الإحتجاجات تتفجّر عربياً
هلوسة سعودية منفلتة في مواجهة الثورات
محمد الأنصاري
راعها أن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أطيح به
بطريقة غير لائقة، بعد صدمة إغلاق كل فضاءات العالم أمام
طائرة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، الذي
لم يجد سوى آل سعود مضيفاً..فصارت العائلة المالكة تتصرّف
دونما حساب لكل عواقب، فهي تسير إلى أقصى ما يمكن أن يصل
إليه خيارها الراديكالي، بحيث أصبحت قائدة الثورة المضادة
بامتياز في كل أنحاء الوطن العربي، وهم على استعداد لإنفاق
مئات المليارات من الدولارات من أجل تعطيل مفاعيل الثورات
في كل مكان.
فزع آل سعود من تقارير إنهمرت على الساحة الإعلامية
مفادها أن (السعودية) ستكون هدفاً قريباً لإعصار الثورة
بعد سقوط صنمي تونس ومصر، وأن اتجاه هبوب الثورة سيكون
شرقياً، وستعبر العاصفة البحر لتقتلع حصن آل سعود..ثم
جاء إعلان عدد من المجموعات الناشطة على موقع فيسبوك عن
يوم غضب في 11 مارس، ليصعّد مستوى الخوف في قلوب كبار
الأمراء، ولربما كان الأمير نايف، وزير الداخلية الأشد
قلقاً من هذا اليوم، خصوصاً وأنه كان قد أخبر رؤوساء تحرير
صحف محلية التقوا معه في وقت سابق في بيت رئيس تحرير صحيفة
(الجزيرة) الصادرة في الرياض بأن المملكة محصّنة أمام
الثورات، ببساطة (لأنها تطبّق الشريعة الاسلامية)!، فيما
كانت خيبة الأمل تكسو وجوه ضيوفه الذين اعتقدوا بأن الأمراء
تعلّموا الدرس من ثورتي تونس ومصر، ولكن وبحسب صحافي في
جريدة الايندبندنت أن الأمراء السعوديين يبدو أنهم تعلّموا
الدرس الخطأ.
حشد آل سعود قوات هائلة في الشوارع، وأبلغوا هيئة كبار
العلماء بالإستعداد لإطلاق موجة فتاوى تحرّم التظاهر،
ونشروا آلاف الجواسيس في كل الأرجاء المرشّحة لأن تشهد
تظاهرات. يقول أحد الناشطين وقد حضر أحد المساجد: لقد
زاحمنا رجال الأمن في المساجد، وأصبحنا نعيش ما يشبه (حملة
إيمانية) عاجلة كتلك التي شهدها العراق أيام الرئيس السابق
صدام حسين. حالة الاستنفار التي شهدتها المملكة في يوم
11 مارس كادت تتسبب في نتائج عكسية بفعل المبالغة في الاستعدادات
لمواجهة أي تحرّكات محتملة.
كانت المنطقة الشرقية وحدها التي انفردت بتحرّكات شعبية
ولكن ليس بأحجام كبيرة جداً، فيما بقيت المناطق الأخرى
مترقّبة، ولكن ليست راضية. في اليوم التالي، أي 12 مارس
بدا واضحاً مستوى القلق لدى آل سعود، والذي ظهر في رسائل
الشكر للعلماء وقوات الأمن التي أجهضت التحرّكات المحتملة
في اليوم السابق. كان توصيف الأمير نايف لما جرى مثيراً
للسخرية حين اعتبر عدم خروج التظاهرات بأنه شكل من أشكال
التلاحم بين الحكومة والشعب، والحال أن هذا التلاحم تحقق
من خلال حالة الاستنفار الأمني والديني والإعلامي التي
شهدتها البلاد قبل أيام من (يوم الغضب).
مثّلت تلك المناسبة إختباراً للتحالفات بين آل سعود
والقوى الإجتماعية والسياسية والامنية، وبدا من بيان الملك
عبد الله في 18 آذار (مارس) الماضي بأن المؤسستين الدينية
والأمنية وحدهما مصدر ثقة ودعم النظام السعودي، وهو ما
كشف عنه أيضاً يوم الغضب المفترض، حيث أن مشاعر الهلع
التي انتابت الأمراء كشفت عن انعدام ثقتهم في الشعب، ما
دفعهم للزج بأعداد كبيرة جداً من رجال الأمن في المدن
والشوارع العامة..
