تعود الى حجمها قلقة، خائفة، منكفئة
سعودية ما بعد مبارك
خالد شبكشي
سقط مبارك، وبدأت حفلة التلاوم بين واشنطن وحلفائها
في الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم إسرائيل والسعودية: لماذا
سمحتم بسقوط الصنم في القاهرة؟!
سقط مبارك، والمحاولات (الأميركية ـ الإسرائيلية ـ
العربية الرسمية) جارية لاحتواء الإعصار بصورة من الصور:
ـ أن لا تصل الى الحكم قوى معارضة للصهيونية.. قوى
تميل الى الإنفكاك من العلاقة الخاصة مع الغرب. لو كان
ممكناً، لكان الأفضل بقاء العسكر في الحكم. ولكن هذا من
المحال. ولكن يمكن العمل بجدّ لإقناع العسكر المصري بأن
يكون خشناً مع القوى المصرية الوطنية الحيّة، وبإمكانه
ـ حسب تصورات أعداء الثورة ـ ضبط اللعبة الإنتخابية والديمقراطية
بحيث لا توصل من تسميهم اسرائيل وواشنطن بالمتطرفين القوميين
أو الإسلاميين.
ـ احتواء الحريق من أن يتمدّد خارج مصر، بإقناع بقايا
حزب الإعتلال العربي أن يتخذوا خطوات ملموسة تقنع الجمهور
بالعدول عن الثورة والنزول الى الشارع. ولكن التباشير
تفيد عكس ذلك، كما هو الحال واضحاً في اليمن. لقد تأخر
الوقت كثيراً جداً على إصلاح هذه الأنظمة المعتلّة.
|
ثورة في مصر.. وارتداداتها
في السعودية |
ـ ركوب موج التغيير إن استعصى منعه، بتكرار تجربة مصر
والموقف من رئيسها.
ـ توسيع رقعة الثورة لتشمل دولاً كانت واشنطن تتمنّى
تغييرها بذات الوسائل التي أسقطت حلفاءها في تونس والقاهرة.
وفي مقدمة الدول التي تتمنى واشنطن واسرائيل والسعودية
تغييرها، إيران، وسوريا، والى حدّ ما الجزائر. هناك حاجة
الى إعادة التوازن النفسي لحلف الإعتلال العربي، حتى لا
يستحوذ على كل الخسائر دفعة واحدة!
من الواضح أن النفوذ الأميركي ـ الغربي يشهد انحلالاً
متسارعاً في منطقة الشرق الأوسط؛ وهو آخذ بالإزدياد والإتساع،
ولا يمكن إيقافه في المدى المنظور. وفي السياق ذاته، فإنه
سيصيب حلفاء واشنطن والغرب في المنطقة ذات الإنحلال المتسارع،
لأن هذه الدول تعتمد في حمايتها ومكانتها والى حدّ ما
في اقتصادها على الغرب نفسه. من الصعب تخيّل تراجع نفوذ
الغرب في المنطقة دون أن يؤثر ذلك على دول مثل اسرائيل
والسعودية والأردن والسلطة الفلسطينية وغيرها. هذا مستحيل.
الآن وقد سقط مبارك، ماذا تعني الترجمة الحرفية لذلك
السقوط على بلد مثل السعودية؟
باختصار يمكن القول بأن السعودية تعيش زمن الحيرة والعزلة
والخوف من المستقبل. ولعلنا نتلمس تأثير الثورة المصرية
على السعودية سلباً في النقاط التالية:
أولاً ـ بدأت المنطقة تعيش فراغاً سياسياً كبيراً،
لا يمكن لدولة من دول الإعتدال أن تملأه. اللهم إلا دول
وقوى الممانعة، وبقدر ما. ستعيش مصر فترة نقاهة، وحين
تعود الى وضعها الطبيعي فإنها لن تكون مصر السادات أو
مبارك التي عرفناها. هذا الفراغ السياسي، لا تستطيع السعودية
أن تملأه. على العكس من ذلك، فإن مكانة وتأثير السعودية
في المنطقة كانا قائمين على أكتاف لاعبين عديدين، في مصر
والجزائر ودول عربية أخرى، وقد انحصر ذلك التأثير مؤخراً
على ما تقدمه مصر. لقد تبنّت مصر مبارك كل السياسات السعودية
حذو القذة بالقذة، حتى وإن كانت في غير صالحها، بما في
ذلك الموقف من إيران والعراق وسوريا وحماس. كانت هناك
جهات لم يكن لمصر مصلحة في استعدائها، اللهم إلا تماشياً
مع مصلحة السعودية وإسرائيل.
