إنفجارات الرياض تضع الحكومة أمام امتحان صعب
المصداقية والمشروعية في مهب الريح
لماذا تثير إنفجارات الرياض تحديداً الاسئلة الكبرى حول النظام
تكويناً ومصيراً؟ فقد شهدت هذه الديار حوادث كبيرة منذ أكثر من
عقدين، بدأت بما يعرف بإسم حادثة احتلال الحرم وظهور حركة جهيمان
التي كانت تخطط للاطاحة بالحكم السعودي باعتباره فاقداً للشرعية
الدينية، ثم دخلت البلاد في مرحلة العنف المسلّح مع دوي انفجارات
العليّا بالرياض عام
1995 والخبر عام 1996 أعقبتها سلسلة تفجيرات صغيرة الحجم خلال
السنوات الثلاث الماضية. غير أن التعامل مع هذه التفجيرات بقي
محصوراً في حدود التفجيرات تلك على اعتبار أنها حوادث كانت قابلة
للتطويق تأسيساً على قدرة الدولة في عزل المشتبه بهم وتحييدهم ومن ثم
ضربهم. عوامل أخرى تضاف الى ذلك، فالأوضاع المحلية كانت حتى ذلك
الوقت شبه محتملة رغم تردي الوضع الاقتصادي وتفاقم معدلات البطالة
وتزايد حجم الجريمة، وكانت القبضة الأمنية والتلويح ببطش المباحث
والقبضة الحديدية يأتي بمفعول قوي، وكذا الحال بالنسبة للأوضاع
الاقليمية والدولية، فخلال السنوات الماضية كان النظام الاقليمي
مستقراً نسبياً وكانت السعودية ماتزال تتنعم بقدر من التميّز كقوة
سياسية فاعلة ونافذة في الوضع الأقليمي، وكان العراق معطوباً
سياسياً، ولم تصل العلاقة مع الولايات المتحدة الى مستوى من التأزم
ينذر بدخولها مرحلة القطيعة، وفوق ذلك وجود اتفاق كثر الحديث حوله
بين قادة تنظيم القاعدة وأمراء في العائلة المالكة (وقيل بين أسامة
بن لادن والأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات العامة سابقاً وسفير
السعودية في لندن حالياً) على إستثناء السعودية من الاستراتيجية
الجهادية لتنظيم القاعدة وقائمة عملياتها العسكرية.
كل تلك العوامل كانت تحول دون الوصول بالجدل السياسي والتجاذب
الداخلي مع السلطة الى مستوى المقارعة المباشرة مع أجهزة الدولة، بل
والانكفاء عن التصريح بالمواقف الدينية من الحكومة.
ولكن ثمة تبدّلات كبرى حصلت في السنوات الأخيرة يمكن إدراكها في
السلوك العام للسكان وفي النشاط الاحتجاجي المتصاعد ضد الحكومة، وفي
وتيرة العنف المتنامية والمتمددة أفقياً وعمودياً، أي في تمسرح العنف
على بقعة واسعة من هذا البلد، وعمودياً في ضرب أهداف هامة ومنتقاة
وفي قدرة الجماعات الضالعة في هذه الهجمات على التحرك والمناورة
لايثنيها اكتشاف بعض حلقاتها للسلطة عن المضي في مخططاتها وتحقيق
أهدافها، فبعد أقل من أسبوعين على اكتشاف ما وصف بشبكة إرهابية في
الرياض إهتزت الأخيرة بفعل سلسلة انفجارات قادها أفراد ينتمون الى
نفس الشبكة. ثم توالت المواجهات المسلحة والتي كان يفقد فيها الجهاز
الأمني بعضاً من عناصره.
