دولة إنشطارية
كما هو مفعول القنبلة الانشطارية، فإن الدولة السعودية تملك خصائص
الانشطارية من حيث أنها موّحدة في ذاتها قبل أن تمارس فعلها
التدميري، فإذا تفجّرت فقدت وحدتها وربما أفقدت وحدة من حولها.
هذه الدولة بنزوعها العنيف نحو تشطير ما حولها كيما تبقى السلطة
متوحدة تعيد إحياء خلاصة التجربة المزدحمة لحكيم الشرق السيد جمال
الدين الأفغاني، وهو يقلّب طرفه وفكره في أسباب تأخر هذا الشرق
الاسلامي وتقدّم غيره الغرب المسيحي. يقول بحرقة (فوجدت أقتل أدوائه
داء إنقسام أهله، وتشتت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على
الاختلاف).. رسالة الأفغاني هذه لم يقدّر لها أن تكتمل لأنه رحل قبل
قيام الدولة القطرية المشوّهة في شرق ظل يناضل أهله من أجل أن يخرجه
من حدّي الاستعمار الأجنبي والاستبداد المحلي، وكان على من عاش في
كنف الدولة المستبدة في الشرق أن يكمل القسم الآخر من رسالة الافغاني
ليقول بأن الإنقسام قد تخلى الاستعمار عن إنفاذه في أمة الشرقيين
وتولى أمراء هذه الأمة مهمة التشطير، فقد عرف هؤلاء أن استتباب حكمهم
يكون بزرع الفرقة والقسمة فيمن يحكمون، بل وأن يتحوّل التشطير سياسة
ثابتة في الدولة.
الدولة السعودية نشأت على توحيد الأجزاء سياسياً وتشطيرها نفسياً
ودينياً وثقافياً واجتماعياً، فتوحد من هذه الأجزاء ما عزز سلطتها
واستبدادها، وبقي ما دون ذلك في مهب التشطير.
سياسة التشطير خلقت قطيعة نفسية وثقافية واجتماعية بين قاطني هذا
البلد، حتى وكأنه يخيّل إليهم أنهم يعيشون في دول متعددة وهم ينتقلون
من منطقة لأخرى، فإذا سافر الحجازي الى الأحساء وجد نفسه في منطقة لا
يكاد يعرفها أو يشعر بأنها جزء من ثقافته وهويته والوطن الذي يحلم
بالانتماء إليه والعكس صحيح، ولو تحدث الجنوبي الى من في حائل عن
تراثه التاريخي وتحدّره الإجتماعي ومخزونه الثقافي، فلربما وجد من
يسأله عن أي الديار ينتمي، ومن أي قارة جاء والعكس صحيح أيضاً.
هل هذا التجاهل يوحي بأن رغبة السكان في المعرفة ضعيفة الى حد
الإغتراب بين من يتقاسمون التراب والهوية السياسية، أم أن وسائل
الإتصال متخلفة الى حد يصعب فيه التعارف بين المشتركين في المصير، أم
أن الوعي الثقافي والسياسي ضحل الى حد إنصراف الناس عن بعضهم. كل
المبررات مهما بلغت فإن حظها في الإقناع قليل قبالة السبب الجذري
الكامن في السياسة التشطيرية التي إتبعتها الدولة السعودية منذ
نشأتها. لقد أرادت هذه الدولة من الرعايا أن يتعرفوا عليها، ويرددوا
ثقافتها، ويحسنوا معاملتها، ويتغنوا بأمجادها، وربما يفخروا بغزواتها
الدموية فحسب، وما دون ذلك يمثل نقيضاً موضوعياً لتكوين الدولة
ونشأتها، بمعنى أن الدولة قهرت عباد الله بالسيف فأحكمت قبضتها على
أراضيهم، فإذا أرادوا التوحّد فيما بينهم فذلك يعني زوال قبضة الدولة
عن أراضيهم، لأن في ذلك التأسيس الصحيح لنشأة الدولة الوطنية، حيث
تبدأ هذه الدولة بإنضواء الجماعات وبصورة طوعية داخل إطار وطني ليفرز
لاحقاً دولته الوطنية.
الدولة السعودية حالة مختلفة تماماً، فالوحدة السياسية فيها نقيض
الوحدة الوطنية، وهي أساساً لم تنشأ على قاعدة إجماع وطني أو عقد
إجتماعي أبرمته المناطق المنضوية في الدولة السعودية، ثم قررت هذه
المناطق أن تعبّر عن نفسها سياسياً في دولة وطنية، وإنما قامت الدولة
على أساس إستعمال القهر المفرط في إخضاع المناطق وإلحاقها بالمركز،
وتأكيداً لذلك أصبحت (مملكة سعودية) وهذا المسمى لا يعني شيئاً آخر
سوى ملك عائلة آل سعود. فهذه الدولة، إذن، ليست وطنية مهما تزيّت
بمزاعم وطنية أو تمترست بخطاب وطني، ويكفي للإطاحة بكل ذلك أن الشعور
بالانتماء اليها لم يتضاءل فحسب، بل يشعر كثيرون بأنه بات مكلفاً
وتهمة.
فمن الآثام التي خلّفتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر وملحقاتها
كإفرازات لسياسة التشطير السعودية، أنك مضطر في مطارات الغرب لأن
ترصف الأدلة تلو الأخرى كي تثبت عدم انتمائك لعقيدة الدولة الدينية،
باعتبارها عقيدة مسؤولة عن إشاعة الرعب والإرهاب في العالم، وتقدّم
أدلة دامغة على عدم ترددك على هذا المسجد أو ذاك المركز الاسلامي،
رغم أن ثمة في إعماقك ما يحاول الصراخ في وجه من أمامك بأنني لست
بحاجة للدفاع عن نفسي أمام هذه التهم، فإن من اكتوى بعقيدة التشطير
في بلده منذ عقود يشعر بالقرف وهو ينقل من موقع الضحية الى الجلاد
والمتهم.
فالدولة التي انضوى قهراً إليها قدّمت للمواطن الدين على هيئة
مقصّ كبير، شطرت به العالم الى مؤمنين وكفار، ودار حرب ودار سلام
وإيمان، ثم شطرت المسلمين الى أهل توحيد وأهل بدع، وحتى داخل أهل
التوحيد هناك إنشطارات متفاوتة الحجم.
كل ذلك تعلمناه ويتعلمه أطفالنا الآن في المدارس، الجميع يتعلم
تشطير العالم وكراهيته، بإسم التوحيد (توحيد الربوبية والألوهية
وتوحيد الأسماء والصفات)، فمن أجل توحيد الخالق فرّقنا المخلوقين أو
هكذا تؤدي العقلية التشطيرية التي سادت هذه الدولة. هل حقاً أن عقيدة
التوحيد تفعل فعلاً إنشطارياً في الخلق؟!
هذه النزعة التشطيرية لدى الدولة جعلت الحاملين لجنسيتها وجواز
سفرها غير مكترثين لما يصيب الدولة مما اقترفته في الخارج، وما وصل
من شظايا تطرفها خارج الحدود، فضحايا التشطير في الداخل لا يشعرون
بأنهم معنيون بما يلحق بها من أذى، وجروح التشطير في أجسادهم لا
تسعفهم حتى على مجرد التفكير في مصير الدولة. |