حصنٌ من ورق
رياح الثورة تحاصر السعودية
توفيق العباد
أشبه بكابوس مفاجىء جثم على صدور صنّاع القرار، ولم
يكُ يتوقّع أحد من أفراد العائلة المالكة بأن ما جرى في
تونس من تظاهرات محدودة في سيدي بوزيد ستكون بداية لتغيير
عاصف في الشرق الأوسط، يطيح بالعروش، ويقطف الرؤوس، ويشعل
الثورات المتنقّلة في كل أرجاء العالم العربي..
في تغيير دراماتيكي لم تشهده منطقة الشرق الوسط منذ
اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 ونشأة الدول القطرية العربية
الإستبدادية بفعل إستعماري فرنسي ـ بريطاني، وتالياً مصادقة
أميركية، إستحكم الطغيان في بنى النظم السياسية حتى بات
من غير المتخيّل حدوث تغيير جزئي فضلاً عن كلي في أي منها،
وازداد رسوخ الإستبداد السياسي إلى حد أن طغاة العرب عمدوا
باستخفاف مهين بشعوبهم الى اعتماد مبدأ التوريث، في سياق
(مسخرة سياسية) غير مسبوقة، وتحوّلت الدول العربية الى
أتوقراطيات تتوحّد في النهج والمضمون الشمولي وتتفارق
في المسميات والأشكال.
وكان من عظيم مصاب الشعوب العربية، أن طغاة العرب شكّلوا
تحالفاً حديدياً، فصار كل منهم يدعم الآخر، لإدراكهم جميعاً
بأن بقاءهم واستقرارهم يستند على تضامن جمعي، وكذلك رحيلهم
سيكون بالطريقة نفسها، ولذلك لم تكن الجامعة العربية سوى
محفلٍ للطغاة والمستبدّين. حين سقط الرئيس التونسي المخلوع
زين العابدين بن علي شكّل ذلك أول سقوط للجبهة الخلفية
للنظام الشمولي السعودي الذي ترتبطه بطاغية تونس المخلوع
علاقة استراتيجية، ولا غرابة أن يجد في السعودية ملاذاً
أخيراً بعد أن لفظته كل أصقاع الأرض.
كان الاعتقاد السائد بأن ثورة تونس هي بمثابة عملية
جراحية موضعية ستنتهي آثارها على وجه السرعة ريثما تضمّد
الجراح السياسية، ولكن ما لبثت أن اشتعلت بؤر أخرى في
الجزائر، ثم في مصر واليمن والبحرين. مصر التي أسقطت صاحب
العبارة الشهيرة والقبيحة وزير الخارجية السابق أحمد أبو
الغيط بأن القول بأن مصر ستكون بعد تونس هو مجرد (كلام
فارغ)، وإذا بمصر تملأ الفراغ الذي صنعه مبارك وزمرته
بمن فيهم أبو الغيط، وتتحوّل إلى أم الثورات العربية،
مستعيدة مكانتها كأم العرب جميعاً، شكّلت مصدر إلهام لباقي
الحلقات الثورية التي أخذت وتيرة متسارعة في اليمن وليبيا
والبحرين، وأصبح الشعار (الشعب يريد إسقاط النظام) شعار
الثورات العربية جميعاً.