ماذا يعني كل ذلك؟
إن أول ما تلفت إليه هذه التطورات الخطيرة هو أن مصداقية الدولة
باتت على المحك، فسقوط عنصر الردع من الدولة يعني أن مصداقيتها تمرّ
بمنعطف خطير. فالناس حين لا يهابون الدولة يأمنوا شرها، ويتجاسروا
على خرق ما فرضته من قوانين وقيود، إن مجرد استعادة مسيرة الردع لدى
الدولة السعودية طيلة تاريخها الحديث أي منذ عام 1932 وحتى الآن
تتكشف أمامنا درجة الانحدار الساحق الذي بلغته، فالذين ظلت ذاكرتهم
نشطة وتحتفظ بماضي القمع في عهد فيصل مازال يتملك بعضهم الخوف من
القيام بعمل يودي بهم الى سجن المباحث بجدة، الذي كان يمتلىء
بالسياسيين ـ كما يعرّفوا حينذاك ـ بل أن بعضهم ظل لاجئاً خارج
الحدود وحين تبدّلت الظروف السياسية ومات ملك واعتلى آخر ظل هذا
البعض مسكوناً بهواجس الأمن حتى بعد عودته لبلده فيما فضّل البعض
البقاء في الخارج حتى زوال حكم آل سعود لما لقي في سجونهم.
هذه الصورة المفزعة عن القمع والبطش لم تتبدّل فحسب بل أصبحت مثار
سخرية من قبل المعارضين، مما إضطر الأمير نايف وزير الداخلية قبل عدة
شهور من الرد على القائلين بهشاشة الجهاز الأمني وضعف رجاله،
متوعّداً أولئك المعارضين في الخارج بأن يثبت لهم عملياً كفاءة
الجهاز الأمني. في الواقع إن مجرد لجوء الأمير نايف الى لغة دفاعية
كهذه والهبوط الى مستوى استعمال المناكفة الكلامية يمثل علامة ضعف
واضحة، فضلاً عن أن التجارب العملية التي تشهدها المملكة على مدار
اليوم في مواجهات متواصلة مع الجهاز الأمني وفشل الأخير في تحقيق
نجاحات حقيقية في تطويق الحوادث الأمنية أو القبض على المشتبه بهم أو
حتى الخروج سالماً دون خسائر من مواجهات مسلّحة معهم، كل ذلك يؤكد أن
خللاً عميقاً قد أصاب الجهاز الأمني.
التعبيرات شديدة الكثافة والدلالة على تهافت هيبة الأمن كثيرة،
تبدأ من التحرّشات الكلامية مع رجل المرور وتمر بعمليات السطو
المسلّح على البنوك والمراكز الحكومية والوزارات وتهريب السلاح ونقله
وبكميات كبيرة وبيعه في أسواق شبه علنية والمطاردات المتبادلة
والمسلحة وإنتهاءً بتخطيط وتنفيذ عمليات مسلحّة واسعة النطاق وبأحجام
كبيرة. إذا لم يكن كل ذلك دليلاً كافياً على سقوط مصداقية الأمن
والدولة معاً فإن الدليل التالي لن يكون سوى بسقوط الدولة حينئذ.
لاشك أن مقاربة موضوع الأمن لابد أن تضع في الحساب جملة العوامل
المؤثرة فيه، حيث أن الالتحام العنيف بالدولة يوحي بأن تبدّلات
جوهرية حصلت في علاقة المجتمع بالسلطة، بحيث أن مبررات العلاقة
وأساساتها قد تعرّضت لإهتزازات شديدة. فحين تتحول الدولة في نظر
أفراد المجتمع الى كونها عاجزة عن تلبية حاجاتهم وتأمين الحد الأدنى
من حقوقهم تصبح مجرد العلاقة المعنوية معها غير مبررة، وبالتالي فإن
أي التزام أخلاقي تجاهها يصبح ضرباً من الغباء. ليس هناك ما يدفع
الانسان لأن يطيع شخصاً ما لم يكن إما يخافه على شيء يملكه فيخسره أو
يطمع في شيء منه فيحصل عليه منه، وكذلك العلاقة بالدولة، فإن الناس
القاطنين داخل حدودها يطيعوها رهبة من بطشها أو رغبة في منافع يرجوها
منها. فإذا عجزت الدولة عن تحقيق المنفعة فإن لجوءها الى القوة لابد
أن يكون مستنداً على خوف الناس من الخسارة، وهذا ما لا يستشعره
كثيرون في هذا الديار التي لم تعد تلعب فيها الدولة حتى دور (رجل
الإطفاء) لمنع الخسائر، والا فإن جلب المنافع بات حلماً سرمدياً.
