الدولة المترحّلة
ثمة ما يميّز القبيلة المستقرة عن مثيلتها المترحّلة أن الاولى
توظّف مجمل إمكانياتها لإعمار الارض التي ستقيم عليها، فعلاقتها
بالأرض وما تحتها وما فوقها علاقة تقوم على الحب. الحب لكل ما هو
جميل فيها.. لكل نسمة، نبتة، طير، ماشية وحتى حبّات الرمل تمثل
جميعاً عناصر المشهد الجمالي الذي ينتج في قاطني قطعة الأرض التي
تحتضنهم ذاك الحب، الذي يفتقره نظراؤهم في القبيلة المترحّلة. وكيما
تنمّي القبيلة المستقرة هذا الحب في قلوب أفرادها، فإنها تلجأ الى
زرع أو تنشيط المحفّزات الضرورية لإنماء تلك العلاقة مع الارض وهكذا
العلاقة بين القاطنين عليها، من قبيل تأسيس مناشط جماعية، وتنمية روح
عامة داخل القبيلة، وصناعة هوية خاصة، وتأكيد المصالح المشتركة،
وتوفير فرص متكافئة لأفراد القبيلة، لاشعار الجميع بالمسئولية
والاحساس بضرورة الحفاظ على المصالح العامة.
فالعلاقة مع الأرض قائمة، إذن، على شراكة ومنفعة متبادلة، أي
علاقة أخذ وعطاء. وفي وضع كهذا، غالباً ما تكون القبيلة المستقرة أشد
تماسكاً والتحاماً، للمنافع والمخاطر المشتركة التي تملي على أفراد
القبيلة الدفاع، وان تطلبت التضحية بالأرواح، حفاظاً على مكتسبات
جماعية آنية وقادمة. فليس هناك من يريد التفريط فيما حققه من سبق ومن
سيأتي من أجيال، فهكذا تقتضي الرابطة مع الارض وهكذا تفترض قوانين
الاستقرار.
النموذج الآخر، هو القبيلة المترحّلة. فأول فاقة يعاني منها أفراد
القبيلة المترحّلة هي الانخلاع من الجذور، وتلاشي المعاني الكبيرة
الثقافية والنفسية والاجتماعية الناشئة عن الروابط بأشكالها
المختلفة، ولعل أهم رابطة هي تلك المنعقدة مع الأرض، كونها الحاضنة
لمجمل الروابط الاخرى. علاقة القبيلة المترحّلة مع الارض شديدة
التنافر، بل هي علاقة قائمة على الاستغلال والافقار والاستثنائية
المتصلة بحدود الافادة من خيرات الارض وانضابها وليس تثميرها لغرض
الإعمار والانماء. وفي جوهرها علاقة خصامية لا تستهدف توطيد وتوطين
الرابطة مع الأرض، ولذلك فليس ثمة روح عامة يراد إشاعتها بين أفراد
هذه القبيلة مع الارض، بل ليس هناك أرض بكامل حمولتها بهوائها،
ومائها، وطيرها، ونبتها يراد لها أن تدخل في التكوين النفسي والثقافي
والاجتماعي لهذه القبيلة، بل الأرض بالنسبة لها هي مشروع غنيمة ناجزة
أو مرشحة للاندراج ضمن عمليات النهب المنظّم. إن انعدام تلك العلاقة
الروحية مع الأرض يعكس نفسه في اضمحلال تلك الروابط الداخلية بين
أفراد القبيلة، إذ ليس هناك ما يمكن وصفه بروح جماعية تسري بين أفراد
القبيلة، ولا مسئولية تلزمهم بالدفاع وصيانة الحريم بالمعنى الجغرافي
وأيضاً الثقافي.
نزعة العداوان والانقضاض على ممتلكات الآخر تكون غالباً صفة
ملازمة لأفراد القبيلة المترحّلة بل هي حاضرة على الدوام في تفكيرهم،
ولذلك فكل ما هو خارج اطار القبيلة يصنّف باعتباره ساحة مواجهة
مفتوحة، أرضاً كانت أم ناساً أم ثروات.