السعودية لم تكن يوماً ما زعيمة على العرب وصاحبة نفوذ
كبير إلا بقبول الدول القطبية لذلك: سوريا ومصر والجزائر
والى حد ما العراق. وشيئاً فشيئاً خسرت السعودية كل هؤلاء
وكان آخر الخسائر: مصر. حتى الدول الصغيرة وقليلة التأثير
لم تعد للسعودية كلمة مسموعة عندها، ابتداءً من موريتانيا
وانتهاءً بقطر!
إن سقوط مبارك يعني حرفياً، القضاء المبرم على النفوذ
السعودي في المنطقة. لن تقوم لآل سعود قائمة بعد اليوم.
وهذا يعني:
ـ أن السعودية ستعيش مختنقة بنفسها وحيدة في الساحة،
اللهم إلا إذا تلطّف بشار الأسد عليها وأقحمها في بعض
القضايا. وإلا فالسعودية اختارت العداء لكل جيرانها الأقوياء،
والضعفاء أيضاً!!
ـ أن السعودية بناء على ذلك إما أن تعدّل من سياساتها
وتميّز نفسها عن الموقف الأميركي ـ الإسرائيلي، ولو بشكل
محدود.. ما يعني أن تقترب من حلف الممانعة الذي ناصبته
العداء طويلاً. وإما ـ وهذا محتمل بالنسبة لأمراء رعناء
ـ أن تنكفيء على نفسها وتتخلّى عن دورها في محيطها الإقليمي
بشكل كامل، مثلما تركت العديد من القضايا: السودان، الصومال،
الصحراء الغربية، وحتى قضية فلسطين وأخيراً لبنان!
ـ إن خروج مصر من معادلة حلف الإعتدال.. مصر التي تغذّى
عليها النفوذ السعودي لأربعة عقود تقريباً.. لن يزيد من
مكانة السعودية في عين الغرب كما يعتقد البعض، وذلك بالنظر
الى عدم وجود بدائل أميركية أخرى. على العكس يمكن توقع
أن تغير أميركا والغرب سياستهما تجاه التغير الكبير الذي
أحدثته الثورة المصرية، وبالتالي لا يستبعد أن تسعى أميركا
الى التقارب مع حلف الممانعة المنتصر، بحيث يزداد الضغط
على الحلفاء كالسعودية لإصلاح وضعهم الداخلي. الآن لم
يبق لدى واشنطن من حلفاء سوى السعودية واسرائيل، اضافة
الى الصغير القابع في الأردن! فهل بمثل هؤلاء يمكن للغرب
أن ينمّي نفوذاً مستداماً وقوياً، خاصة في ظل الإنهيارات
المتتالية لحلفاء أميركا؟!
ـ يمكن تفهّم بكاء الأمراء السعوديين على مبارك، ويمكن
تفهّم استماتتهم في بقائه، وإن كانت وسائلهم في ذلك فجّة
عقيمة. بيد أن سقوط نظام مبارك السريع، بقدر ما أذهل اولئك
الأمراء، فإنه شلّهم عن الحركة، ومن شبه المستحيل أن يقوم
الأمراء بتبنّي سياسة جديدة في المنطقة، ويواظبون على
إنجاحها، فكل ما لديهم مجرد رد فعل، وهم ـ بسبب كبر السنّ
ـ لا يستطيعون القيام بمبادرة ذات بال (اللهم إلا التخريب
على الآخر) بالشكل الذي شهدنا فصوله في العراق ولبنان.