تفجيرات الرياض كانت إحدى الخلاصات الراديكالية لإنسداد أفق
العلاقة بين المجتمع والسلطة، وهناك خلاصات أخرى معتدلة عبّر عنها
جمع من دعاة الاصلاح في هذا البلد ممن ينتمون الى طيف واسع من تيارات
فكرية وسياسية وانتماءات مناطقية ومذهبية، وكان على الحكومة أن تسلك
طريقاً يجّنب البلاد والعباد مواجهات عنيفة قد لا يتمكن أحد من
السيطرة على تداعياتها الكارثية.
عقد الدولة يكاد ينفرط، والعوامل ـ الكوابح التي كانت ساهمت في
الابقاء على مصداقية الدولة وبالتالي مشروعيتها تكاد تتحلل الواحدة
تلو الأخرى، فالدولة في العقدين الماضيين مرّت بأسوأ ظروف تشهدها منذ
نشأتها، بدأت بعجز الموازنة المزمن، ثم تلاحقت الأزمات تباعاً.. وكل
أزمة تلد أخرى أشد شراسة، فالعجز عنى فيما عنى تراجع مسار التنمية
الاقتصادية، وتفشي الفساد الاداري، ومعدلات مرتفعة في البطالة، ونشوء
الجريمة الفردية والجماعية، وتشكّل عصابات السطو المسّلح، وجاء
الانفتاح الاعلامي كيما ينبّه الى ممارسات وأشكال في السلوك غير
معهودة محلياً، وكان مرور الوقت على الدولة لا يعني سوى تراكماً في
أزماتها وانفلاتاً في قبضتها على الوضع. وجاءت هجمات الحادي عشر من
سبتمبر والتطورات المصاحبة واللاحقة لها لتفتح المواجهة داخلياً مع
الدولة نفسها.
أمر آخر، كانت لحظة إعلان أسماء الخمس عشرة سعودياً المتهمين
بالتورط في الطائرات الانتحارية، هي لحظة التحوّل الحاد في العلاقات
السعودية الأميركية، وبداية تصدّع التحالف الاستراتيجي بين البلدين،
والذي عبّر عن نفسه مؤخراً بنقل القوات الجوية الأميركية عملياتها
الى قطر. وبخلاف ما يصوّره بعض المحللين بأن قرار النقل هو لاسقاط
مبررات الأعمال الإرهابية ضد الولايات المتحدة، فقد جاءت التفجيرات
لتؤكد أن قر النقل لم يحل دون إنطلاق الشاحنات الانتحارية بإتجاه
أهدافها المرسومة.
نقل القوات الأميركية الى قطر يحمل رسالة واضحة وهي أن السعودية
لا تتمتع بعد الآن بـ (الحماية) الأميركية، وإن كانت الحاجة الى
نفطها مازالت باقية، ولكن معادلة النفط مقابل الحماية هي الأخرى لم
تعد متماسكة كما الحال في الماضي، فهناك تبدّلان كبريان وقعاً ولاشك
أنهما تركا تأثيراً عميقاً على المعادلة تلك وهما: سقوط الاتحاد
السوفيتي عام 1989واحتلال العراق في 19 أبريل 2003، فالتحالف
الاستراتيجي بين واشنطن والرياض قائم على أساس توفير نفط رخيص مقابل
حماية العرش، والحال أن سقوط الاتحاد السوفيتي أسقط مبرر الحماية من
منظور النظام الثنائي القطبية، كما أن إحتلال العراق خفّض الحاجة الى
نفط السعودية.
