مشروعية الدولة
المراجعة أو الإنتحار
الحق التاريخي في الحكم ودعاوى (ملك الآباء والأجداد) لا تعطي
حقّاً تاريخياً لآل سعود لحكم البلاد، أو مناطق في البلاد. ماذا لو
قال الأشراف أو الهاشميون بأن حقوقهم التاريخية أقوى من حق آل سعود؟
ماذا لو قال الخوالد بأن حقهم التاريخي في حكم المنطقة الشرقية أقوى
من حق آل سعود؟ ماذا لو ظهر لنا عشرات من المواطنين يطالبون بملك
الآباء والأجداد في شمال وجنوب وغرب وشرق المملكة؟ إن مقولة الحق
التاريخي ساقطة علمياً، فكيف يحكم آل سعود الحجاز وفق منطق الحق
التاريخي؟ ومنذ متى كان آل سعود ملوكاً على الحجاز؟
كذلك حق السيف (أخذناها بالسيف) فهذا المنطق يجعل المملكة غابة
يتنازعها الأقوى؟ فإذا جاء أحدهم مستعيناً بقواه الذاتية أو الخارجية
ـ مثلما فعل آل سعود مع البريطانيين ثم مع الأميركيين ـ واستولوا على
السلطة وأزاحوا آل سعود منها؟ هل سيصبح الحكم شرعياً؟ إن القبول بحكم
(الغَلَبة) الذي ينظّر له بعض السلفيين باطل، وخطير جداً، فهو يشرعن
المعارضة والعنف كوسيلة صحيحة للوصول الى السلطة، ويعطي للقوة
مشروعية فوق مشروعية الحق. فالإرهابي اليوم، والخائن بنظر البعض، قد
يصل الى السلطة، فإذا وصلها أصبح شرعياً! فهل هذا منطق صحيح؟! وهل
الشعب مجرد قطيع صامت يحكمه (الأقوى) في العضلات وفي التحالفات وفي
الخيانات؟!
كذلك فإن آل سعود يزعمون المشروعية الدينية لحكمهم، ولكن لا مذهب
الشيعة ولا المذاهب غير السلفية الأخرى تقبل بمنطق أن آل سعود حكاماً
شرعيين من الزاوية الدينية. حتى السلفيين يرون اليوم أن حكم آل سعود
غير شرعي، فلا هم جاؤوا وفق آلية شورى، ولا هم كأشخاص يتمتعون
بمواصفات الحاكم المسلم حيث سلوكياتهم تفضح ذلك، وفوق ذلك لا يجري آل
سعود السياسة وفق منهج الدين. ولكن الأمراء يزعمون تطبيق الشريعة،
وأنهم يمثلون (السلفية) في حين أن أتباع هذه السلفية لا يغطون
بشرعيتهم سوى أطراف من الجسد الملكي المتهالك. إذا كان لا بدّ من
شرعية دينية للنظام السعودي، فهذه لا تتم إلا بأن يعترف بكل المذاهب
الإسلامية، وتؤصل أحوالهم على الأرض، ومن ثمّ لا بدّ من أنهم جميعاً
يفتون بشرعية النظام، وهذا غير حاصل. وحتى لو حصل، فإن المشروعية
الدينية لا تكفي في هذا الزمان عن المشروعية السياسية، لأن الدين لا
يوفّر كامل الغطاء لتصرفات العائلة المالكة، فهناك أطياف من المجتمع
لا ترى في المرجعية الدينية مرجعية سياسية، ولا تقبل بغير أن يكون
لكل مواطن رأي في نظام الحكم وفيمن يحكمه وفي السياسات التي تطبق
عليه أو تجرى وفق أسسها أمور الدولة. كل هذا لا يتأتى إلا باستجلاء
رأي الشعب، عبر صناديق الإنتخاب.
نأتي بعد هذا لشرعية المنجز السياسي والإقتصادي والإجتماعي لنظام
الحكم السعودي؛ فكلما نجح فيها وفّر شيئاً من ذلك الغطاء الشرعي،
وأصبح أكثر قبولاً. ونحن نعلم اليوم الفشل الذريع، بل الهاوية التي
أوقع فيها آل سعود الدولة والمجتمع. هاوية يدفع المواطن ثمنها من
أمنه واستقراره ورفاهه ومستقبله ومستقبل أبنائه، كما من صحته وتعليمه
وعمله. المنجز الذي حققه آل سعود ضئيل بالمنظور الإقتصادي ومعدوم
بالمنظار السياسي، وحتى الجانب الأمني بدأ يرتدّ على المواطن جرائم
لا أول لها ولا آخر، ولم تعد البلاد كما يزعمون (بلد الأمان
والإستقرار)!
