السعودية: الثورات الحلال والحرام!
محمد قستي
من حيث المبدأ، فإن السعودية تقف ضدّ أية تحولات سياسية
راديكالية، في أي ركن من أركان العالم. هذه طبيعة الأنظمة
المحافظة من جهة فلسفتها وطريقة حفاظها على ذاتها. لهذا
لم تكتف السعودية بمحاربة الثورة في بلداننا العربية وناصبتها
العداء في الماضي، بل هي وصلت بالأمر الى أميركا اللاتينية
(دعم ثوار الكونترا نموذجاً). وزيادة على ذلك فإنها ناصبت
العداء حتى للأحزاب الأشتراكية والأوروبية في فرنسا وإيطاليا،
وموّلت حملات انتخابية لمرشحين يمينيين محافظين. كأن السعودية
هنا تريد أن تكون البلد العدواني المحافظ في العالم، الذي
لا يكتفي بمعاداة الثورة في الدول المؤثرة في محيطه الإقليمي،
بل يتعدّى ذلك الى كل بقعة في العالم.
ومن هذا المنطلق وقفت السعودية ضد التحولات في مصر
(ثورة 1952) وضد الانقلابات والتحولات والثورات المتتالية
في العراق وسوريا، وكذلك ناصبت العداء لثورة 1962 في اليمن
ضد الإمامة، وكذلك ضد النظام الثوري في اليمن الجنوبي،
ومثله الأنظمة التي جاءت على إثر تحولات سياسية راديكالية
في ليبيا والسودان وايران وغيرها. كأن المشهد السياسي
يكشف بوضوح أن كل الأنظمة التي أصابها تغيير متوسط أو
عالي النسبة في هياكلها السياسية في المحيط العربي والإقليمي
وجدتها السعودية غير مأمونة، وينبغي تغييرها أو إضعافها
أو إسقاطها، حسب كل حالة.
في الإطار الأوسع، فإن السعودية لم تدعم ثورة أو حركة
تحرر، حتى تلك التي قامت بها أقليات اسلامية في جنوب الفلبين
(حركة مورو) أو جنوب تايلاند (فطاني) رغم أن كثيراً من
قيادات تلك الحركات السياسية تعلّمت في السعودية، وتحديداً
في (الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة!
وينبغي التفريق بين دعم ثورة، والتآمر على نظام ما.
ما حدث في فضيحة السراج حيث شيكات الملك سعود لاغتيال
عبد الناصر أواخر الخمسينيات الميلادية الماضية.. إنما
كان لتخريب نظام الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة)..
وما سعت اليه في السنوات الأخيرة في دول عديدة بما فيها
دول الخليج (مؤامرات للإطاحة بالحكم في سلطنة عمان وقطر)
يدخل ضمن هذا الباب، أي أنه تآمر لتغليب فئة ما في السلطة،
والإطاحة برموز لا يقبلون بهيمنة السعودية. ولا يعني هذا
تشجيعاً لانقلاب على حدودها، ولا ثورة قد تنتقل الى خبائها.
وتحاول العائلة المالكة في السعودية أن تضفي على سياستها
المستمرة ضد الثورات صفة (الدين).. فالتظاهرات حرام، والثورات
حرام، وطاعة أولي الأمر واجبة في كل الأحوال!!. والفلسفة
القائمة هنا لا تحتاج الى شرح: فكل المواقف السعودية تنظر
بعين الإعتبار الى الوضع المحلي، وتجميد الشارع المسعود
عنوة من أن يعبّر عن رأيه أو يطالب بحقّه في قيام دولة
تحترم كينونته كإنسان خلقه الله حرّاً، وتمنحه حقوقه المدنية
والسياسية والإجتماعية، كلازمة من لوازم فطرة الإنسان.
لكن الملفت الجديد في التعاطي مع الثورات، أن هذا المبدأ
الديني المزعوم قد تمّ خرقه بوضوح وأمام الملأ. لقد كرّر
مشايخ النظام السعودي ووعاظه ـ وفي مقدمتهم مفتي نجد ـ
بأن التظاهرات والثورات حرام. قالوا ذلك مراراً اثناء
الثورة في تونس، ثم كرروا الأمر وحذّروا من العواقب أثناء
الثورة في مصر، وزادوا في الإصرار على ذلك مع التهديد
بتكسير الجماجم إن تظاهر المواطنون (كما فعل الشيخ البريك
على قنوات النظام السعودي) وتمّ طبع مليون ونصف نسخة من
فتاوى علماء الوهابية التي تحرّم التظاهر في المملكة.