سقوط فرعون مصر عنى شيئاً واحداً بالنسبة لآل سعود،
أن حليفاً استراتيجياً قد سقط، ومعسكر الاعتدال قد لفظ
أنفاسه، وأن مصر الثورة تتأهّل الآن لتصبح في مكان آخر،
أي قد تكون مع الشعوب الثائرة ضد الأنظمة الجائرة، وعلى
رأسها نظام آل سعود. فعل آل سعود كل مافي وسعهم للحيلولة
دون سقوط نظام حسني مبارك، عبر فتاوى تحريم التظاهرات،
وعبر دفع الأموال من أجل تهدئة غضب الشعب المصري، وعبر
الضغط على الولايات المتحدة والغرب من أجل الكف عن تصريحات
التأييد للتظاهرات وحق الشعب في تغيير النظام، ولا ننسى
أيضاً عبر إمبراطوريتها الإعلامية التي لم تكف عن النيل
من قادة الثورة، وتمني فشلها، ولكن حين فشلت كل جهود آل
سعود واقتربت الثورة من لحظة الإنتصار، عادوا الى النغمة
القديمة: نؤيّد ما يقرره الشعب المصري. هي نفس اللهجة
التي أدمنوا استخدامها منذ عقود، فهم يحاربون بكل الأسلحة
الأنظمة والشعوب التي لا تتوافق معهم، ولكن حين ينتصر
طرف ما ويفرض واقعاً جديداً يذعنون له.
إعتقد آل سعود بأنهم منذ 1970 قد تخلّصوا من مصر، ونجحوا
في اخضاعها من خلال احتواء أنور السادات وحسني مبارك،
ولذلك فقدت مصر خلال أربعين عاماً مكانتها القومية ورمزيتها
العربية الرائدة، باستثناء حرب أكتوبر 1973 التي كانت
محطة تاريخية ناصعة البياض مثّلت فيها مصر ذروة الوعي
والكرامة في العالم العربي. مصر التي أرادها آل سعود أسيرة
لبرنامج المساعدات الخارجية ولنخبة سياسية فاسدة، ولسياسات
الإذلال والقمع بأشكال متعددة، تعطّلت فيها إمكانيات النهوض،
والإنتقال الى مصاف الدول الصناعية، والديمقراطية. والأخطر
من ذلك كله، أن المؤامرة على مصر بقيادة آل سعود كانت
مؤامرة على كرامة العرب جميعاً، ولابد من الإقرار بأن
مصر غاب دورها في قضايا كبرى وتحدّيات خطيرة شهدها العالم
العربي بدءاً من العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 1982،
واجتياحها وصولاً الى العاصمة بيروت، ومن ثم حرب الخليج
الثانية، وتالياً الحرب الإسرائيلية الغاشمة على لبنان
في تموز (يوليو) 2006، وعلى قطاع غزة في ديسمبر 2009،
وكان العرب جميعاً يتطّلعون الى موقف عروبي من مصر يقف
حائلاً أمام غطرسة الآلة العسكرية الاسرائيلية.
اليوم، هناك شعور بالإنكسار لدى آل سعود لأنهم فقدوا
حصناً من حصون الاستبداد، فيما استعادت الشعوب العربية
قلعة راسخة يلجأون إليها ويحتمون بها حين تتكالب عليهم
الأمم شرقاً وغرباً، ولذلك آل سعود هم ليس في فقط في عزاء،
بل يشعرون بأن جداراً عالياً حول بناءهم قد انهار، وأنهم
باتوا عرضة لاختراقات كبرى.
صدمة آل سعود بسقوط النظام المصري لم تكد تخف وطأتها
حتى داهمتها صدمتان أخريان في الجنوب والشرق، وأفقدها
منذاك قدرة التركيز والمواكبة من أجل إتّخاذ التدابير
الضرورية للحيلولة دون وقوع المكروه الكبير، أي سقوط النظام
السعودي.
وكما الحال بالنسبة لتونس ومصر، الذي بدأت فيهما إرهاصات
الثورة بوتيرة تصاعدية تدرّجية، بدأت بالمطالبة بإصلاحات
اقتصادية واجتماعية ثم مالبثت أن أخذت بعداً سياسياً متسارعاً،
فإن الحال بالنسبة لتجارب ثورية أخرى، ليبيا واليمن والبحرين
على وجه الخصوص والتحديد الآن، فإن المطلب السياسي كان
الأول والمعلن، وبالتالي فإن شعار إسقاط النظام الذي جاء
في مرحلة متأخرة في الثورة المصرية أصبح هو الشعار الأول
وربما الأخير في هذه الدول.