إزاء هذا المأزق، يجرّب الأمراء عضلاتهم لتوفير المزيد من شرعية
القوة، والحقيقة فإن القوة لا تحتاج الى مشروعية، فمن يملكها لا يهتم
أرضي الناس أم سخطوا، ولكن كلما كان الإعتماد كبيراً على استخدام
العنف لفرض الطاعة على الجمهور، كلّما تضاءلت مشروعية نظام الحكم..
هذه معادلة لم يفقهها أساطين الحكم السعودي بعد. ومع أن أبواب
المراجعة تضيق الآن، لكنهم يعولون على (السيف الأملح) وعلى (أخذناها
بالسيف) وعلى مجموعة من العلماء والمشايخ السلفيين التائهين الذين
انتهت صلاحيتهم ولم يعودوا قادرين حتى على ضبط الشارع، فضلاً عن
توفير خطاب ديني حديث يمكن أن يفيد الأمراء في إطالة عمرهم.
مشروعية الدولة السعودية تم الطعن فيها من أقرب المقربين، أي من
السلفية نفسها، ومن نجد معقل النظام. إنها مشروعية تتصاغر يوماً بعد
آخر، فلا منجزات ولا ثقافة تدعم مقولات حكم الآباء، ولا أجيال تتقبل
مقولة من أخذها بالسيف صارت له! وأصبح يتملك البلاد وأهلها.
الآن تجب مناقشة مشروعية الدولة من جديد، إن أريد لهذه الدولة أن
تستمر، والعائلة المالكة أن تبقى في سلّم القيادة السياسية. ليس أمام
الأمراء سوى طريق واحد: الإصلاح السياسي بما يشمل الإنتخابات، وإيقاف
الفساد والهدر الإقتصادي وإصلاح جهاز الدولة الديني ومناهج التعليم،
حتى تتمكن الأجيال الجديدة من الإقلاع الى عالم السلم والرفاه.
نظن أن الأمراء لا يفكرون في هذا، وربما لا يكون الأمر سيئاً
بالنسبة لأولئك الذين يتمنون زوال الدولة. فتأخير الإصلاحات، واعتماد
العنف كمنهج، والإستمرار في سياسات لصوصية، ستوصل آل سعود الى القاع
سريعاً، لن يمكنهم حينها التفكير في الإصلاح، ولن يكون الإصلاح
مقبولاً منهم، بل الإجتثاث من الجذور.
الكاتب السعودي المتميّز مشاري الذايدي، وفي مقابلة له مع أحد
المنتديات في الشبكة العنكبوتية، تطرّق في إجابة على سؤال حول
مشروعية الدولة، ورأى أن المشروعية تلك بحاجة الى إعادة نظر، وقال:
(إن فلسفة المشروعية بحاجة إلى إعادة نظر، فإذا كانت المسيرة
المعرفية للفكر السياسي في وقت محمد بن عبد الوهاب قائمة على قصْر
وظيفة الدولة على خدمة الدين، في المقام الأول، وسوْس الرعية بالدين،
فإن هذه المسيرة المعرفية قد شهدت طفرات كبرى، تغير فيها جذريا مفهوم
ووظيفة الدولة، وتبعا لذلك مشروعيتها... إن الخطاب السياسي الذي أقام
الدولة في المرحلة الأولى والثانية وحتى الثالثة، لم يعد مجديا الآن،
مع التطور الهائل الذي حدث في المعرفة السياسية، ومع الانكماش الكبير
الذي شهده الخطاب الفقهي في جانبه السياسي، وعدم فعاليته الآن، إن
المشروعية اليوم تقوم على المُنجز التنموي، الاقتصادي، الاجتماعي،
والسياسي بطبيعة الحال، فبقدر ما تحقق الدولة من إنجازات على هذا
الصعيد، أو ذاك، بقدر ما تتعزز مشروعيتها السياسية لدى شعبها).
وأضاف الذايدي قائلاً: (هذه هي الفكرة الجديدة التي يجب أن يعاد
بناء المشروعية و(خطاب) المشروعية عليه، لا على أساس الوظيفة الدينية
القائمة على الدعوة والتبشير بالإسلام وخدمته...الخ. أو على أساس
حماية (النقاء) السلفي. إن خطابا كهذا، ومع مرور الوقت، سيخفف اللجوء
المفرط للخطاب الديني في كل شاردة وواردة، وسيحرر طاقات البناء
ويحميها من الاستنزاف في مراعاة هواجس الدينيين التي لا بداية لها
ولا آخر. الذي أراه إلى الآن، ومع كل المؤشرات الجيدة في هذا
الاتجاه، هو أنه لم يحدث بعد تحول حقيقي نحو هذا المسار.. ولذلك
فإنني اعتقد أن الأزمة والاحتقان السياسي الإسلامي السعودي سيظل
باقيا ما بقيت هذه الإشكالية دون تفكيك). |