أين وصلت وثيقة (الرؤية) يا دعاة الإصلاح؟
أثمرت جهود ولقاءات واتصالات مكثفة بين نخبة من دعاة الاصلاح داخل
المملكة عن صدور وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) في شهر يناير
الماضي، والتي وقّعها نحو 140 شخصية من مختلف الطيف السياسي
والايديولوجي في السعودية.
وكانت الوثيقة قد أكدت على محاور خمسة أساسية في المشروع الاصلاحي
بدءا بالمطالبة بإرساء دولة المؤسسات الدستورية، ومروراً بحلحلة
المشكل الاقتصادي بكل ما يحمل من قضايا ساخنة مثل البطالة والدين
العام وإعادة توزيع الثروة وتقوية وتفعيل أنظمة ومؤسسات الرقابة
والمحاسبة وترشيد الانفاق، وهكذا تقوية التفاعل بين المجتمع وقيادته
في إطار مواجهة المخاطر التي تواجه الوحدة الوطنية والتي تتطلب إشاعة
ثقافة حقوق الانسان وفي القلب منها التسامح والانصاف والعدل واحترام
حق الاختلاف وإزالة عوامل التفرقة والتمييز واصلاح نظام الخدمات
العامة الاساسية وتأكيد دور المرأة في عمليتي البناء والتنمية،
ورابعاً إطلاق الحكومة لمبادرات اصلاحية تستهدف تقوية مشاعر الانتماء
الوطني وإشاعة أجواء الثقة والإخبار عن عزم وجدية الحكومة في معالجة
الاحتقانات الداخلية من قبيل: إعلان عفو عام عن المعتقلين بتهم
سياسية أو محاكمتهم محاكمة عادلة وعلنية، وإعادة الحقوق المادية
والمعنوية لدعاة الاصلاح المتضررين من تدابير القمع التي مارستها
أجهزة الأمن ضدهم، مثل أساتذة الجامعات ورجال القضاء وغيرهم، وتوفير
الحريات المشروعة لكافة فئات المجتمع لمناقشة الشأن العام في مختلف
الأطر وإيقاف القيود على إبداء الرأي في الشأن العام، كالمنع من
السفر، والتهديد بالسجن، أو الطرد من العمل وكتابة تعهدات بالامتناع
عن إبداء الرأي والمنع من النشر، وأخيراً الدعوة الى مؤتمر حوار وطني
لمعالجة المشكلات الاساسية تمثل فيه جميع المناطق والفعاليات وجميع
الاطياف الثقافية والاجتماعية على اختلاف ألوانها وتوجهاتها.
هذه الرؤية في تكثيف شديد رفعت الى ولي العهد الأمير عبد الله
الذي طلب اللقاء بعدد من الموقعين من أجل التعرف عن قرب على أفكار
المجموعة الموقّعة عن طريق ممثلين عنها، وقد تم اللقاء في الرياض
وكعادته المعروفة أظهر (مزايدة إصلاحية) وقدّم نفسه كما لو أنه أحد
الموقعين على الوثيقة، وأكد بأنه قد سبق جماعة الرؤية بسنوات وربما
بعقود في تفكيره الاصلاحي، وكان ينتظر الفرصة المناسبة كيما يعلن
للملأ عن مشروع إصلاحي ولكن هو الزمن والتاريخ وربما الريح والحَكَم!
ـ بإستعارة لغة لاعبي كرة القدم ومشجعيهم ـ كلها كانت تحول دون تنفيذ
المشروع.
منكم السؤال ومنهم الإجابة
لقد أشاعت الدولة مختزلة في العائلة المالكة فكرة شديدة الاعاقة
لحركة الناس عموماً ودعاة الاصلاح بوجه خاص. ملخّص الفكرة هو أن
المجالس المفتوحة كآلية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم أُسّست على مبدأ
إيصال المواطن لحاجته وشكواه الى المسؤول وللأخير أن ينظر فيما يوصله
المواطن ما اذا كانت الحاجة تستحق التلبية أو الشكوى تستأهل الحل.