غير أن من الضروري الالتفات الى نقطة ذكرها موظف السي آيه الآي
روبرت بيير في مقاله في مجلة اتلانتك بعنوان (سقوط بيت آل سعود) وهي
أن السعودية لا تسيطر على خيار النفط وبالتالي لا يمكن لها أن
تستعمله كورقة ضغط. فالعائلة المالكة تعلم أنها إن فعلت ذلك تقطع
رقبتها بنفسها، فهي لا تملك سوى بيعه الى الولايات المتحدة، وطالما
كان الأمر كذلك، فإن وجود العائلة المالكة أو غيابها لا يشكّل
بالنسبة للادارة الأميركية قلقاً.
العائلة المالكة، في ظل أوضاع متردية اقتصادية وسياسية وأمنية
داخلية وتبدّلات جيوسياسية إقليمية وشبه انهيار في التحالف
الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، تواجه بالفعل أزمة مصداقية وشرعية
في آن، إذ أن تلك المصداقية والمشروعية كانتا تستندان على قدرة
الدولة في فرض النظام وردع الخصوم، ولجم الاخترقات الموجهّة ضد
القانون، وفي كسر إرادة المعارضين لها وفي توفير قدر من الاطمئنان
والرفاه والرعاية، وفي اكتساب موقع معنوي داخل المنظومة الاقليمية
التي تنتمي اليها، وفي بناء تحالف على مستوى دولي يمنحها سمعة سياسية
وتقدير دولي خاص..كل هذه الاعتبارات تهاوت بصورة دراماتيكية، والمثير
للدهشة أنها جاءت متقاربة الى حد كبير.
كل ذلك أصاب مصداقية الدولة في مقتل، وجعلها مكشوفة على المستويين
الداخلي والخارجي، ففي الداخل هناك شعور عام بأن الدولة باتت عاجزة
عن استرجاع الأمن، بدليل أن كل تدابير الضبط المستعملة عجزت عن
احتواء الأزمة الأمنية فضلاً عن حلها، وهناك شعور عام أيضاً بأن
الدولة لم تعد تملك زمام مبادرة حل حقيقي لمشاكل البلاد الاساسية:
الاقتصادية والسياسية، وأن الحل بات ينتظر من خارج العائلة المالكة.
وخلاصة الأمر أن الدولة تعلم يقيناً أن مشاكلها لا يمكن أن تنتهي
بحلول سحرية ولا بالطرق الاعتيادية، فالأزمة الاقتصادية لن تسوّى
بسهولة وسرعة، فالدين الداخلي المتراكم يكفي لأن يورّث أجيالاً قادمة
أعباءً مضاعفة في هيئة فوائد متراكمة قد تفوق في وقت لاحق حجم الدين
الاصلي، وأن مجتمع البطالة يتزايد بما يجعل السيطرة عليه شبه
مستحيلة، فهناك مائة ألف عاطل عن العمل يدخل الى هذا المجتمع، بما
يلحق ذلك من تبعات سلبية اجتماعية وأمنية واقتصادية.
إذا كان حال الدولة كذلك، فلما لا تكون الواقعية أساساً لفهم
المشاكل العالقة، وإن من الواقعية أن تقدّم حلول سياسية لمشاكل
إقتصادية، فالانفراج السياسي كفيل بتخفيف أعباء المشكلة الإقتصادية،
وهكذا يفعل حكماء السياسة، فمن أجل تخفيف حدة الاختناق الاقتصادي
تفتح أبواب السياسة من أجل أن يتسرب بعض الهواء وبعض الأمل. فالسياسة
تحلّ في أحيان كثيرة مشاكل اقتصادية، لو أتقن الساسة إدارة الحلول
السياسية بحكمة، تماماً كما أن الحرية تصنع فرص عمل عديدة. |