فصام سياسي:
البراغماتية السياسية ضد المثل الدينية في السعودية
الفصام السياسي الذي عاشته السعودية قبل وخلال الحرب على العراق
من المقرر معالجته في الأيام الأخيرة من الحرب وفيما الحسم العسكري
يميل الى تفوق قوات التحالف واقتراب نظام صدام حسين من لحظة حتفه
الأخير.
الموقف المزدوج للعائلة المالكة من الحرب على العراق، فرضته
متطلبات العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة كما فرضته في نفس
الوقت الاستجابة لمشاعر السكان الغاضبة على العدوان الاميركي. هذا
الموقف يختفي غالباً تحت دخان الحرب ودوي المدافع، وطالما أن
الانتباه والانظار منهوبة نحو الجبهات ومراقبة ما يجري عليها من مآسي
وتقدم عسكري لهذا الطرف أو ذاك، فهناك تختفي مؤقتاً على الأقل الحاجة
لمحاسبة هذا النوع من المواقف.
الحسم العسكري على جبهات الحرب يعقبه غالباً حسماً سياسياً على
جبهات أخرى، فالانقسام الحاصل في مواقف الدول حيال الحرب في طريقه
للتلاشي فيما يتغلب منطق الواقعية السياسية على المبادىء والمثل
طالما بدأت تتكشف الصورة المصيرية للحرب وهكذا المنتصرين والمنهزمين.
فالواقعية السياسية تملي على السعودية شأنها في ذلك شأن دول عديدة
ترى بأن المصلحة تقتضي الوقوف مع المنتصر، وتجميد التعامل مع المثل
حيث تعلو المصلحة فوق المثل، رغم خيبة الأمل الكبيرة التي يصاب بها
المتحمسون للدفاع عن القيم العليا، سيما في تلك الحوادث التي توضع
القيم أمام إختبار جاد.
إن المساومة السياسية كأحد مميزات الدولة الحديثة تكون مطلوبة على
الدوام كأحد وسائل الدبلوماسية وكمقتضى نظام المصالح المتبادلة بين
الدول، فيما تتحول المثل الدينية والقيم العليا الى مجرد عناصر
إضافية يتم تثميرها في لعبة المساومة السياسية تلك.
السعودية، وبصرف النظر عن طريقة العرض السياسي الذي تقوم به وفي
أي زي أيديولوجي ظهرت فهي لا تختلف عن أي دولة من دول العالم، من حيث
كونها تستجيب وتتعامل وتتحرك وفق منظومة المصالح المشتركة
والمتبادلة، وأن الأيديولوجيا الدينية التي تضفي على الدولة السعودية
مشروعية لا تغيّر من حقيقة كونها دولة مصالح ومساومات سياسية وهذه
تخضع بالضرورة وغالباً وسيما في وقتنا الحاضر الى قوانين غير أخلاقية
أو نظام قيمي واضح، بل تتسم بالتبدّل السريع والسيولة الشديدة تبعاً
لاملاءات المصالح ومنطقها.
