي لا
يحارب الغير ويتعايش معه''.
الامير طلال يحاول، في تصريحاته غير المقبولة، الاقتراب من الواقع
من خلال موقعه كفرد من أسرة مالكة، فهو لا ينفي ما هو ثابت في الاصل
وفي الواقع ايضاً، فالمعارضة ضد النظام السعودي ليست بالأمر الذي
يخفى او بالامكان نفيه بسهولة، ولذلك فهو يعترف وبعبارات غامضة بوجود
معارضة امّا خفية او ظاهرة. ولا ينسى نصيبه ايضاً في المعارضة فقد
جمع الحسنيين: السلطة والمعارضة.
الامير طلال بلا شك يحمل تطلعات إصلاحية، ويطمح لتحولات ديمقراطية
سبقت بأجيال تفكير أسرته المالكة، وسيظل أحد الاصوات النافرة داخلها،
واذا قدّر لهذه البلد الانتقال الى مرحلة جديدة عاجلة ام آجلة فإن
اسم الامير طلال سيتكرر لفترة من الوقت على الاقل. هذا الاسم تغذى
على مائدة الستينيات ومازال، ولكن قوته نابعة من كونه اصلاحياً في
عائلة محافظة، وأن تأثيره ملتحم بانتمائه للاسرة المالكة بوضعها
الحالي أي قبل متغيرات ما بعد الهجوم الاميركي على العراق.
تصور الامير طلال للاصلاح يمكن تلخيصه في عملية تحول تدريجي نحو
الديمقراطية، ولا يبدو أن تصوره هذا يرتقي الى مستوى اطروحة مكتملة
النضج ومحسوبة الخطى، إذ أول ما تفتقر اليه هو المدى الزمني المطلوب
لعملية التحوّل الى ديمقراطية تشرع بانتخابات حرة، على أن آراءه في
اصلاح المناهج التعليمية وتقليص التأثير السياسي للتيار الديني تبدو
متقدمة لا أقل في المحيط الذي ينتمي اليه الامير: أسرة ومنطقة
ومذهباً.
|