الدولة القطبية
في عام 1744 تدشّن تاريخ جديد في شبه الجزيرة العربية، قاطعاً
صلته بما قبله مشيعاً نموذجه ولونه وسمته على ما بعده.. في ذلك
التاريخ انعقدت في نجد نطفة تحالف بين الشيخ والحاكم، لتنبجس منه
ثلاث تجارب سعياً لاقامة الدولة القطبية. وقد حقق التحالف إنجازه
المنتظر بقيام الدولة السعودية عام 1932. فكانت ولادة الدولة هي
بداية التاريخ بالنسبة للعائلة المالكة.. تاريخ طمس معه تاريخ
المناطق الأخرى السابق واللاحق. إنه كما يعرّفه بنجامين في كتابه
(قضايا فلسفة التاريخ) تاريخ المنتصرين، حيث يحكم الغالبون التاريخ
ولا يبقون الا على ما يمكن إدخاله الى الصورة التي يرسمونها عن
التاريخ بهدف تبرير سلطانهم، أما المغلوبون فيُنبذون من تلك الصورة
كما ينبذ كفاحهم من الذاكرة الجماعية.
فالتمحور على الذات النجدية كان ومازال حاكماً على الدولة هذه،
مترجماً نفسه في سلوك وتفكير يوحيان بأن نجد قطب الرحى والمحور الذي
يدور حوله الكون، وأن ما عداها هملٌ لا تأثير له ولا فائدة.
منذ قيام الدولة السعودية، كرّست النخب السياسية والدينية النجدية
جهوداً جبّارة من أجل تعميم نموذجها الايديولوجي وسيرتها التاريخية،
تبعاً للتعميم الجغرافي الاحتوائي، حين بلعت نجد باقي المناطق وقررت
تنجيدها سياسياً ودينياً وثقافياً.
في مناهج التعليم، وفي القلب منها مادتي الثقافة الوطنية والتاريخ
يدرّس التلاميذ في المدارس الحكومية تاريخاً يبدأ منذ بدء المحاولات
الأولى لانشاء الدولة السعودية الوهابية، فيلقّن التلاميذ أسماء رموز
السياسة والمذهب في نجد، وتملأ ذاكرتهم سيرة الغزو والغارات على
مناطقهم، حتى نسي تلاميذ الحجاز، ومثلهم تلاميذ المناطق الأخرى،
أسماء زعمائهم الدينيين والاجتماعيين وتاريخ دولهم السابقة. والسبب،
أن الفاتحين الجدد قد تشرّبوا عقيدة مزعومة تحدّثهم زيفاً بأنهم
(صفوة الخلق) و(معدن العلم والتقى)، وأن على من سواهم الامتثال
لاملاءات شرعة جاؤوا الى الناس بها من أجل تطهيرهم من الجهالة
والضلالة.
هذه العقيدة حين تعبّر عن نفسها في سلوك وموقف ونظرة تجاه الآخر،
تصبح شوفينية فريدة تقوم على مزاعم دينية وتاريخية، تنمّي في حامليها
مشاعر التفوق والانفراد بالحق والحقيقة، وتجعل من عداهم مجرد قوم
تبّعٍ يجب عليهم الانصياع لما يأمرون به ولا يسئل هم عما كانوا
يعملون.
هذه المشاعر تكاد تكون شديدة الطغيان والظهور لدى النخبة
السياسية، ولكنها مشاعر تتسرى في النخب الدينية والاجتماعية. الغريب
أن المعارضة الدينية السلفية المنبعثة من نجد وبكافة أطيافها
وسطيٌّها المزعوم ومتطرَّفها تحمل نزوعاً مماثلاً للعائلة المالكة،
فهذه المعارضة ترى بأن مولدها يعد بداية تسجيل التاريخ الاحتجاجي في
هذا البلد، وكأن هذا البلد لم يعرف حركات إعتراضية، فكان بانتظار
اللحظة التي يولد فيها جنين المعارضة النجدية، والسلفية منها بخاصة.