والحجّة ان الثورات والتظاهرات تقود الى فتن ومشاكل والى
الوصول بالأوضاع الى حال وفساد أسوأ مما كان قبل الثورة!
هذا المبدأ السعودي المؤصّل عقدياً، والذي كان غرضه
حماية النظام السعودي ومنع المواطنين من التأثر بالثورات
العربية والعمل على منوالها في ثورة خاصة.. تغيّر.
هناك اليوم تصنيف سعودي/ وهابي للثورات: (ثورات وتظاهرات
حلال!) محبّبة ومحبّذة في سوريا وليبيا والعراق وحتى إيران
والسودان والجزائر. و (ثورات محرّمة!) في اليمن والبحرين
والأردن مثلما كانت محرمة في مصر وتونس! هذا يعني أن الغطاء
العقدي للثورات ليس مكيناً، وإنما هي أهواء أهل الحكم
والسياسة: أمراء آل سعود. وإلا كيف نفسّر الموقف من ثورتين
وتظاهرتين تقعان في نفس الوقت: إحداها حلال في بلد (أوصلها
البعض الى مرتبة الواجب)؛ وأخرى محرّمة في بلد آخر؟!
في البلد الحلال!! تكون الثورات مفيدة لأنها تسقط أنظمة
لا ترغب العائلة السعودية المالكة ببقائها، أو أن رحيلها
يخدم العائلة المالكة ومذهبها، مثلما هو الحال في سوريا
وليبيا. وفي البلد الحرام!! تكون الثورات ضارّة لولاة
أمر الرياض ومذهبهم، كما كان الحال في مصروتونس، والآن
في اليمن! فأي دينٍ هذا؟!
في البلد الحلال!! تكون الثورات مفيدة لأنها تسقط أنظمة
لا ترغب العائلة السعودية المالكة ببقائها، أو أن رحيلها
يخدم العائلة المالكة ومذهبها، مثلما هو الحال في سوريا
وليبيا. وفي البلد الحرام!! تكون الثورات ضارّة لولاة
أمر الرياض ومذهبهم، كما كان الحال في مصروتونس، والآن
في اليمن! فأي دينٍ هذا؟!
لكن السعودية لم تكتف بتصنيف الثورات على أساس: الحلال
والحرام، والضارّة والمفيدة، بل وأيضاً على أساس طائفي.
وهذا من إبداعات ال سعود ـ الناجحة للأسف!
فجأة وجدنا صخباً طائفياً عالي الوتيرة بشأن أحداث
البحرين. الأكثرية تتظاهر سلمياً وهي ترفع شعار (إخوان
سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه) فيصبح هؤلاء طائفيون
عملاء، يجب قمعهم وتصفية ثورتهم، واهتضام حقوقهم. لماذا؟
لأنهم روافض، مجوس، أذناب إيران، وغير ذلك من التعبيرات
المهينة التي تصدح بها قنوات السعودية الطائفية بل وقناة
البحرين الرسمية نفسها، وكان غرض ذلك النهائي تبرير استبداد
ال خليفة، وحجب التعاطف العربي والإسلامي عن الثورة. وفعلاً
تمّ تكسير الجمهور بتدخل سعودي عسكري مباشر وتغطية سياسية
وإعلامية واقتصادية منه.
لم يكن المتظاهرون في البحرين بحاجة الى خطاب طائفي
يوحّد موقفهم، فهم يمثلون أكثرية الشعب. هذا إن كانوا
في الأساس تحركهم نوازع طائفية، وهو لم يثبت رغم أكوام
الهراء الإعلامي. النظام في البحرين أراد شدّ عصبه طائفياً
حتى لا يقدم على تنازلات سياسية للشعب؛ وقد نجح في ذلك،
مدعوماً بالتدخل السعودي؛ ولكنه نجاح مؤقت على أية حال.