فالمواطن تنحصر مهمته في المسألة مكتوبة أو مشافهة، وللأمير مطلق
الحرية في أن يجيب أو لا يجيب، يلبي أو لا يلبي فإن وهب فإنما يهب من
ملكه، وإن أعطى فإنما يعطي من ماله، فهو أولاً وأخيراً محسن (وما على
المحسنين من سبيل).
هذه تلخّص فلسفة الدولة ونظرة العائلة المالكة اليها ـ أي الى
الدولة ـ والى من تحكم أيضاً، فإن مجرد رفع عريضة أو التصريح بشكوى
أو إيصال قائمة مطالب لا يعني أن الأمر قد جرى حسمه وأن المطالب قد
تحققت، بل هذا الأسلوب يشبه الى حد كبير قصة الزواج من بنت الملك،
فالمتقدم العامي الافتراضي موافق على الزواج من بنت الملك، كما الحال
بالنسبة لأبيه وأمه، ولم تتبق سوى مشكلة صغيرة! وهي موافقة البنت
وأبيها الملك، أليس يعني ذلك أن القضية كلها متوقفة على الطرف الآخر،
الآمر والناهي ليس في شؤون القصر وأمور العائلة الملكية فحسب بل في
أمور الدولة بأكملها.
العائلة المالكة فرضت على الناس قناة وحيدة للتواصل، وهي قناة
مليئة بالاهانة والاذلال والتعريض بالكرامة، وخصوصاً حين توضع في
سياق سائل ومانح، وليس صاحب حق يطلب حقاً قد حجبه أو ربما ضيّعه من
يستمع للشكوى والطلب. الاجراءات التي وضعت أمام أصحاب الشكوى والحاجة
قبل الوصول الى قصر الملك أو ولي العهد أو الأمير والطريقة التي
تقدّم فيها الشكوى يراد منها تأكيد الاذعان والخضوع من المواطن
للسلطة، فعن طريق التضرع يصبح المواطن أسيراً لحاجة لم يكن بحاجة
للمرور بسلسلة تدابير معقدة وربما السفر من مناطق بعيدة كي ينقلها
بمشاعر منكسرة قبل أن يصله جوابها بأسابيع أو ربما بشهور عديدة.
هذه الصورة الاجمالية لطريقة تعاطي العائلة المالكة مع العرائض
والشكاوى والمطالب في بعديها الفردي والجماعي تفسّر الى حد بعيد هذا
الصمت المدهش الذي أعقب تسلّم ولي العهد لوثيقة الرؤية التي حظيت دون
غيرها من الوثائق بتأييد واسع النطاق كما ظهر في التوقيعات المؤيدة
لها على موقع (طوى) الالكتروني والكتابات الصحافية المشيدة بمضامين
الوثيقة والشارحة لجوانبها الهامة والمعليّة من قدر مصيغي المحاور
الخمسة الواردة فيها.
فبعد نحو شهر على الحديث في المستويين الخاص والعام عن وثيقة
الرؤية بإنتظار ما ستقوم به الحكومة من خطوات عملية من أجل البدء
بتنفيذ ما ورد فيها من نقاط عبّر ولي العهد نفسه عن الموافقة غير
المشروطة عليها، وإذا بصمت قد لفّ موضوع الوثيقة ولم يعد هناك من
يشير اليها وإن لماماً، وكأن هناك شعور بضرورة الابتعاد عن كل ما يمت
اليها بصلة كيما لا تصيبه مضرّة منها.