رواية روّاد هذه المعارضة السلفية عبر برنامج (الاتجاه المعاكس)
في الثلاثين من يونيو الماضي تصرّ على إيصال رسالة زائفة للمشاهدين
تفيد بأن هؤلاء الفرسان أول من امتطى جواد التغيير، وأول من كشف
الخلل في كيان الدولة السعودية، وأول من نبّه الى المخاطر المصيرية
التي تنتظرها، وأول من وضع حجر الأساس للمشروع الاصلاحي في الدولة.
قائمة الأوليَّات هذه لا تحتمل تفسيراً غير الاقصاء الشامل، تلك
النزعة المجنونة التي تجنح بأصحابها كيما يروا في أنفسهم الضالة التي
عثر عليها الوطن أخيراً. هذا الرهط يرى بأنه قد فاز بكل الفضائل وظفر
بكل المحاسن ولم ير لمن سواه فضلاً أو فيه خيراً.
فنجد السلطة والمعارضة الدينية هما سواء في العقيدة تجاه الذات
والآخر، وهذا مقتضى الدولة القطبية التي نشأت على عقيدة التميّز
والانفراد بالحقيقة، وبالتالي ترى نفسها بأنها الممثل الشرعي الوحيد
عن السماء والأرض.
الدولة القطبية، إذن تقوم على شعورمشترك بالتفوّق لا فرق في ذلك
بين الشيخ والحاكم والمعارض، فكلهم ينتمون الى ذهنية إقصائية،
استئصالية، انفرادية، فأيهم يحكم يمتثل لذات السياسة ويتبّع ذات
النهج ويحقق ذات الأغراض. فكلهم مسيّرون بذهنية الغزو، الذي لا تحتكم
بطبعها الى قواعد العدل وإنصاف الخصم أو إعتراف بآخر، هذه الذهنية
ترى بأن السلطة غير قابلة للقسمة على إثنين، لأنها نتاج غزو، وخلف
الغزو عقيدة تقوم على احتكار الحقيقة، وخلف ذلك رسالة تطهير العالم.
هي ذات العقلية التي ترى بأن الوجود يبدأ من الحاكم والشيخ
والمعارض المنتمين جميعاً الى نجد المتفوقة وتنتهي بهم، فالتاريخ
يبدأ منذ لقاء شيخ العيينة وحاكم الدرعية، والصحوة تبدأ منذ أن وعى
أقطاب الدعوة الجديدة أن انحرافاً قد تسلل الى الدولة فأضرّ بحركة
الدعوة وإمتيازات الدعاة، والمعارضة تبدأ عام 1991 حين تجمّع فرسان
المعارضة الجدد في الرياض كي يسجّلوا تاريخ المعارضة في هذا البلد.
فقد فاز القطبيون في هذا البلد بإنشاء الدولة، والدعوة والمعارضة،
فالوالي يرى بأنه لولاه لما عرف هذا البلد الأمن والاستقرار، والشيخ
يرى بأنه لولاه لما عُبد الله في الأرض، والمعارض يرى بأنه لولاه لما
بدأ مشروع الاصلاح في هذه الدولة.
القطبية هذه هي التي تحول دون أن يحقق الحاكم والشيخ والمعارض
حضوراً له خارج أرضه في نجد وربما خارج مسقط رأسه، فليس هناك خارج
نجد من هم على استعداد لتسليم الرقاب لأي من هؤلاء. ليس لأي من هؤلاء
امتداد شعبي خارج أسوار مدينة الملح الكبرى، ففي أي زيٍّ ظهر هؤلاء
تصبح النتيجة واحدة، إقصاء واستئصال للآخر، وامتلاء كاذب بمزاعم
احتكار الحقيقة وبطاقات النجاة من النار.
هؤلاء القطبيون حين يختلفون فهم جميعاً يدركون بأن تشابكهم يشبه
تشابك مصارين البطن الواحدة، ونزاعهم هو نزاع أبناء الدار الواحدة،
ولذلك هم لا يختلفون في الموقف من المعارضين خارج نجد بكامل حمولتها
الدعوية والاثنية، وهم جميعاً يرون بأن الله بدأ بهم وبهم يختم. |