هذا التمايز بين نموذجين قبليين يلفت انتباهنا الى العلاقة
القائمة بين العائلة المالكة (آل سعود) والقاطنين داخل المسكونية
السعودية. فرغم أن الدولة السعودية التزمت مع من هم خارجها، دولاً
وهيئات دولية ورؤساء دول بالاتفاقيات الخاصة بالحدود التي تمارس
عليها كل دولة سيادتها، الا أن هذا الالتزام بصفته الاستمرارية والذي
يكتسب معنى الديمومة له انعكاس وتأثير خارجي فحسب، بينما ما يجري
داخل الحدود الدولية مخالف لصفة الاستمرارية، فهذا الكيان الجيوسياسي
يعتبر دولة مستقرّة في خصوص الرابطة مع الخارج، ولكن هذه الدولة
تمارس في الداخل دور القبيلة المترحّلة.
العلاقة التي تربط العائلة المالكة بالأرض هي علاقة ابتزازية،
نفعية انتهازية، تعكس ذلك مصادرة أراضي الغير، وهذا الغير ليس سوى
مواطنين يفترض انضواؤهم ضمن مظلة الحماية التي توفّرها الدولة،
وإهلاك الثروة الطبيعية لجهة إنشاء مساحات أرضية لمشاريع تجارية يراد
انشاؤها لصالح هذا الأمير أو ذاك. فعمليات دفن البحر، وتخريب
الزراعة، وتسوير الاراضي المشاعة أو المصادرة ونصب لوائح تحمل إسم
هذا الأمير أو ذاك ليست سوى تعبيرات علنية على العلاقة غير السويّة
مع الارض. هذه العلاقة الناشزة تترجم نفسها في التعامل المختل مع
المال العام، وفي انهيار الخدمات العامة والصحة والتعليم، وفي
المخصصات المالية الشحيحة لكل ما له علاقة بالتنمية، وفي الرشاوى
المليارية في الصفقات العسكرية والمدنية، وفي الانتهاكات الفاضحة
لحقوق الانسان، وفي صناعة الخصوم الداخليين حتى في داخل منطقة
النشأة. دولة لم تستطع منذ قيامها حتى الآن صناعة هوية وطنية عليا،
ومن خلق روح عامة بين سكان هذا البلد، ونقول سكان لأنه كما أشرنا في
العدد الثاني الى أنه لا يوجد في هذا البلد ما يمكن وصفه بـ
''مجتمع'' بل مجتمعات، وهذا أحد تعبيرات الفشل الذريع للدولة، التي
صنعت سلطة موحدة على قاعدة الابقاء على عناصر الانقسام في هذا البلد.
الوزارات السيادية كالداخلية والدفاع تحديداً تحولت الى مجرد
اقطاعيات او حقول صيد للأمراء وأبنائهم، ولم يعد مهماً بالنسبة لهم
مشاكل البلد والتهديدات المحيطة به، بل إن ما يهم أولاً وآخراً هو
الحفاظ على مكاسب آنية والسعي من أجل الحصول على المزيد من المكاسب.
وكل أمير في موقعه هو رجل قبيلة مترحّلة يكرس مجمل جهده للإثراء وبسط
النفوذ، دون حساب للنتائج الوخيمة على مستقبل واستقرار الدولة، فهذان
بالنسبة لهم ليسا واردين، وخصوصاً حين يكثر المتنافسون وتقل أو يخشى
من قلة الفرص والامكانيات المتاحة.
يشعر المراقب بأن علاقة العائلة المالكة مع الارض والسكان علاقة
مؤقتة، ولذلك لا يهم بالنسبة لها تخريب الارض أو مصادرة ثروات
الطبيعة، ولا يعني لها كثيراً رضا الناس وتنمية مشاعر الحب لمن
يحكمهم، فأفراد العائلة المالكة يبحثون عمن يخافهم لا من يحبهم،
فهكذا تفكّر القبيلة المترحّلة. ولأن استمرار الدولة السعودية متصل
ببقاء العائلة المالكة، التي تحمل كل مواصفات وتمارس تماماً سلوك
القبيلة المترحّلة أمكن القول بأنها دولة مترحّلة. |