السعودية: الإلتفاف على الثورة اليمنية
يحي مفتي
كيف تنظر الحكومة السعودية للثورات التي تشتعل في جوارها،
وكيف تعاطت أو ستتعاطى معها، وما هي الأهداف المرتجاة
من ذلك التعاطي وهل سيتم تحققها؟ أسئلة عديدة تطرحها الثورات
العربية من جهة تأثيراتها على الوضع السعودي، والأسئلة
أعلاها مجرد جزء من الأسئلة الكبرى التي تنتظر الإجابة
عليها من الأمراء السعوديين. ونحن هنا لا نستطيع أن نجيب
على كل الأسئلة، وإنما مجرد الإشارة الى طريقة تفكير العائلة
المالكة تجاه واحدة من تلك الثورات.
من الصعب القول أن السعودية التي فاجأتها الثورات العربية
وأطاحت بأنظمة صديقة، هي الآن في وضع يسمح لها بقراءة
ما جرى برويّة وتمعّن. لكن من الخطأ القول بأنه لا توجد
أفكار عامّة حول التعاطي مع تلك الثورات. فقد حدثت في
العقود الستة الماضية ثورات وانتفاضات واحتجاجات عربية
ومحلية؛ وعلى نسق ردود فعل السعودية آنئذ يمكن التعرف
على ملامح التحرّك السعودي الجديد.
بيد أن طريقة التعاطي السعودية مع الأوضاع الحالية
تختلف عن تعاطيها السابق في أمور عديدة:
الأول، أن عدد الثورات العربية
أكبر بكثير من السابق؛ فلم تعد المسألة أن تغييراً ما
حدث في هذه الدولة العربية، ليتبعه بعد سنوات طويلة تغيير
آخر في غيرها. اليوم هناك حزمة من الثورات المتواصلة على
أرض أكثر من دولة، وقد توسع التغيير ليشمل دولاً جديدة،
ما أصاب صاحب القرار السعودي بحالة من الذهول، والعجز
في استيعاب التطورات المفاجئة.
الثاني، أن تحولات اليوم
هي ثورات بكل معنى الكلمة؛ أي أن نزعتها العامّة تميل
لصالح التغيير الشامل في البنى والأفكار والوجوه والسياسات
والنفسيات. في حين أن تحولات العقود الستة الماضية كانت
أشبه ما تكون بانقلابات عسكرية، لم تلامس سوى سطح السياسات،
دون عمق؛ وإن كان بعضها قد تحوّل الى ثورة كما في مصر،
أي تحول الى التغيير الكلّي والشامل والذي استكمل بعد
سنوات عديدة وليس دفعة واحدة كما يحدث في الثورات.
الثالث، أن قدرة رموز العائلة
المالكة على مواجهة الأحداث الجسام تضاءلت مقارنة بالماضي
رغم أن ما يواجهونه اليوم أصعب مما جرى سابقاً. والسبب
يعود الى ضعف هياكل النظام ورموزه وشيخوختهم وعدم اعتماد
العلمية في معالجة القضايا، والمركزية الشديدة التي لا
تتيح لأحد المبادرة إلا من الدائرة الصغيرة جداً، وهي
دائرة معمّرة في السنّ، ضعيفة الرأي، لا تمتلك حتى الجلد
في متابعة القضايا. قيادة السعودية اليوم أضعف فكراً وإدارة
ومبادرة في مواجهة الأزمات منها في الماضي.
هذا لا يلغي ـ كما ذكرنا ـ بأن هناك خطوطاً عامّة سارت
عليها السياسة السعودية في الماضي وهي لاتزال ركناً اساسياً
في تلمس الطريقة التي سيتصرف بها أمراء آل سعود حيال ما
يجري في المنطقة العربية.
