هل تخسر موقعها في الخارطة السياسية القادمة؟
السعودية المخفـّضة إقليمياً
بات الوضع السياسي في منطقة الخليج يقترب من مرحلة السيولة حيث
أصبح باب الاحتمالات مفتوحاً على مصراعيه إزاء ما تنتظره المنطقة من
ترتيبات سياسية بعد الحرب على العراق، وبخاصة والمشهد العسكري يشارف
على النهاية بسقوط النظام العراقي.
الحكومة السعودية التي بذلت جهوداً حثيثة من أجل تفادي الحرب
بالطرق السلمية ودرء شبح الحرب عن العراق والمنطقة، وحتى بعد بدء
العمليات العسكرية ضد العراق حيث تمسكت السعودية بموقف ثابت لجهة وقف
العمليات في أسرع وقت ممكن، أصبحت الآن تترقب ما تقرره قوات التحالف
من ترتيبات لاحقة. فالتشدد السعودي من مسألة الحرب على العراق، كما
أسلفنا في العدد الماضي، يتجاوز حدود العراق ويتمدد الى السعودية
التي أصبح الحديث حول دورها، ومكانتها في الخارطة السياسية القادمة،
وحتى مقامها الاقليمي مدرجاً في التفكير الاستراتيجي الأميركي. فحرص
الحكومة السعودية على وحدة العراق وسيادته واستقلاله وسلامته
الاقليمية وحتى رفضها تعرض العراق للاحتلال العسكري يكاد يترجم بصورة
أمينة وواضحة المخاوف السعودية من احتمالات تبلوّر خارطة سياسية
جديدة يعاد بها تشكيل النظام الاقليمي وتكون فيه السعودية أحد أبرز
الخاسرين في المرحلة القادمة، وقد يعاد بعث فكرة التقسيم من جديد،
وهي فكرة قد يكون تطبيقها في المملكة غير الموحدة طبيعياً وغير
المنسجمة الأجزاء أسهل بكثير جداً من بلدان أخرى بما في ذلك العراق.
لقد استطاعت المملكة في السابق أن تحقق انسجاماً شبه تام في
المواقف السياسية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة في مجمل
النزاعات التي خاضتها الأخيرة ضد خصومها بما في ذلك حربها في
أفغانستان فضلاً عن الحروب السابقة من آسيا الى أمريكا اللاتينية،
ولم تجد الحكومة السعودية نفسها في موقف يتطلب منها إعادة أوإطالة
التفكير في نزاع ما كانت فيه الولايات المتحدة طرفاً فيه. فقد ضخت
أموالاً طائلة في حروب الولايات المتحدة ضد خصومها في نيكاراغوا
وكوبا والاتحاد السوفيتي وايران.
الحرب الأميركية على العراق تكاد تكون الاستثناء الوحيد الذي
التزمت فيه الحكومة السعودية موقفاً أقرب ما يكون الى المعارضة،
لأسباب تكاد تكون واضحة. فأسس التحالف الاستراتيجي قد تبدّلت ولم يعد
هناك ما كان يردده المسؤولون السعوديون والأميركيون بتطابق المصالح
بين البلدين، بل الفجوة تزداد عمقاً وإتساعاً بينهما بخصوص المصالح
الاسترايتيجة لكل منهما، فأميركا اليوم لا تقبل بأقل من التزامٍ تام
بأجندتها السياسية، وخصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر التي أصبح
شعارها 'من لم يكن معنا فهو ضدنا'. قائمة الخيارات الاميركية في
العالم وفي الشرق الأوسط بوجه خاص باتت مرنة الى حد يسمح للإدارة
الاميركية بهامش من المناورة السياسية يقلل من إعتمادها على طرف
بعينه بما يمنحه قوة تفاوضية أمام الولايات المتحدة. فالاخيرة تنزع
اليوم الى التعامل مع عدد من الضعفاء، غير القادرين على فرض شروطهم
عليها أو غير المالكين لفرص الاستغناء عنها، بل إن الترتيبات
السياسية المرتقب فرضها على المنطقة من شانها تعديل ميزان القوى
السياسية لصالح الولايات المتحدة.
هذه الترتيبات السياسية سترهن الأمن الوطني للأمن الاستراتيجي
الأميركي، إذ لن يكون بمقدور أي دولة في النظام الاقليمي القادم عمل
ما من شأنه تهديد أو إغفال المصالح الحيوية الأميركية دون أن ينعكس
ذلك على أمنها الوطني والآثار المترتبة على إستقرارها الداخلي.
