الدولة الخصامية
غالباً ما تنشأ الدول كنتيجة لاتفاق وتوافق أغلبية الأفراد
المنضوين في وحدة جيوسياسية، وهذا مقتضى العقد الاجتماعي منذ أن نظّر
له جون لوك وهوبز وأخيراً جان جاك روسو. فالعقد الاجتماعي يعني
ببساطة: إنضواء طوعي لأفراد جماعة في وحدة سياسية تقتضى أن يتنازل كل
واحد منهم عن جزء من حقهم الطبيعي وهو الحرية لصالح شخص ينتخبه أفراد
هذه الجماعة ليكون حاكماً عليهم ناظماً لأمرهم، قادراً على تنظيم
شؤونهم ودرء الاخطار عنهم. وهذه الدول التعاقدية غالباً ما تكون
تجسيداً حقيقياً لإرادة أمة من الأمم بل تتطابق فيها حدود الدولة
بحدود الأمة ولذلك أمكن الاصطلاح عليها بدولة الأمة.
على طرف نقيض من هذه الدولة المؤسسة على توافق، هناك دول تنشأ على
قاعدة خصومة، وشقاق، وحرب مع الآخر، فهي غير متصالحها مع شعبها، بل
على العكس هي ترى سر وجودها، ومصدر إدامتها في الابقاء على حالة
خصومة دائمة مع الآخر، وليس الآخر شيئاً آخر غير الرعايا الذين فرضت
سلطانها عليهم بالقوة الإكراهية.
لن نطيل في التفريق بين الدول القائمة على مصالحة وتوافق وتعاقد
والدول القائمة على مخاصمة وتنافر واكراه حتى نصل الى مرحلة نكون
فيها قادرين على تصنيف من أي الدول تقع الدولة السعودية. فنظرة خاطفة
على تاريخها تكفي لمعرفة طبيعة نشأتها، فسلسلة الغارات على المناطق
المضمومة قهراً الى المركز، أي نجد، كانت مؤسسة على إعتبار قاطنيها
مشركين، مرتدين تجوز الغارة عليهم، ونهب ممتلكاتهم وسبي ذراريهم.
يقول عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي بأن غزو المناطق لم
يكن ممكناً لو لم يكن مسوّغه تكفير القاطنين فيها، فجيوش ابن سعود
حين غارت على المناطق الأخرى أوجدت قبل ذلك مسوّغاً شرعياً لفتحها
وهي أنها ديار كفر والحاد، وهذا كفيل بإباحتها للقوات الغازية قتلاً
ونهباً وسبياً.
وديار الكفر ليست مقتصرة على الحدود الدولية الحالية بل هي منطقة
تمتد الى المعمورة بإستثناء منطقة نجد الحاضنة الرئيسية لأهل التوحيد
كما يوصفون أنفسهم حكاماً ومحكومين. فالعالم بأسره (بإستثناء نجد)
كما يكشف كتاب (التوحيد) للشيخ عبد الله الفوزان وكتب رموز المذهب
الوهابي، يعتبر دار كفر وجاهلية وأن الوهابية تصوّر غالباً باعتبارها
الحركة الدعوية الثانية بعد رسالة النبي محمد (ص). وتنبّهنا الكتابات
والمناظرات الوهابية في الأدوار الثلاثة للدولة السعودية بأن دول
الجوار ومجتمعاتها مصنّفة باعتبارها ديار شرك لأنها تضم أضرحة
الأولياء الصالحين، ولأن ممارسات أهلها شركية بدعية كافرة.
بكلمات أخرى، هذه الدولة ليست متصالحة مع شعبها، وليست متصالحة
أيضاً مع جيرانها، وهي تعيش في حالة خصام دائم، فهي تفتعل الخصومة
بين رعاياها لأن في خصومتهم بقاؤها، وقوة لها، ولذلك فإن محاولات
التوحد واللقاء بين المناطق والقوى السياسية والاجتماعية يعتبر
بالنسبة لها مصدر هلع وخوف، لأن في ذلك حتفها.