ثم جاءت سحب الحرب الداكنة على العراق، فنهبت إهتمام الناس وعززت
الحكومة ذلك بإتاحة هامش من الحرية كيما ينشغل دعاة الاصلاح بالحديث
عن الحرب والتعبير عن مواقفهم المبدئية والايديولوجية من الحرب
الانجلوأميركية على العراق، وإذا بدعاة الاصلاح يجدون أنفسهم في جبهة
الحكومة دفاعاً عن قضايا الأمة، التي حوّلتها الحكومة الى مناهضة
الاحتلال الاميركي على أساس أن ذلك سيؤدي الى تصديع أركان السلطة في
السعودية نتيجة الاختلالات العميقة في البنية الجيوسياسية الاقليمية
المتوقعة بعد نهاية الحرب. وراحت الحكومة تغذي إهتمام الاصلاحيين
بالمسألة العراقية كيما ينسوا موضوع الاصلاح، فماذا كانت النتيجة؟
العائلة المالكة التي كانت قد أعدّت قائمة بأسماء الوزراء
المعيّنين في الحكومة الجديدة قبل سقوط النظام العراقي في العشرين من
أبريل الماضي، قد أعلنت عنها وبدم بارد في الثلاثين من أبريل الماضي
وكأن شيئاً لم يكن، فلا النوايا الاصلاحية لدى ولي العهد ولا وثيقة
الرؤية ولا كتابات عشرات الاصلاحيين في طول البلاد وعرضها قد جرى
حسابها قبل الاعلان عن التركيبة الوزارية الجديدة، التي أضيفت الى
سلسلة الاحباطات وخيبات الأمل من الدولة. وليس ثمة جديد القول بأن
التركيبة الوزارية تمثل أبرز تمظهرات النوايا الحكومية في موضوع
الاصلاح السياسي، فإذا جاءت التركيبة الوزارية متطابقة مع قواعد
التحالف على أساس مصالح وولاءات وإعتبارات قبلية ومناطقية وطائفية
فإن ذلك يعني ضرورة قلة بضاعة الدولة في الاصلاح السياسي.
وبخلاف كل التوقعات، فإن العائلة المالكة خيّبت حتى الراشدين
والحكماء في هذا البلد الذين كانوا يرددون في المجالس الخاصة والعامة
من أن المملكة لن تتخلف عن ركب المشاريع الاصلاحية التي ستشهدها دول
الجوار، ولذلك كانوا يقولون إذا حدثت تغييرات إصلاحية في البحرين فإن
السعودية ستتبنى على الفور خطوات إصلاحية راديكالية. وهذه البحرين قد
مضى عليها نحو سنتين، وهي تعيش تحوّلاً ديمقراطياً سلمياً، تنتعش فيه
الحريات ومؤسسات المجتمع المدني. ثم قال الحكماء بان قطر باعتبارها
التوأم المذهبي للسعودية ستحرّك دوافع الاصلاح السياسي حالما تخوض
تجربة الانتقال الى الديمقراطية، وكانت قطر قد بدأت تجربتها بإفساح
المجال أمام حرية التعبير وإعتماد مبدأ الشفافية بين السلطة والمجتمع
وهكذا فتح باب الانتخاب والترشيح في حدود البلديات وصولاً الى إقرار
دستور عام يحدد السلطات ويعيد تعريفها وتوزيعها.
ثم تلى ذلك إطلاق نداءات وإنذارات خارجية من أجل البدء بالإصلاح،
كما فعل المدير السابق للسي آي آيه جيمس ولسي في الرابع من أبريل
الماضي والذي بعث برسالة شفهية منذرة ومتوعدة للعائلة المالكة
السعودية بالإسم وقال: (نريدكم أن تشعروا بالقلق وأن تذكروا الآن
للمرة الرابعة خلال مائة عام أن الولايات المتحدة وحلفاءها ماضون
قدماً وإننا نقف في صف أكثر من تخشونهم، ياعائلة مبارك والأسرة
المالكة السعودية: نحن نقف في صف شعوبكم). ثم عززت هذه التصريحات
وزارة الخارجية الأميركية في ما أطلقت عليه (بيان الحقائق) والذي أكد
على ضرورة (خلق أسس ديمقراطية نابضة بالحياة) في هذه الدول.
دعاة الإصلاح: وغياب الآلية
حين فكّر المهتمون بالشأن العام بتقديم وثيقة الرؤية كانت ذروة
الطموح لديهم تنحصر في صدور الوثيقة وإيصالها للمسؤولين بالدولة
وخصوصاً ولي العهد. ولذلك ما إن تحقق هذا الهدف رجع كل الى داره
مغموراً بنشوة الانجاز، بانتظار تحقق ما وعد به ولي العهد.
