الحكومة بدأت بفقدان سيطرتها على الوضع الأمني والسياسي
الحرب ضد العراق تؤذن بانهيار مؤسسات الدولة وهيبتها
الإشارات الداخلية، وتقييم المراقبين والدبلوماسيين في العاصمة
السعودية يشيران الى تحلل في جهاز السلطة والى أن الأمراء السعوديين
بدأوا بفقدان سيطرتهم الأمنيّة على الوضع الداخلي.
الأمن وما أدراك ما الأمن.. إنه يحتلّ الذاكرة الحيّة لكل الأمراء
والمسؤولين السعوديين، لذلك محضوه كل اهتمامهم، وتوسّعوا فيه، ولكن
وكما شهدنا النتائج في أكثر الدول المبتلاة بالغلو والمغالاة
الأمنيّة، سرعان ما تبيّن أن أجهزة الأمن لا تخنق المواطن، بل هي
تبدأ به، ولكن لا تلبث أن تخنق المؤسسة الحاكمة نفسها، وتجعل من
أجهزة الدولة كائنات معاقة، لا يحقق وجودها سوى اختطاف لمستقبل الوطن
وأجياله المتعاقبة.
توفير الأمن.. شمّاعة ومبرر لتوسيع دائرة القمع، وخنق الحريات
والضمائر، وملء الأفواه بالمياه المالحة. كلما تزايد هذا الهاجس
وتضخّم في أذهان الأمراء، كلما توسعت أجهزته، وتمددت الى مختلف
قطاعات الدولة وألغت ـ ربما ـ مبررات وجودها، كالإعلام، والحج،
والعمل، وحتى القضاء!
جزء من شرعية النظام قامت على أساس توفير الأمن.. ولازال الأمراء
يذكرون جيلاً بعد آخر بأن أكبر إنجازهم هو توفير الأمن الذي هو
مسؤولية كل دولة، مع الزعم بأن السعودية هي أكثر بلدان العالم أمناً،
وهو غير صحيح طبعاً حتى بالمقارنة مع دول الخليج المجاورة، ولا توجد
أرقام تدعم ذلك، فكتاب الإحصاء السنوي الذي تصدره وزارة المالية، وهو
كتاب (سياسي!) بالدرجة الأولى، يخفف من صعق الإحصاءات الضارة كجرائم
السرقة المسلحة والقتل والمخدرات والإنتحار وغير ذلك، فالحكومة حريصة
على (السمعة الأمنية) حتى وإن كان الواقع ـ خاصة في السنوات الأخيرة
ـ لا يعينها على ذلك.
وكما أن شرعية الحكم القائمة على المدعيات التاريخية قد أصابها
الإضطراب وصارت أقلّ إقناعاً للشارع المحلي، كذلك شرعية ما يمكن
تسميته بـ ''الإنجاز الأمني'' حيث تدهورت الأوضاع الأمنيّة بشكل مخيف
خلال العقد الماضي، وانتشرت الأسلحة الشخصية المهرّبة والمسروقة من
مخازن الجيش والحرس تعبيراً عن الهواجس الأمنية وعجز السلطات في
توفير الأمن. ذات الأمر مرتبط بـ ''المنجز الإقتصادي''، فتدهور
الحالة الإقتصادية وتزايد البطالة (اعترفت إحصاءات شبه رسمية في
الشهر الماضي أنها تجاوزت 31% وهي من أعلى النسب في العالم ويشك في
أنها تشمل القوى العاملة النسائية) المترافق مع الإنسدادات السياسية
وضعت أجهزة الأمن في مكان لا تحسد عليه، وجعلتها غير قادرة على تحمل
التبعات الأمنية على شكل جرائم متصاعدة.
لم تعد المملكة اليوم ''واحة أمن وأمان''.. فمنذ زمن بعيد يزيد
على العقدين والجرائم في تصاعد مستمر وبشكل خطير، ولكن النجاح
السعودي الأمني يمكن حصره في القدرة الإعلامية على تغييب تلك
الجرائم!! وعبر التلاعب بالإحصاءات، أو الزعم بأن الإعلان عنها
يزيدها اشتعالاً، أو يسيء الى بلدة أو منطقة بعينها، كما هي مسألة
جرائم منطقة مكة المكرمة التي لا يجوز نشرها! غير أن هذا لا يغير من
واقع الحال شيئاً.