لم يكن من قبيل العثرة السياسية غير المقصودة أن يصرّح وزير
الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل بأن ''السعودية تتخذ قرارها من
الحرب على ضوء مصالحها القومية''. فهذا بالدقة فحوى الموقف السياسي
لكل دول العالم في الوقت الحاضر، بصرف النظر عن النوازع الايديولوجية
لكل منها. السعودية قررت قبل إندلاع الحرب وبعدها بأن تكون على
إستعداد تام للتعامل مع من يحكم العراق سواءً كان بعثياً أو سنيّاً
أو شيعياً طالما أن ثمة مصلحة قومية تقتضي إقامة علاقة مع هذا الحكم
أو من أجل درء خطر محتمل قد يشكّله هذا الحكم في المستقبل. في رد على
سؤال طرح على وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل حول طريقة تعامل
السعودية مع نظام جديد في العراق بعد رحيل نظام صدام حسين ثمة جانب
رئيسي من الواقعية السياسية، فهو يحسم الأمر بوضوح شديد قائلاً:
''التعامل مع نظام عراقي يأتي في العراق بعد الرئيس العراقي صدام
طبيعي، وستتعامل معه السعودية''، وهذا الموقف يفسّره الأمير بوضوح
شديد أيضاً قائلاً ''سنتخذ قرارنا على ضوء مصالحنا الوطنية''. نذكّر
هنا بأن تصريحات الأمير سعود الفيصل جاءت قبل اندلاع شرارة الحرب،
وهذا يعني أن الفصام السياسي الظاهري الذي أصاب الموقف السعودي لم
يكن سوى جزءا من عملية المساومة السياسة مع الداخل والخارج، ولكن يظل
هناك موقف استراتيجي للحكومة السعودية تمليه المصالح الخاصة أو ما
يفضّل المسؤولون السعوديون تسميته بالمصلحة الوطنية أو العليا.
إن هذا الوضوح الشديد في الموقف السعودي قد يحدث إرباكاً عنيفاً
بالنسبة لقطاع واسع من المثاليين الدينيين الذين يرون في الدولة
جهازاً موقوفاً لنشر الدعوة، ولربما هذه الصدمة التي يصاب بها بعض
المتوسمين في الدولة السعودية هذا الدور الدعوي تفسّر الى حد ما ظهور
جماعات راديكالية ناقمة على الدولة وقيامها، فقد حدث في عام 1927 أن
تمرد قائدا الاخوان فيصل الدويش وسلطان بن بجاد نتيجة توقف عمليات
توسع الجغرافيا الدينية للدولة السعودية الوهابية، بعد أن تقررت حدود
الأخيرة على الخارطة الدولية. لقد وصم قادة الأخوان زعيمها السياسي
إبن سعود بمخالفة القيم الدينية التي ناضل أسلافهم من أجلها وقدّموا
أرواحهم من أجل ترسيخها، ولذلك جمعوا صفوفهم ودخلوا في معركة حاسمة
مع زعيمهم السابق وسقطوا ضحايا في حرب السبلة التي شارك فيها
البريطانيون بالطائرات من أجل إنهاء تمردهم.
هذه النزعة المثالية ظلت مصاحبة لقطاع من المثاليين الدينيين الذي
مازالوا ينظرون الى الدولة كجهاز دعوي يجب أن تضطلع بدورها كمؤسسة
دينية، ولذلك كانت الانتقادات توجّه الى الحكومة السعودية بكونها لم
تضطلع على أكمل وجه بمهماتها الدينية. فرسائل طالب الدين المتحدر من
حركة الاخوان الاولى جهيمان العتيبي تحوي كثيراً من النقد العنيف
للحكومة السعودية وتدور حول نقطة مركزية واحدة وهي إخفاق الحكومة
السعودية في تبليغ الدعوة أو تطبيق الشريعة الاسلامية، كما توجّه هذه
الرسائل جزءاً من هجومها على الدولة السعودية بخصوص التحالف مع
الكفّار والدول الكافرة ولا سيما الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال،
فإن الدولة السعودية المدركة تماماً للخلفية الايديولوجية التي تنطلق
منها تلك الانتقادات تقف عاجزة عن تقديم تفسيرات سياسية تتسم
بالواقعية الشديدة لمجموعة ربطت نفسها بإحكام الى مجموعة القيم التي
قد يبدو من الصعب عليها إدراك ماذا تعنيه قواعد السياسة الدولية
والمصالح المشتركة التي تشكل جزءاً مركزياً في العلاقات بين الدول.
