هيبة الدولة المضاعة
كيف تخلق الدولة هيبتها ومتى تفقدها، مسألتان تبعثان بصورة مستمرة
قلقاً دائماً لدى القائمين عليها. عاملان رئيسيان من شأنهما تخليق
هذه الهيبة: الأداء والقوة.
الدولة المتقدمة تحقق هيبتها من الانجاز الذي تحققه على الأرض
وأمام مواطنيها أي من مستوى التفوق التكنولوجي والتطور الاقتصادي
ومستويات المعيشة المتقدمة. وهذه الدولة غالباً ما تكون منتج أمّة،
أي أنها قائمة على أساس توافق جماعي ومنافسة سلمية بين مجموعة أحزاب
على السلطة تحرص على إتقان أدائها من أجل إقناع ناخبيها بأهليتها
السياسية. فالقاطنون بداخل هذه الدولة يلمسون هيبتها في ما توفّره
لهم من حقائق وتجسّده من إنجازات ممثلة في مشاريع تنموية وفرص حياة
متساوية ومستويات معيشية مرضية وهكذا الشعور بالأمن والاطمئنان
ومشاركة في القرار السياسي. فالهيبة في هذه الحالة لم تكن ناشئة عن
احتكاك مباشر بين الحاكم والمحكوم، بل هي نتاج مجموعة منجزات مادية
قامت بها الدولة لصالح المحكومين، بحيث تصبح هذه المنجزات الشهادة
العلنية للحكومة أمام مواطنيها. الهيبة هنا ليست مفروضة بقوة السلاح
بل بقوة الانجاز، ولذلك فهي هيبة طوعية تتولد من شعور داخلي لدى
المواطن دون تدخل من الدولة نفسها، وهنا يكمن سر الولاء الحقيقي
للدولة.
أما الدول غير القائمة على أساس تعاقدي، أي بكلمات أخرى ليس على
أساس تراضي وتوافق بين الحاكم والمحكومين، وإنما عبر اللجوء الى
القوة العسكرية الباطشة، فإن الحال يختلف من حيث هيبة الدولة
المصنّعة، فهي هيبة تتغذى على مشاعر من نوع مختلف لدى السكان، وهي في
النهاية هيبة غير حقيقية كما أن الولاء الناتج عنها هو الآخر ليس
ولاءً حقيقياً.
استعمال البطش والقوة القاهرة في فرض سلطان الدولة على الرعايا
يسهم في تخليق هيبة تستمد من قدرة الدولة على إخضاع الأفراد تحت
تأثير استعمال القوة أو التهديد بإستعمالها. يروي مناضلو الستينيات
والسبعينيات قصصاً في القمع خلال عهد الملك فيصل، حيث أسرفت أجهزة
الأمن في البطش ضد المناضلين والشرفاء من دعاة الإصلاح السياسي سجناً
وتعذيباً جسدياً ونفسياً وقتلاً، حتى استعار بعضهم المقارنة الشعبية
الساخرة المعقودة بين رؤوساء مصر، فقالوا عن الملك فيصل بأن ''من لم
يقتل في عهده فلن يقتل''.
وحين دخل المال كعنصر جديد في معادلة الحاكم والمحكوم، أصبح
للدولة خياران: العصا والجزرة. فمنذ الطفرة النفطية أصبح للدولة قدرة
على المناورة في إخضاع رعاياها تحت هيبة الدولة تارة بشراء الذمم عن
طريق ''الشرهات'' وتقديم التسهيلات المالية والخدمية، وتارة بكسر
إرادة الخصوم عن طريق وسائل القهر الغاشمة والقبضة الحديدية. هاتان
القوتان، أي العصا والجزرة حققتا مجتمعتين أو منفردتين هيبة غير
طوعية، وإنما هيبة موصولة بشيء في الخارج سواء عن طريق كمية المال
المدفوعة أو جرعة القمع المستعملة. ولذلك فالهيبة المنتجة من هاتين
القوتين هي هيبة قهرية لا تمتد في وجدان المواطنين ومشاعرهم، وهنا
أيضاً يكمن سر الولاء المفتعل للدولة.
ولكن هيبة الدولة السعودية هذه إصطدمت بتحديين خطيرين، موجّهين في
جوهرهما لمكوّنيها الاساسيين: العصا والجزرة. التحدي الأول بدأ مع
انهيار الدولة الريعية عام 1982 حين سجّلت الموازنات السنوية عجزاً
وديناً تراكم بمرور السنوات وصل حتى الآن الى ما يربو على 700 بليون
ريال سعودي، ونجم في الحاصل النهائي عن إنهيار نظام الرعاية ممثلاً
في الخدمات الصحية والاجتماعية وأزمات في التعليم والوظائف. إنهيار
نظام الرعاية في هذه الدولة لم يكن يعني سوى إنهياراً لأحد ركني
الهيبة، بالنظر الى أن هذه الدولة لم تخترق الجهاز العاطفي لدى
السكان ولم تتحوّل الى جزءٍ من تكوينهم الثقافي والحضاري، كيما يغفر
لها حال نضوب المال. فالهيبة التي صنعها الرفاه قد تقوّضت الى حد
كبير إذ فشلت الدولة في أداء الحدود الدنيا من وظائفها من خلال عجزها
عن تلبية الحاجات الأساسية لمواطنيها.
التحدي الآخر، هو القوة الأمنية، المتظافرة مع تدفق المال بكميات
قادرة على تأجيل لحظة إنفجار السخط الشعبي، ولكن ما جرى أن إنهيار
نظام الرعاية أدى الى إرتخاء القبضة الأمنية، حيث تمزقت شبكة
الولاءات ولم يعد للقوة دور في ضبط الأوضاع الداخلية. فخلال السنوات
الخمس الماضية إنفرطت عرى الأمن ولم تعد الذراع الأمنية، التي كانت
الدولة تتوعد خصومها بها، طويلة بالقدر الذي يحول دون وقوع حوادث
أمنية متواترة، وفقدت الأجهزة الأمنية سرعة الوصول الى مسرح
الاضطرابات فور وقوعها، كما جرى في سرقة البنوك المسلحة والمتكررة،
فضلاً عن الحوادث شبه اليومية ذات الطابع العنفي المسلح في الرياض
العاصمة.
ثمة نتيجة واحدة تؤكّدها تلك الحوادث الامنية المتوالية
والمتصاعدة بوتائر مقلقة وهي أن هيبة الدولة قد سقطت في نظر الضالعين
في حوادث مخلّة بالنظام الأمني، ولم تعد تحذيرات وزير الداخلية ولا
أجهزته الأمنية تحمل جرعة ردع كافية تحول دون تفجر تلك الحوادث.
وبلا ريب فإن هيبة الدولة السعودية تضاءلت الى حد كبير، لأن تلك
الهيبة لم تتأسس بصورة صحيحة، وإنما ظلت مرتبطة بتأثيرات عوامل
خارجية إما المال أو القوة القاهرة، وخصوصاً في دولة ليست مكتملة
التكوين أي في دولة لم تولد من تظافر قناعات، ولم تكن تجسيداً
سياسياً للأمة التي تقف وراءها، وحين تضمحل هيبة الدولة تتقلص
المسافة بين مولدها وزوالها. |