في الصفحة المقابلة، نجد أن السعودية بجيوشها الطائفية
من مشايخ وإعلاميين.. قد أضعفوا إن لم يكونوا قتلوا في
المهد ـ وبغباء أيضاً ـ التحرك الإحتجاجي الجنيني في سورريا،
وذلك حين أكدوا وبتعمّد ومنذ اليوم الأول على طائفية التحرك
الإحتجاجي هناك، ووضعوه في سياق صراع أكثرية مع أقليّة
على الحكم، بغية تحشيد الأكثرية ضد الأقلية الحاكمة. مثل
هذا الخطاب الطائفي البائس أدّى الى تحشيد الأقليات جميعاً
المسيحية والإسماعيلية والعلوية وجمهور السنّة المتخوّف،
الذي طابعه الأساس عروبي، من هكذا خطاب ضد المحتجين. انتبه
آل سعود وإعلامهم متأخرين فيما يبدو لضرر الخطاب الطائفي
على الإحتجاجات، ولكن قد يكون الأوان قد فات. والمدهش
ان العنف والسلاح خالط الخطاب الطائفي، وهذا أضرّ بالقضية
الإصلاحية كلياً.
لقد استخدم الخطاب الطائفي في المشرق العربي في أكثر
من مكان. والمصدر كان دائماً من السعودية وبعض اخواتها
الخليجيات. فالتحركات في العراق لم تكن تستهدف اسقاط النظام،
لأن النظام منتخب في الأساس، ولكن (الجزيرة) وضعت الأمر
في سياق الثورات، ولكن بنكهة طائفية، ما جرّدها من كثير
من التعاطف، خاصة مع تجاهل الجزيرة لوضع البحرين بشكل
شبه كلّي.
في السعودية، كان محمد الودعاني بداية شهر مارس الماضي
يخرج من مسجد الراجحي في الرياض بعد صلاة الجمعة ويرفع
يافطته المنادية بالتغيير، وإذا برجال النظام يقولون:
(امسكوا الرافضي لا يروح)! وبالطبع لم يكن الودعاني شيعياً
رافضياً، ولكن التصنيف الطائفي أريد منه القول بأن من
يقف ضد آل سعود هو في خانة الأعداء الطائفيين!
الطائفية تقضي على الثورات والإحتجاجات وتنزع عنها
شرعيتها أو تحاصرها. في البحرين لم تكن الإحتجاجات طائفية
ولكنها حوصرت طائفياً. وفي سوريا اريد للإحتجاجات ان تكون
طائفية، فاختنقت في شرنقتها. وفي السعودية جرى التصنيف
بأن من يتحرك طائفي شيعي عميل لإيران، ومن لا يتحرك ويتظاهر
فهو مؤمن موحّد خالص التوحيد، ووطني كامل الإنتماء! وقد
سعت السعودية للعب على الوتر الطائفي مراراً وتكراراً
في اليمن، حيث الزيدية والشافعية يتقاسمان انتماء شعبه،
ولكن لاتزال (الحكمة يمانية) وقد تمّ إفشال مرامهم.
الثورات في مصر وتونس وطنية صادقة، جسّرت الفوارق الدينية
والمناطقية وسمت على الإنتماءات، وصهرت الشعب كلاً في
دولته. لكن الأنظمة المستبدّة لن تكف عن استخدام الورقة
الطائفية والمناطقية وتصنيف الثورات لا على أساس أهدافها
وشعاراتها الوطنية، بل على أساس الإنتماءات، حيث هناك
انتماءات محرمة كما الثورات المحرمة، وهناك الثورات الحلال
والمنتمين للجادّة الحلال!
لقد استخدمت التمايزات في مصر وتونس بحدود لصالح النظام،
ولكن الأخير فشل في المحصلة النهائية. وكذلك حاول القذافي
وعلي عبدالله صالح. لكن التمايزات الطائفية هي المحرك
الأعمى لجمهور المشرق العربي، وبعصاها نجحت السعودية في
قمع ثورة البحرين، وبإعلام (الجزيرة) و(العربية) الأعمى،
وقنوات الطائفية في وصال وتلفزيون البحرين الرسمي، أُريد
إسدال الستار عن تحول الخليج نحو الديمقراطية.
|