سياسة (القطع المتناثرة) وغياب المنهج
كثيرة هي الإشارات والخطوات التي اتخذتها الحكومة السعودية في
المجالات السياسية والإقتصادية. ولكنها في الغالب خطوات معزولة لم
تستكمل، او توقّفت وأصبحت بالتالي عديمة الفائدة أو نسيّاً منسيّا.
هذه الإشارات تبدو وكأنها ردود فعل آنيّة ولم تتخذ صفة المنهج، بل
هي (قطع متناثرة من القرارات) لا يجمعها خيط رفيع، وليست مدّعمة
برؤية واضحة للمستقبل، أو بمنهج تنطلق منه نحو المستقبل، ولذلك فهي
غالباً ما تُنسى ويتم تجاهلها، أو يجري تجاوزها.
سياسة القطع المتناثر هذه، تفيد كمسكن للألم، ولكنها تطلق شحنة من
التوقعات عند الجمهور لا يمكن تحقيقها في غياب الإستراتيجية
والمنهجية، وبالتالي ترتد على الحكومة بالمزيد من السخط، أو بالكثير
من اليأس، فتفسّر أية خطوات لاحقة بأنها مجرد خداع ونفاق وتمويه.
أيضاً فإن هذه السياسات تشبه الى حدّ بعيد ممارسة (التجربة والخطأ)
وليست لبنة تبنى عليها أخرى، لأنها في الأصل لم توضع بشكل مدروس.
وهذا يجعل من عملية الإصلاح العام عسيراً، حيث لا تُعرف نقطة البداية
ولا الى أين تقود.
كثيرون تفاءلوا حين أُعلنت الأنظمة الثلاثة في عام .1993. ولكنها
انتهت الى مأزق سياسي وأمني واجتماعي شامل. كانت مجرد خطوة التفافية
وانتهى مفعولها الآني، فلم تغيّر شيئاً من واقع الحياة السياسية
والإدارية في المملكة، رغم تشكيل مجلس الشورى ومجالس المناطق. ولذا
أصبح من المتعذّر اليوم بعد انقطاع دام عشرة عوام أن يكون ما جرى
تأسيساً لمستقبل سياسي حديث، فأصبحت الدعوات الشعبية تميل الى إلغاء
الموجود وتطالب: بانتخاب المجلس، وبدستور جديد، وبنظام لا مركزي يلغي
من الناحية العملية نظام المناطق. ولو كانت هناك خطة ومنهجاً واضحاً،
لجرى التدرّج الى هذه النتيجة بشيء كبير من السلاسة واليسر.
ومن الأمثلة الأخرى، المجلس الإقتصادي الأعلى الذي أصبح في عداد
الموتى، ومشروع الغاز، ومشروع مجلس العائلة المالكة، ومشروع إقراض
السعوديين في سبيل سعودة سائقي الأجرة، ومشروع ملياري الدولار التي
جمعت من المواطنين لتوفير الحواسب الآلية للمدارس، ومشروع تشجيع
الموهوبين، ومشروع مكافحة الفقر، ومشروع تنقية المناهج، ومشروع ضبط
حركة المال عبر الجمعيات الخيرية وغيرها.
معظم هذه المشاريع انتقلت الى اللحد، أو في طريقها، أو جرى
لفلفتها بصورة أو بأخرى.
وفي الإصلاح السياسي، يستقبل ولي العهد الرموز الوطنية فيعد
بالإصلاحات، بلا منهج في ذهنه، فيصبح مجرد فقاعات هواء. ثم يستقبل
وفوداً أخرى فيأتي نتيجتها الحوار الفكري في الرياض، ثم الحوار
السياسي في جدة، ولكن بدون أفق أبعد من عقد اللقاء. ومثل هذه الأمور
تصيب المواطن باليأس، وتدفعه لنهج التطرف والعنف، وتزيد البلبلة في
الشارع، وتضعف مصداقية الحكومة، وقد تفضي لزلزلة أركان الدولة.
المطلوب منهج واضح للإصلاح، نعرف مبتداه ونهايته، والخطوات التي
ستتم في كافة المراحل، والمدة الزمنية التي يستغرقها. وهذا لن يكون
بدون عقد حوار وطني شامل بين السلطة والنخب الإصلاحية، يتفق بشأنها
على الإصلاحات وطريقة تنفيذها. بدون ذلك فإن سياسة القطع المتناثرة
لن تفضي إلا لمزيد من الشوشرة والتأزم. |