قد يكون آل سعود فرحين وسعداء لما يصيب نظام القذافي
من انهيار وتفتّت، لأسباب معروفة، فالقذافي لم يكن على
وفاق مع الملك عبد الله، وكانت العلاقة بين البلدين في
حالة توتّر دائم، ولذلك لا غرابة أن يدعم آل سعود خطة
الإطاحة بالنظام الليبي، وإن المطالبة بإقرار منطقة حظر
طيران في الأجواء الليبية من قبل دول مجلس التعاون الخليجي
يعتبر إجراءً متوقّعاً، بخلاف الحال في مصر التي استنفر
آل سعود كل إمكانياتهم للضغط على الولايات المتحدة والغرب
عموماً من اجل عدم السماح بسقوط حسني مبارك، وحتى وهو
في طريقه للسقوط أصرّوا على أن يكون سقوطه كريماً.
أما اليمن والبحرين، فللثورة فيهما طعم آخر، وتحدّيات
من نوع آخر..السعودية تنظر إلى اليمن ليس مجرد حديقة خلفية،
وإنما جزء من مجالها الحيوي والاستراتيجي الذي لا يمكن
أن تحافظ على وحدتها وتماسكها دون السيطرة عليه. وبالرغم
من أن المصادر اليمنية بما فيها مصادر الثوّار لا تتحدث
حتى الآن عن تدخّل سعودي مباشر لناحية إخماد الثورة اليمنية،
ربما خشية أن تجلب لنفسها مشاكل هي قادرة على درئها حتى
الآن، ولأن الأمور لم تصل إلى حد الخطر المباشر والداهم،
فلذلك فإن ما هو متوقّع هو (الترقّب الحذر) بانتظار ما
ستسفر عنه الأيام القادمة..الرئيس علي عبد الله صالح الذي
لا يزال يتلاعب بالوقت، والكلمات، والتناقضات، يتمسّك
بالكرسي حتى لو احترقت اليمن بأهلها، ببساطة لأنه أدمن
الرئاسة حتى أصبح مرضاً ولا يمكنه التخلّص من الرئاسة
إلا بالموت، ويشعر في الوقت نفسه بأنه يحظى بدعم حليفه
الشمالي الذي يمدّه بالمال من أجل شراء الوقت وقدر ضئيل
من الضمائر، فيما يتزايد أعداد الثوار، وتتّسع دائرة الثورة
عليه.
من وجهة نظر يمنية شعبية حول الدور السعودي في اليمن،
أن ثمة دافعاً رئيسياً لتدخل السعودية في اليمن وإخماد
ثورة الشباب المطالبة بإسقاط ورحيل نظام علي عبدالله صالح،
ليس حباً فيه وإنما الخوف من امتداد رياح ولهيب الثورة
إليها. وبحسب أحد المصادر (ولا يستبعد مراقبون أن تكون
السعودية تمارس ضغوط على حلفائها في القبيلة وداخل المعارضة
اليمنية لتحقيق ما تريده منهم لضمان وصول الثورة إليها)،
ومع ذلك، بحسب مصادر أخرى، (لن تكون السعودية بمعزل عن
هذه التحولات التي لن تستثني أحداً في المنطقة).
إذاً، فإن السعودية التي تحاول إنقاذ نفسها من محيط
الثورة العاصف، معنيّة اليوم ليس بترميم الأسوار التي
تتساقط من كل الإتجاهات، فبعد سقوط النظام العراقي في
إبريل 2003، دفع بالسعودية إلى بناء سور كهربائي لتحصين
المملكة المذعورة، ومن ثم صار الإتجاه نحو اليمن الذي
يتقاسم مع السعودية شريطاً حدودياً بطول 1500 كيلومتراً.