ثانياً ـ هناك انعكاسات مباشرة على الوضع الداخلي السعودي،
أي على الجمهور وعلى نظام الحكم. لا شك أن سقوط مبارك
عبر ثورة، واحتمال سقوط علي عبدالله صالح على الحدود الجنوبية،
وربما الأردن في الشمالية، سيجعل السعودية عرضة للتغيير.
نعم، الأمراء السعوديون متشبثون بالحكم، ولكن التغييرات
الإقليمية العاصفة لا بدّ وأن تضعف من قبضتهم، وتغري الجمهور
المسعود بتغييرهم.
ـ هناك احتمالات ولو ضئيلة بأن يعدّل نظام الحكم السعودي
من سياساته، ولو قليلاً: مثلاً، الإنتخابات البلدية التي
جمّدت لسنتين، ستقام في الأشهر القادمة، ولكن هذا الإجراء
ضئيل ولا قيمة له. اللهم إلا إذا أعلن آل سعود بأن مجلس
الشورى سيجري انتخابه مباشرة وليس بالتعيين. قد يكون هذا
ـ لو حدث ـ إجراءً يمنح الأمراء مزيداً من الوقت في السلطة.
لكن عقلية الحكم السعودي مختلفة عن الحسابات المنطقية:
الأمراء يعتقدون أن ما يجري مجرد (شدّة وتزول) شأنها شأن
الشدائد التي مرّت عليهم وخرجوا منها سالمين. قد لا يقدموا
أية تنازلات ذات قيمة في حقل الإصلاح السياسي، فالنظام
هرم وجامد ويصعب إصلاحه (بدون كسر)!
ـ بالنسبة للجمهور المسعود، فإن حكم آل سعود بالنسبة
لهم قد انكشفت عمالته وفساده وفشله حتى في توفير الحد
الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين. رأى المواطنون أن
ما ثار من أجله المصريون والتونسيون واليمنيون هو ما يجب
أن يثوروا من أجله: كرامتهم وحرياتهم ومصالحهم كمواطنين
في دولة نفطية غنية. سيشعر المواطنون عاجلاً أم آجلاً
بأن عدم وقوفهم ضد حكم العائلة السعودية المالكة، لن يغير
من حالهم، لن يخفف من الفساد والسرقات، لن يزيد من الوظائف
ويخفف من البطالة، لن يمنحهم الكرامة والحقوق المدنية
والسياسية. سيشعرون بأنهم أدنى من بقية الشعوب المجاورة
لهم والتي انتفضت على طغاتها فأسقطتهم. إن مجرد وجود مثل
هذه المشاعر تشكل عامل ضغط على الأمراء.. ولكن هؤلاء الأخيرين
لن يفهموا غير لغة الشارع، ولن يتغيروا إلا على صرخات
من ظنّوا أنهم نائمون.
ـ سيعيش الأمراء هاجس الخوف والقلق من أن تقترب الثورة
الى خبائهم فتحرقه. سينكفئون على أنفسهم يمنّون الجمهور
بغدٍ سعيد.. بوعود جعلت ثلث الشعب يعيش تحت خط الفقر؛
وثلث شبابه يعيشون بطالة حقيقية. بهذا ستتقزم مملكة آل
سعود الى أبعد الحدود، ولن ينال شعبها الإحترام بين شعوب
المنطقة إلا إذا غيّر من مواقفه ولم يسمع لوعاط السلاطين،
وأخذ حقّه بيديه. المملكة السعودية ستعود الى حجمها الحقيقي،
وسيتحول مركز الثقل في الشرق الأوسط الى مثلث: تركيا ـ
مصر ـ إيران. إن سياسة الإستعلاء وحالة الإنكار التي يعيشها
الأمراء لن تحميهم من آثار الزلزال المصري، الذي بدأت
ارتداداته تسمع في أكثر من عاصمة عربية.
|