هذا الشعور المتعاظم بالمبالغة فيما حققه الموقّعون من مجرد كتابة
عريضة إستغرق إتمام تحريرها وتحصيل توقيعات المصلحين عليها قرابة ستة
شهور، قد أنسى (دينامو) الوثيقة إن لم يكن قد أنسى أيضاً جميع
الموقّعين عليها.. أنساهم عادة دولتنا الرشيدة من أن مجرد إيصال
العريضة يعني نهاية مهمة أصحابها وعليهم بعدئذ التضرع الى الله كيما
يمّن على ولاة أمرنا بالتوفيق والسداد ليتحقق على أيديهم وعد الله
سبحانه وتعالى بزوال الغمة عن هذه الأمة.
ثمة بلا شك مشكلة فنية تواجه دعاة الإصلاح في بلد كالسعودية تنعدم
فيها قنوات التواصل والاتصال عبر مؤسسات المجتمع الأهلي، ولذلك يتطلب
من دعاة الاصلاح وأمثالهم تصميم آليات أولية في التواصل والتحرك من
أجل الابقاء على ديناميكية المشروع الاصلاحي المراد التبشير به
وإيصاله الى الملأ الأعلى في الدولة.
هذا الأمر لم يحققه القائمون على وثيقة الرؤية، وجاءت الظروف
السياسية الاقليمية مدعومة بالبيروقراطية المحلية المرهقة لتقذف
بموضوع الوثيقة خارج ساحة الفعل السياسي اليومي، فيما يستدرج
الموقعون الى موضوعات أخرى.
كان بإمكان القائمين على وثيقة الرؤية أن (يتهيكلوا) في إطار لجان
عمل تهدف الى: توزيع المسئوليات بين الموقّعين على الوثيقة، والابقاء
على حيوية العمل الاصلاحي، وإرساء أساس وطني لتيار الاصلاح بما يجعله
الحاضن الأكبر لنشاطات إصلاحية تظهر هنا وهناك، وأخيراً تكون محاور
الوثيقة منطلقاً لدى الحكومة في إنجاز مشروع إصلاحي وطني شامل.
حين تم الاعلان عن الوثيقة، رأى فيها الموقعون عليها ومن إلتحق
بهم فيما بعد وحتى من قرأ محتويات الوثيقة أنها تمثل أساس عمل وطني
يستأهل تعميمه على أنحاء البلاد، سيما وأن الموقّعين قد حققوا قدراً
كبيراً من التمثيل على المستويات المناطقية والمذهبية والإثنية، فكان
مؤمّلاً في أن تتحول هذه الوثيقة الى مانيفستو شعبي تستقطب حولها
كافة الاطياف السياسية والايديولوجية في المملكة. وعلى أية حال،
فمازال هناك وقت كيما يعيد القائمون على الوثيقة إحياء موضوعها
وإعادة طرحها على المستوى الوطني وفتح الطريق أمام آخرين من ذوي
الاستعداد والكفاءة كيما ينضمّوا الى (الفريق الإداري) لمشروع
الوثيقة من أجل إيصالها لكافة الجهات المحلية والدولية لجهة تشكيل
رأي عام وطني ودولي ضاغط على العائلة المالكة وخصوصاً في هذه الفترة
التي تبدو فيها صورتها مهزوزة بشدة.
كلمة أخيرة: السعودية باتت كنموذج يضرب به المثل في الديكتاتورية
المناهضة للتغيير والاصلاح، ولذلك فإن الالحاح على وضع لبنات التحوّل
الديمقراطي كان ومايزال حتى الآن يمنح العائلة المالكة فرصة ومبادرة
البدء بالتغيير، قبل أن يفرض عليها من الخارج، وهذا الخارج لا يعني
بالضرورة الولايات المتحدة وحلفاءها بل قد يعني أي طرف خارج العائلة
المالكة، وقد تكون قوى سياسية محلية متحالفة، رغم أن خيار التغيير
على الطريقة العراقية مازال خياراً قائماً عند الكثيرين إن فشل دعاة
الأصلاح والعائلة المالكة من الوصول الى كلمة سواء. |