لم يكن من قبيل المقامرة السياسية أن تقوم الحكومة السعودية بلعب
دور مزدوج لجهة إرضاء الولايات المتحدة وسكانها المحليين. لقد حاولت
حكومتنا الرشيدة أن تبعث برسالة تطمينية مليئة بكل الضمانات المطلوبة
لتفادي أي آثار جانبية للحرب على العراق قبل اشتعالها، بدءاً من
تعهدها بتغطية النقص الحاصل في كمية النفط المعروض في االسوق
الدولية، فضلاً عن فتح القواعد والأجواء أمام الطائرات والصواريخ
الاميركية.
إن إصرار الحكومة السعودية للحصول على رسالة تطمينية من الادارة
الاميركية تفيد بأن ليس هناك أهداف غير معلنة للحرب على العراق أو
حتى بعد الحرب، يوحي بأن ثمة ما يثير مخاوف العائلة المالكة وهو ما
يمكن إيجازه على النحو التالي: أن الاستقرار السياسي للمملكة ظل
منوطاً بنظام إقليمي يسمح لها بضبط أوضاعها الداخلية ويمنحها تفوقاً
من نوع ما. ونتذكر بان الثورة الإيرانية عام 1979 قد ساهمت بشكل خطير
في خلخلة الاستقرار الداخلي وإحداث إضطرابات أمنية واسعة، مما فرض
عليها بناء منظومة أمنية واسعة تبدأ بتوسيع جهاز الأمن الداخلي
وزيادة صلاحياته إضافة الى الترتيبات الأمنية الاقليمية ولا سيما
انشاء مجلس التعاون الخليجي في ديسمبر 1981 على خلفية أمنية، فقد كان
الملف الأمني من أبرز الملفات المتحركة في نشاطات المجلس منذ نشأته
وحتى وقت قريب.
ما يدعو للتوقف أن السعودية كانت تبذل جهوداً من أجل أن لا تقع
الحرب ولكن مذ وقعت، كان موقفها بأن لا سبيل الى إيقافها، وكأنها
تدرك تماماً بأن الأطراف الساعية للحرب تحمل مخططاً أكبر من الحرب
ولابد لذلك من درء شبحها، ولكن طالما بدأت الحرب فإن المخطط بدأ
تنفيذه، ولذلك بات من الصعب أو المستحيل إيقاف الحرب لأن في ذلك
إيقافاً للمخطط الاستراتيجي الأكبر الذي يحمله الأميركيون بالدرجة
الأولى، وهذا ما يجعل الحكومة السعودية خائفة. ولذلك يمكن القول بأن
لجوء وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل الى الجانب العراقي
كأحد إتجاهات المسعى السعودي لوقف الحرب يأتي في أعقاب توصل الحكومة
السعودية الى قناعة تامة بأن الادارة الاميركية لم تعد تقبل غير
الحرب بديلاً وغير ازالة نظام صدام حسين خيار حل. دعوة الأمير سعود
الفيصل المتكررة للرئيس العراقي للتنحي من أجل إيقاف الحرب وتجنيب
العراق والمنطقة مأساة سياسية وإنسانية كانت محاولة يائسة أغضبت
الجانب العراقي الذي إعتبرها بمثابة إغفالاً متعمداً للعدوان
الأميركي على العراق، وبحسب طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي بأن
كان بالأخرى أن توجه الدعوة الى من مارس العدوان من أجل الانسحاب من
العراق. وفيما يبدو أن الجانب العراقي فهم بالدقة مضمون الدعوة
السعودية وأهدافها، فالنظام السياسي العراقي الذي يقترب من لحظة
رحيله يجب أن لا يجّر آخرين معه كالسعودية وهذا ما فجّر الغضب
العراقي حيث رأى في مبادرة السعودية استغلالاً دنيئاً.
إن ما يقلق الحكومة السعودية من هذه الحرب التي عجزت عن إيقاف
اندلاعها بأن الترتيبات السياسية الاقليمية ما بعد الحرب ستتم هذه
المرة بعيداً عن تفاهم جاد أو حتى مشاورة مبدئية معها، ولعل هذا ما
سيخلق قلقاً جديّاً لدى العائلة المالكة التي تخشى بأن تكون أحد أبرز
المتضررين من تلك الترتيبات، إن لم تكن أحد ضحاياها وخصوصاً حين يكون
النظام الإقليمي القادم مرتكزاً على 'تشققات جيوبوليتيكية' في
المنطقة.
غالباً ما كانت الحكومة السعودية تلجأ منفردة الى الولايات
المتحدة كيما توصل وجهات نظرها في الملفات السياسية الاقليمية، ولكن
هذه المرة ستضطر للجوء الى أصدقاء الولايات المتحدة وقد تلجأ للجامعة
العربية من أجل تقوية موقفها السياسي العربي كجزء من محاولة التعويض
عن خسارة موقعها كحليف للولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، فلا يمكن
التعويل كثيراً على دور الجامعة العربية الخاضعة بدورها لمتغيرات
سريعة في ظل انفلاش عربي متواصل، ولكن هي محاولة لبناء أو لترميم
تحالف عربي يتألف من مجموعة دول متضررة مثل سوريا ومصر والسعودية
وربما دول أخرى من أجل مواجهة المخططات السياسية القائمة.