وانفلات الأمن متداخل متشابك في جوانبه الجنائية والسياسية من حيث
المسببات والنتائج. وكما أننا نلاحظ ومنذ مدّة عجز أجهزة الأمن عن
إيقاف مسلسل العنف السياسي من اغتيالات ومواجهات مسلحة وتفجيرات
وغيرها والتي صارت مألوفة في الإعلام السعودي وغيره.. كذلك هي حوادث
العنف الجنائي، والذي أخذ أشكالاً واسعة صارخة في التحدّي للسلطة
الأمنية.
هناك أحياء كاملة في المدن الكبرى، في الرياض وجدة وغيرهما، لا
سلطة للدولة فيها، وكل شيء فيها مباح من جنس ومخدرات وخمور وغيرها،
ولا تستطيع أجهزة الأمن الدخول إليها، وإن إضطرت فمدعومة بعربات
مصفحة وفرق من الحرس الوطني! ومثل هذه الحالات هي التي تشكل حقيقة
الصورة الأمنية للمملكة. فسلطة الأمن آخذة في الإنحسار في بعديها
السياسي والجنائي، ومن المحتمل تفاقم الإنحسار إذا ما اشتعلت جبهة
الحرب ضد العراق.
الخطر لا يكمن في ضعف قدرات الحكومة الأمنية وجديّة التحدي
الأمني، وإنما الأهم هو ''سقوط هيبة الدولة وأجهزتها'' الأمر الذي
يشجع على المزيد من تحدي سلطاتها. وهذه الحالة التراكمية من الفشل
الأمني جرّت خلال العقدين الماضيين الى اختلالات أمنية فاضحة، فضلاً
عن أن جذور المشاكل الأمنية: سياسية كانت أم إقتصادية أم أجتماعية لم
يتم حلّها وبالتالي توفرت كل الوسائل لتجاوز دور الدولة والخروج على
سلطانها الأمني/ السياسي.
أي نظام سياسي لا يستطيع (بدون قدرٍ معقول من الهيبة الأمنية) أن
يحفظ الأمن.. لأن فلسفته قائمة على الردع والخشية من اختراق القانون
الديني والإجتماعي والسياسي. وبغياب الحواجز هذه، تختلّ السيطرة.
والمهم، أن إعادة الإعتبار لأجهزة الأمن، لا تأتي دفعة واحدة، كأن
يقرر وزير الداخلية توسيع قبضة العنف وضرب البريء والمجرم لإشاعة
الخوف في المجتمع. الهيبة تفقد تدريجياً وتستعاد تدريجياً. وقد يؤدي
حرق المراحل الى المزيد من الإختلالات الأمنية والمزيد من التحدّي
الإجتماعي والشعبي للسلطة.
نموذج ''غليل''
في بداية الشهر الحالي (مارس) نشرت عكاظ تحقيقاً عن إنفلات الأمن
في أحد أحياء جدة، وهو حي ''غليل'' وهو يصوّر أزمة الأمن بصورة
مصغرة، مع أن التحقيق كان متحفظاً وتعرّض لمقصّ الرقابة ولم يكن
بالإمكان نشر كل شيء كما هو معلوم. التحقيق الذي أعدّه بدر الغانمي
كان بعنوان: (مشاجرات بالسكاكين وزائر الليل يفقد كل ثمين/ عصابات
غليل تجبر السكان على النزوح).
يقول الصحافي ''تمزق ثوب العروس واهترأ، ولم تعد تفلح معه محاولات
الترقيع.. فمن الكرنتينة الى السبيل، فحارة المليون والبخارية
والهنداوية والثعالبة وقويزة، والمنتزهات وغيرها من الأحياء نقف أمام
شريط من الخطر الكامن، يحاصر العروس ويخنقها ويهدد مستقبل أجيالها،
بالايدز والهيروين والمخدرات، وبائعات الهوى''. وتحدّث التحقيق عن
ضرورة الجراحة العاجلة ووعود الدولة التي تبخرت وعن ''النزوخ
الإجباري'' لأصحاب الأملاك في حي غليل الذي اعتبر أكثرها فوضى و
''عنصرية''.