في أصل الموضوع، وكمقدمة: فإن السعودية اعتادت أن تكون
ضد الثورات، خاصة تلك التي تقع في محيطها الإقليمي، بغض
النظر عن موقف الثورة ورجالها من النظام السعودي تأييداً
أو معارضة. وفي الأصل أيضاً، فإن السعودية لا ترحب بأية
تحوّلات ديمقراطية في محيطها، لم تقبل ذلك في العراق،
ولم تقبله في الكويت ولا في البحرين، وما حماستها الزائدة
الحالية لقمع الثوار والمتظاهرين في البحرين إلا مؤشر
على ذلك، فضلاً عن حقيقة أن السعودية ضغطت على البلدين
فألغت الحياة الديمقراطية فيهما في عام 1975 و 1976، وها
هي تفعل ذلك في البحرين الآن، وربما تتمدّد الى الكويت
أيضاً، حيث المخاوف متصاعدة من دور سعودي يغري حكومة الصباح
فتعمد الى كبح جماح الديمقراطيين، إن لم يكن قمعهم متيسراً.
|
وفي التجربة اليمنية المعاصرة، كشفت العائلة المالكة
السعودية عن ثلاث لاءات كبيرة: لا للثورة اليمنية/ لا
للوحدة اليمنية/ لا للإستقلال اليمني. في عام 1962 قامت
ثورة ضد حكم الإمامة، وأعلنت الجمهورية، ومع أن السعودية
كانت ـ ومن منظار طائفي ـ غير مرتاحة لحكم الأئمة الزيود،
إلا أنها كانت بشكل أعنف ضد قيام الجمهورية، وضد قيام
نظام ثوري على حدودها. تطلب الأمر ست سنوات من الحرب كي
تتمكن السعودية من السيطرة على الوضع. فمع إبقاء مسمّى
الجمهورية، والإطاحة بأئمة الزيود الذين استضافتهم جدة
ولازال أبناؤهم وأحفادهم هناك محرومين من مجرد أن يدفنوا
في مسقط رأسهم.. رغم هذا، فإن السعودية التي حاربت بجيشها
ومرتزقة بريطانيين الجيش المصري لسنوات طويلة، فإنها نجحت
في النهاية ـ خاصة بعد هزيمة 1967 ـ من السيطرة على الجمهوريين
كما الملكيين، وتم تعيين شخصيات على الحكم في اليمن مقربين
من الرياض أو استطاعت الأخيرة احتواءهم وبينهم مشايخ قبائل
وغير ذلك.
لكن استحكام السيطرة السعودية لم يتم إلا على دماء
اغتيال السعودية للرئيسين ابراهيم الحمدي أولاً، ثم الغشمي
ثانياً، بأوامر مباشرة من الأمير سلطان وزير الدفاع، والمسؤول
الأول عن الملف اليمني. وحين اختارت رجلها النهائي، علي
عبدالله صالح، وحشدت التأييد له ليخلف الغشمي، دخلت اليمن
في النفق السعودي منذئذ. وبذا يمكن القول أن عام 1978
كان بداية إحكام السيطرة السعودية على اليمن.
انتهت الثورة اليمنية في حضن السعودية، ولم يعد مسمّى
الجمهورية مخيفاً؛ ولو ترك الأمر لعلي صالح لحوّل الحكم
الى إبنه كملك جمهوري!!
بقيت مسألة الوحدة؛ فالرياض كانت تخشى من عدم قدرة
معدتها على ابتلاع اليمن بشقيه الشمالي والجنوبي؛ وكانت
تخشى أن يتنمّر عليها علي عبدالله صالح حين يشعر بالقوة؛
كما خشيت أن يكون هناك نفط يجعل من اليمن تميل الى الإستقلال،
وفضلاً عن ذلك، لم تكن السعودية تخشى اليمن الجنوبي عشيّة
تفكك الإتحاد السوفياتي. لذا كانت السعودية تعارض وحدة
اليمن، وكان يمكن للوحدة أن لا تتم، لولا أنها حظيت بدعم
مباشر من واشنطن ودخولها على الخط لمنع السعودية من القيام
بأمور تخريبية.
لكن ورقة الوحدة ستبقى بعض أطرافها بيد السعودية، لتساوم
عليها في المستقبل الحكم اليمني القادم بعدما يطاح بحليفها
علي عبدالله صالح.
يفترض في الثورة ان تعزز الإستقلال، وهذا ما لم يتم
في اليمن في الستينيات الميلادية الماضية. أما هذه الثورة
القائمة، فإنها على الأرجح ستأتي بلاعبين جدد لا تكن السعودية
لهم ودّاً. الثورة اليمنية هذه المرّة لها سمة مميزة عن
سابقتها وهي سمة (الديمقراطية) ما يعني أنها قد تأتي بسياسات
وبوجوه سياسية وبأفكار لا ترتضيها الرياض. الإستقلال عن
السعودية وتعزيز السيادة ـ أو المزيد منهما ـ ستكون أولى
ثمار الثورة الديمقراطية اليمنية الجديدة. بيد أن الأمراء
السعوديين اعتادوا النظر الى اليمن كمزرعة خلفية، وكسياسيين
فاسدين وموظفي حكومة كبار مدنيين وعسكريين يمكن شراؤهم
بالمال. بالطبع سيلعب المال السعودي دوره، ولكن الى حدود،
وليس كما في الماضي.