الحكومة السعودية تخشى أن تفقد القدرة على بناء تحالفات سريعة
وصامدة في وجه الترتيبات الجيوسياسية في المنطقة، خصوصاً وأن
المؤشرات تفيد بأن الإدارة الاميركية ستملي شروطها تحت تهديد السلاح،
أي في ظل حشود عسكرية أميركية متواجدة في المنطقة. فالتصريحات
المخيفة التي صدرت عن السفير الأميركي في أنقره بأن فترة إقامة
القوات الأميركية في العراق قد تصل الى 25 عاماً تحمل نذير شؤم على
العراق والمنطقة والسعودية بوجه خاص، إذ أن تواجد حشود عسكرية
وبأعداد كبيرة في منطقة ما يمارس ضغطاً سياسياً شديداً على الدول
القريبة منها، كما يخبرنا علم الاستراتيجيا، وهذا ما كان يصرّح به
الرئيس الأميركي جورج بوش قبل اندلاع الحرب حيث كان يردد أمام مجلس
الأمن بأن الحشود العسكرية بالقرب من العراق هي لممارسة المزيد من
الضغط على النظام السياسي في بغداد من أجل الكشف عن أسلحة الدمار
الشامل.
وجود الحشود العسكرية في المنطقة يعني بكلمة أخرى توافر فرص
التدخل العسكري فيما لو قررت الولايات المتحدة فرض إرادتها على أي من
دول المنطقة. ولذلك تحاول الحكومة السعودية تذكير حليفها الاستراتيجي
بمبدأ المصالح المشتركة والتعاون المشترك والمنافع المتبادلة التي
حكمت العلاقات الثنائية بين الحكومتين طيلة عقود طويلة. ثمة حاجة
للإشارة هنا الى أن المتغير السياسي في العراق سيأتي بمتغيرات
إقتصادية كبيرة ومؤثرة في اقتصاديات المنطقة برمتها وهذا ما سيضعف
القدرة التفاوضية السعودية في موضوعات الاستثمار الغازي والنفطي مع
الشركات الأميركية حيث ستكون أمام الأخيرة فرصاً إستثمارية جديدة
وربما مغرية بالمقارنة مع فرص الاستثمار في السعودية.
يستريح المسؤولون السعوديون الى مقولة مفادها بان الولايات
المتحدة ليست لديها طموحات إمبريالية في المنطقة، بناءً على أن نصف
المليون جندي أميركي الذين وصلوا الى السعودية عادوا جميعاً الى
بلادهم فور الانتهاء من حرب تحرير الكويت عام 1991. ولكن هذه المقولة
تبقى مجرد محاولة لتضليل الذات بأن ما حدث في ذلك العام هو بهذا
التصوير العاجل والساذج في آن، فالاتفاقيات الدفاعية والاقتصادية
التي حصدتها الولايات المتحدة من دول الخليج وبناء القواعد العسكرية
في الكويت وقطر والسعودية هي أثمان يراد إسقاطها عمداً من فاتورة
الحرب وتكاليفها الباهضة.
ثمة مسألة شديدة الصلة بالترتيبات الجيوسياسية القادمة في المنطقة
والتي غالباً ما يتم إهمالها ولكن هي تمثل بلا شك محوراً هاماً في
الاستقرار السياسي للسعودية. هذه المسألة تطرح في سياقها الصحيح وهي
مواجهة التحديات الخارجية وأيضاً الداخلية، وهي مسألة الاصلاح
السياسي. فهناك إجماع بين القوى السياسية والاجتماعية والدينية في
السعودية بأن الاصلاح السياسي وحده الكفيل بجبه التحديات التي تواجه
البلد سواء من الولايات المتحدة كقوى تهديد محتملة للاستقرار الداخلي
أو لمواجهة الاحتقانات الداخلية القابلة للتفجر في صورة أعمال عنف
وإضطرابات أمنية غير متوقعة. المشكلة دائماً أن الحكومة السعودية تضع
مسألة الاصلاح السياسي في سياق متعارض حين تنظر اليه لا بوصفه حلاً
لمشاكل أمنية قابلة للتفجر ولكن تنظر اليه كجزء من تلك المشاكل ولذلك
يجري التعامل مع الاصلاح السياسي من منظور أمني ويعالج أيضاً وفق
تصورات أمنية في الغالب. |