ولم يكن الأمر الآن مقتصراً على مجرد (منع تسلل)، فقد
أصبح الأمر متعلقاً اليوم بثورة شعبية تقتلع جذور النظام
السياسي، وتؤسس لدولة جديدة محصّنة أمام اختراقات النظام
السعودي، وتجعل الشعب رقيباً على أداء الحكومة وتصرّفات
الوزراء، بعد أن كانت السعودية تدير النظام في صنعاء بالمال
والوكلاء.
الثورة في اليمن تعني شيئاً كبيراً للغاية بالنسبة
لجيوسياسية إقليمية ودولية، لأن اقتلاع النظام الحالي
يعني فيما يعني إسقاط رهانات وخيارات وترتيبات خارجية،
فسيكون الداخل حاضراً بكثافة في أي ترتيبات مستقبلية لنظام
سياسي قادم. ولا عجب حينئذ أن تكون السعودية أول الخاسرين،
لأن الشعب اليمني ينظر إليها باعتبارها قوة الإسناد الكبرى
للإستبداد السياسي في اليمن. إن رحيل علي عبد الله صالح
لا يعني شيئاً آخر غير رحيل النفوذ السعودي، وهذا ما يدركه
آل سعود جيداً، كما يدركون أيضاً بأن ما أنفقوه من مليارات
من الريالات السعودية من أجل بناء نظام سياسي متحالف وخاضع
لإملاءاتهم قد تبدّد مع هبوب رياح الثورة، التي ترسي أساس
الدولة القادمة.
الموقف السعودي من ثورة البحرين قد يبدو مختلفاً إلى
حد ما، فثمة صبغة مذهبية تضفى على الثورة الشعبية في البحرين
لتبرير الإصطدام بها، وإخمادها، وهناك مخزون طائفي في
السعودية والبحرين ما يبرّر تدابير قمعية محتملة ضد المتظاهرين.
في حقيقة الأمر، أن كل المبرّرات (المناطقية في ليبيا،
والقبلية في اليمن، والطائفية في البحرين) لا تعكس سوى
شيء واحد هو رفض التغيير دون سواه، فالتلطي وراء جمل من
قبيل (مصر ليست تونس)، و(ليبيا ليست تونس ومصر)، و(اليمن
ليست كباقي الدول العربية)، و(السعودية ليست كباقي الكون)،
ليست سوى خدع للهروب من الإستحقاق الشعبي والتاريخي، والصحيح
أن هذه الديكتاتوريات قد فقدت صلاحيتها ولا تشبه شعوبها
التي تتوق للديمقراطية ولا سواها، وأن من يدافع عنها،
إنما يدافع عن مصالحه ولكن بإسم الدين، والقبيلة، والمنطقة..
البحرين عاشت كذبة الإصلاحات منذ 1999، بينما الدستور
البحريني كان واضحاً بأنه وثيقة استبدادية بامتياز، تؤكّد
سمات النظام الشمولي العربي، وكان من الطبيعي أن تستجيب
هذه الجزيرة لنداء الثورة، ويخرج الناس في مظاهرات من
أجل تغيير النظام السياسي، الذي لم يكن صالحاً في يوم
ما، ولكن جاءت اللحظة التاريخية المناسبة للإعلان عن فساد
النظام والمطالبة باستبداله، وليس في ذلك أي ضير أو خطأ.
وفيما بدت السعودية عاجزة عن مجرد الإقتراب من مصر
واليمن فضلاً عن تونس بهدف تخريب مشاريعها الثورية والشعبية،
فإن البحرين كانت عرضة لتدخّل سعودي مباشر وسافر، حتى
أن تقارير ذكرت بأن آل سعود أبلغوا آل خليفة حكّام البحرين
بأن عليهم سحق الانتفاضة الشعبية وإلا سيقومون هم بفعل
ذلك.
في المحصلة، السعودية تعيش أسوأ أيامها، وتشعر بأنها
بمثابة قلعة من ورق، أو بناء بلا أسوار، فيما تقترب رياح
الثورة من قصور آل سعود، وقد تزلزل الحصون الوهمية عمّا
قريب.
|