لا تريد السعودية أن يكون لليمن دوره المستقل وموقعه
المتميز في السياسات الإقليمية والعربية. هو بنظر السعودية
يجب أن يبقى كمّا مهملاً أو تابعاً للسياسات السعودية.
وهذا لا يكون إلا بأن يبقى اليمن في حاجة دائمة للدعم
السعودي، وأن يضعف الإستثمار العربي والأجنبي فيه، ومحاصرته
سياسياً في زاوية من زوايا الجزيرة العربية دون السماح
له بأن يكون عضواً في مجلس التعاون. ولا تريد السعودية
أن يكون اليمن متميزاً حتى في مظهره الديني والمذهبي المتسامح،
بل تريد أن تعمّد تحكمها السياسي في اليمن بفرض رؤيتها
ومذهبها التكفيري ونشرهما في ربوعه.
الآن وقد شارف علي عبدالله صالح على السقوط.. فقد قفز
بعض أدوات السعودية من السفينة الغارقة وأعلنوا دعمهم
للثورة، مثل آل الشيخ عبدالله الأحمر، واللواء علي محسن،
والعديد من مشايخ بكيل وحاشد. ربما لم يكن الأمر في مجمله
بتخطيط من السعودية، التي راهنت على بقاء علي صالح حتى
أواخر شهر مارس الماضي، بقدر ما عبر عن رؤية حلفاء السعودية
في اليمن تقول بضرورة الإنحياز عن علي صالح من أجل ركوب
موج الثورة والتأثير في نتائجها.
فيما يبدو، فإن هذه هي الخطوة الأولى في التعامل السعودي
مع الثورة اليمنية الديمقراطية، التي لم تقبل بها ابتداءً
لأنها ثورة، ولأنها ديمقراطية، وأيضاً لأنها يمنية مجاورة!
التدخل الأخير للسعودية ودول الخليج من اجل المصالحة
في اليمن، كان يمثل الخطوة السعودية التالية ـ وهي المكروهة
من الكثير من اليمنيين ـ حيث غلّفت المبادرة السعودية
ومنحت رداءً خليجياً! وكان الغرض واضحاً تنحي علي عبدالله
صالح لصالح المعارضة ابتداءً (وليس بالضرورة لصالح الثورة
التي كان لرجالها وشبابها في ميادين التحرير والتغيير
رأي آخر يختلف عن رأي اللقاء المشترك).
كانت السعودية ولازالت تريد أن يتنحى علي صالح، على
أن يسيطر أتباعها على الوضع ويتحكموا في الشأن السياسي
في الفترة الإنتقالية القادمة، أو عبر ما سمي بإعلان مجلس
تأسيسي، تستطيع السعودية من خلاله، التحكم في النتائج
التي ستفضي بها الثورة.
إن لم ينجح هذا، أو إن لم يكن النجاح كافياً، فإن السعودية
ستأخذ طابع العداء لأي نظام حكم لا يضمن لها مصالحها.
وضمان مصالحها يعني وضع رجالها في السلطة حتى وإن فشلوا
في الإنتخابات أو كان حجمهم العددي لا يتناسب مع حجمهم
السياسي الذي تطالب به السعودية!! وبغير هذا ستسبب الأخيرة
لليمن صداعاً أمنياً واقتصادياً ومحاصرة سياسية.
بيد أن المشكلة تكمن في حقيقة أن الإبتزاز السعودي
للثورة اليمنية والذي بدأت بعض ملامحه تظهر الآن، لا يتواءم
مع حقيقة أن ثورات الشعوب أقرب الى عدم قبول المساومة،
وتفضل لغة المواجهة، خاصة إن كان مع بلد مثل السعودية،
التي يقال بشأنها أن الشعب اليمني اتفق على أمرين: القات
وكره السعودية!
|