من المعروف أن هناك أزمة (بدون جنسية) حادّة في السعودية مسكوت
عنها، وتشمل نحو ثلاثة أرباع المليون نسمة يقطنون جدة ومكة، وهؤلاء
المحرومون من حقوقهم الأولية ومن الإعتراف بهم كبشر، هم وقود العنف
والجريمة وربما الإضطراب السياسي العنيف القادم. لقد فشلت الحكومة في
إيجاد حلول جذرية لأجيال عديدة محرومة من التعليم والصحة والعمل
والسفر وغير ذلك، الأمر الذي فاقم الأزمة الأمنية، واضطر مواطنين
عديدين الى النزوح من عدد من الأحياء التي شهدت كثافة في الجريمة حيث
''بات عليهم أن يفروا بما تبقى لديهم من قيم وأخلاق''.
يشير التحقيق الى حقيقة مرّة فيما يتعلق بهؤلاء (البدون) إذ ''أنك
تجد أخوة في البيت الواحد بغليل بين سعودي ببطاقة أحوال، ومقيم بدفتر
إقامة، ومجهول الهوية، ومخالف لأنظمة الإقامة، جمعت بينهم مصلحة
التواجد وفرضت عليهم رابطة الدم والقرابة التضحية بأي شيء.. تحول
الجميع الى فريق عمل كل فرد له مهمة واضحة لا مجال بينهم لحالة
استنكار أو رفض لما هو شاذ، فالواقع يجعل الخطأ قاعدة والصحيح
استثناء''. منازل حي غليل أشبه بالأواني المستطرقة ''وشوارعه ضيقة لا
تسمح حتى بدورة كاملة للهواء الصحي داخل الحي ويبدو فعلاً وكأنه سقط
من ذاكرة الأمانة تماماً. أما الدخول الى الحي ليلاً فيشبه المغامرة،
إذ على الزائر أن يضحي بساعته أو نقوده أو جواله وما غلا ثمنه وخف
حمله وعليه أن لا يتوقع مساندة من أحد''.
أحد سكان الحي أبلغ معد التحقيق بأن الساعات الأخيرة من كل ليلة
تقريبا لا بد أن تشهد مشاجرات بالسكاكين والآلات الحادة بين
(السكارى) ومنهم من يبيع المخدرات بكافة أنواعها ومنهم من تخصص في
بيع الشراب المسكر ولهم نفوذ كبيرة يسكتون به من يتصدى لهم. أما عمدة
الحي فما أن يحلّ المساء ''حتى يغلق بابه على نفسه ويبتعد عن شرهم
وإلا سيدفع ثمن جرأته وتهوره بكسر سيارته أو حرقها.. ويبقى العمدة في
مواجهة المطلوبين للتصفية''. ويشير التحقيق الى غياب الجهاز الأمني
حيث تخلو الشوارع من جولات راجلة أو متحركة لتحرس السوق الشعبي
والمصالح العامة.
إضافة الى ذلك فإن حملات مكافحة المخدرات لا تجدي نفعاً حيث تكشف
الأحداث كل يوم ''عن جيل جديد ووجوه لم تكن معروفة من قبل.. الكل
مجند في هذا الحي لكي يكون في فوهة الخطر! طفل في السابعة من عمره
يبيع الحلوى عند إشارة المرور.. إمرأة تبسط بضاعتها أمام مدرسة
للبنات.. شيخ مسن دعته الحاجة والفاقة والجهل الى السير في نفس
الطريق. السيارات الخربة المنتشرة في كل شوارع الحي توحي لك بحجم
السرقات.. البيوت المهجورة التي كتب على جدرانها كل المصطلحات
(السوقية) تحولت الى مستودعات لتفريغ الخمر ومواطن شبهات لممارسة
الشذوذ وخلافه.. تسأل عن الأخيار فلا تجد سوى أشباح يسيرون بجانب
الجدران يسألون الله الستر. إمام مسجد كسرت سيارته، وآخر وضعوا له
الحشيش في الدرج، وثالث يجد سيارته في الصباح وقد غسلت بماء الخمر''. |