إن قائمة الانتقادات التي وجّهها فيصل الدويش وابن بجاد وأعاد
تكرارها جهيمان العتيبي تبلوّرت بصورة كاملة في الحملة الانتقادية
الواسعة النطاق للتيار السلفي الوهابي الذي خاض منذ عام 1991 معركة
مفتوحة مع الحكومة السعودية تحرّكها بصورة نشطة ذات المنطلقات
الدينية التي فجّرت إنتفاضة الاخوان القدامى والجدد واخيراً التيار
السلفي الحالي. تظهر محتويات ''مذكرة النصيحة'' التي رفعها أكثر من
مائة شخصية دينية وثقافية ينتمون أغلبهم للتيار السلفي الوهابي ماذا
يعني أن تكون الدولة السعودية قد فقدت جانباً كبيراً من مشروعيتها
الدينية. فالمذكرة تحاول إعادة رسم طريق الدين للدولة السعودية من
أجل تصحيح مسارها، فالمذكرة تسرد قائمة الاختراقات الدينية التي قامت
بها الدولة السعودية في مجالات السياسة الداخلية والخارجية والتعليم
والاعلام والقضاء وهكذا النشاط الدعوي محلياً ودولياً.
إن ثمة رسالة واضحة حملتها مذكرة النصيحة من خلال قراءة دقيقة
لمحتوياتها، وهي أن الدولة السعودية غادرت أهدافها النبيلة ونزعت
زيها الديني، وبالتالي فإن الحكم الديني في المحصلة النهائية يقضي
باعتبارها دولة غير شرعية، ولعل كتاب ''الكواشف الجلية في كفر الدولة
السعودية'' يلتقي في مضمونه مع مذكرة النصيحة من حيث رصف الأدلة على
لاشرعية سلوك الدولة. وفي واقع الأمر، إن الحكومة السعودية تتحمل
جزءاً من مسؤولية صدور الأحكام الراديكالية ضدها، فهي من غذّت تلك
النزعة المتشددة في حليفها الديني. ولكن إقناع الأخير بضرورات
السياسة تبدو مهمة مستحيلة بالنسبة للدولة السعودية التي تجد نفسها
عاجزة عن تخفيف اللهجة الدينية في ممارسة سياسية محضة.
هذا النزوع الدعوي لدى التيار السلفي لم يكن محصوراً في جزء من
المؤسسة الدينية دون سواه، فالنضال من أجل نشر المثل الدينية
وترسيخها وبثها في أرجاء العالم كان دائماً دوراً يلعبه ويحدث علماء
الدين الوهابيون أنفسهم به. ففي رسالة بعث بها المفتي السابق الشيخ
عبد العزيز بن باز الى الملك فيصل يحثه فيها على إنتهاز كلمته في
هيئة الأمم المتحدة لدعوة قادة ورؤساء الدول الأعضاء في الهيئة
الدولية للدخول في الاسلام.
هذه الدعوة قد تبدو مستغربة بعض الشيء وخصوصاً حين ينظر الى
الدولة باعتبارها منجزاً علمانياً يحصر النشاط الديني في حدود
الممارسة الفردية، ولكن بالنسبة للمؤسسة الدينية بكافة تلاوينها
وإتجاهاتها تتفق على أن الدولة يجب دائماً أن تخضع تحت تأثير الدين
وأن تلبي تطلعاته ورسالته بحيث تنعكس على سلوكه الداخلي أي مع رعيته
وفي الخارج في علاقاته مع الدول والشعوب في أرجاء العالم.
الدولة السعودية تدرك بأن تلك العقيدة الدينية غير قابلة
للاستعمال في ظل ظروف دولية شديدة التعقيد، وأن التفكير في إعادة
إنتاج نموذج الدولة السائدة في عصر الاسلام الأول أو حتى العصرين
اللاحقين لا يعني سوى إسقاط الدولة والتحول الى مجرد حركة دينية.
وهذا ما لم يتم ولن يتم طالما أن العائلة المالكة متمسكة بعقيدة
الدولة الحديثة التي تملي عليها القبول بقوانين اللعبة السياسية، ومن
قوانينها استعمال الوهابية كأيديولوجية دينية لتحقيق أغراض سياسية.
|