لا شك أن إقامة الدولة تترجم، أو هكذا يجب، دوافع مؤسسيها من أجل
البحث عن مصادر استقرار الدولة وإدامتها، ولذلك فهي توفّر مبرراً
لاستقرارها وسلامها وتصالحها مع شعبها وجيرانها، فهما العنصران غير
القابلين للاستبدال، ولكن بالنسبة للدولة السعودية فإن الأمر غير ذلك
تماماً، فتجربة الدولة منذ تأسيسها عام 1932 وحتى الآن لم تؤسس
توافقاً داخلياً وأن سيرورتها لم تكن تستهدف خلق انسجام بين
مجتمعاتها ومناطقها، بل ثمة أدلة متراكمة تثبت بأن الدولة تأسست
واستمرت وواصلت سيرها على الخصومة وتعزيز عناصر الانشقاق والانقسام
بداخلها حتى تدخلت في الثقافة الشعبية فأصبحت سياسات التمييز المتبعة
من قبل الدولة يشار اليها برموز الهاتف: 01 ـ02 ـ03 وهكذا حتى 07 أو
حجم الفولت الكهربائي 110 ـ 220، فضلاً عن الأوصاف القادحة التي تطلق
على سكان المناطق وبطريقة مهينة في أحيان كثيرة. هذه الرموز والأوصاف
ليست سوى تمظهرات للعقلية الخصامية التي تسود الدولة وتريد بها إخضاع
السكان.
ما يدعو للغرابة بأن الدولة وهي تعيش أسوأ ظروفها لم تتخلَ عن
سلاح الخصومة لا مع رعاياها ولا مع جيرانها بل ولا مع دول تقع في
أقاصي المعمورة، فمالذي يجعلها مثلاً تحارب نيكاراغوا وتدعم ثوار
الكونترا، هل لأن تعاليم الدين تملي عليها تمويل الغارات الاميركية
على من لم يحاربوهم ولم يضاهوا عليهم ولم يخرجوهم من ديارهم في
أمريكا اللاتينية؟!
تكشف كتابات مشاهير الدعاة من مصر وسوريا وغيرها عن قصص مريرة لعب
فيها سلاح الخصومة السعودية دوراً حاسماً في إنقسام بعض الجماعات،
والمراكز الدينية، والمساجد. وتمتلىء كتبات المرحوم الشيخ محمد
الغزالي والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي والكاتب الكبير الاستاذ فهمي
هويدي بشواهد عديدة على الانهاك الشديد الذي أصاب الخطاب الديني بسبب
سلاح الخصومة الذي شهرته الحكومة السعودية في وجه المسلمين في كافة
قارات العالم، لأنهم في نظرها ناقصو إيمان مجروحو الاعتقاد، ما لم
يمتثلوا لتعاليم المدرسة الوهابية.
الجدير بالالتفات أن ركيزتي الدولة: أي المذهب والعائلة المالكة
هما في جوهرهما خصاميان، فتعاليم المذهب ومبادئه تؤكد المرة تلو
الأخرى على قاعدة ''من لم يكن معنا فهو ضدنا'' وهذا الضد يشمل
المسلمين وأهل الديانات الأخرى، وأن هذه القاعدة كانت كفيلة بتعبئة
الجيوش وتجريد الحملات واحتلال المناطق الاخرى واحالتها الى ''مناطق
مفتوحة عنوة''، فالخصومة إذن طافحة في أدبيات المذهب وسلوك رموزه.
أما العائلة المالكة فقد توسلت بمخاصمة الآخر منذ أن قررت بأن ما
تستولي عليه هو جزء من حقها التاريخي والسلالي، فحين أحكم إبن سعود
قبضته على منطقة واسعة من الجزيرة العربية قال بأنه يستعيد ملك آبائه
وأجداده، بما في ذلك الحجاز!!
فالخصومة كامنة في ركيزتي الدولة، ولذلك فشلت هاتان الركيزتان في
تحقيق توافق ديني وسياسي بين الجماعات المنضوية في هذه الدولة، على
العكس مما قاله بعض الباحثين بأن الملك إبن سعود نجح في تحقيق توافق
ديني بين أتباعه، فهذا النجاح إن صدق فهو ينحصر في منطقة نجد التي
كانت تبحث عن خطاب ديني يسمو على الاعتبارات القبلية والقروية
والعائلية.
بكلمة أن هذه الدولة قامت على الخصومة وتعيش عليها وتخفي بداخلها
أسرارها، وأخطرها الضعف البنيوي الكامن فيها، فلو حدث وقررت الدولة
استبدال الخصومة بالتوافق كأساس لقيامها لما اختاروا العائلة المالكة
رمزاً لوحدتها، لأنها ظلت طيلة عقود سبباً في إنقسام السكان تحقيقاً
لوحدة السلطة. |