تنفّست العائلة المالكة الصعداء بعد أن تجاوزت خطر
(يوم الغضب)، واستأنفت على نحو عاجل لغة التهديد والوعيد،
وسحبت كل وعود الإصلاح الموعودة، وحتى الانتخابات البلدية
المقررة في شهر نيسان (إبريل) جرى تأجيلها الى أيلول (سبتمبر)،
وقد تترحّل إلى أزمنة أخرى مجهولة، في حال نجحت في استيعاب
ضغوطات ومطالب الشارع المحلي.
ما جرى بعد ذلك هو الأهم، لأن تساقط الأنظمة الحليفة
للسعودية الواحدة تلو الأخرى فيما تنجو الأنظمة المصنّفة
في خانة الخصم، يضعها في موقف لا تحسد عليه، كيف وهي التي
أدمنت بارانويا سياسية مزمنة، تجعلها تتوجس خيفة من الحلفاء
قبل الخصوم. خطة الهجوم السعودية على البحرين وليبيا واليمن
وحتى التدخّل في الشأن السوري جاءت عقب 11 مارس، أي في
لحظة شعرت بأن حصونها غير مهدّدة من الداخل، وأن بإمكانها
أن تلعب دوراً تخريبياً للثورات. لم تلجأ هذه المرة الى
مجرد المال لتوزيعه على قوى التخريب من أنظمة أو جماعات
عميلة لها، بل فجّرت خطاباً طائفياً غير مسبوق، لتوفير
غطاء لإشعال فتنة داخلية وإثارة الإنقسامات الاجتماعية
والإثنية والمذهبية تسهّل مهمة التدخل بأشكال مختلفة في
اليمن والبحرين وسوريا. أما بالنسبة لليبيا، فإن العداء
الشخصي بين الملك عبد الله والرئيس الليبي دفع بالأول
لتحمّل فاتورة الحرب التي تقودها قوات النيتو على النظام
الليبي، وليس من أجل عيون الثوار الليبيين.
حين نقرأ بهدوء ما جرى بعد سقوط الرئيس المصري حسني
مبارك، نجد أن السعودية أصيبت بما يشبه هلوسة منفلتة ومدمّرة،
وراحت تشتغل على إخماد الثورات أينما وجدت، وتقوم بفعل
ذلك دون حسابات سياسية واستراتيجية دقيقة، بل هو القلق
من انتقال العدوى الى الداخل ما يحرّك فيها غريزة الدفاع
المستميت عن الذات. دخلت البحرين بقواتها، ولم تكترث لأي
عواقب يمكن أن تنشأ عن ذلك في المستقبل، وتحوّلت الى قوة
احتلال فعلية، تعيث قتلاً وتدميراً وتنكيلاً بالسكّان
المحليين، تعويلاً على صمت المجتمع الدولي، وأيضاً على
قدرتها المالية في تغطية أية أخطاء عن طريق عقد المزيد
من الصفقات السياسية والعسكرية. وبصرف النظر عن صحة ما
قيل عن رفض الموقف الأميركي لمثل هذا التدخّل، أو ما نقل
عن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون من أن قوات
درع الجزيرة أخطأت الطريق، فإن السعودية تتصرّف بوحي من
حالة هلع، وتعتقد بأن الولايات المتحدة وبريطانيا لن تعترضا
طريقها في الاستعمال المفرط للقوة ضد شعب أعزل، وهو ما
يظهر واضحاً وفاضحاً الآن.
المشكلة الآن لا تكمن في مجرد قمع التحرّك الشعبي السلمي
في البحرين، فالضرر الفادح قد وقع، ولا يمكن العودة للوراء
بعد الخامس عشر من مارس الماضي، وأن الترتيبات التي تقوم
بها القوة السعودية الغازية تؤكّد أن ثمة نظاماً جديداً
يجري فرضه على الشعب البحريني، وأن الصورة المقبولة غربياً
لملك البحرين ونجله ولي العهد قد سقطت، فالبحرين ـ الدولة
لم تعد قائمة، وأن الكلام عن كونها جزءاً من دكتاتورية
سعودية هو صحيح تماماً.
الهلوسة السعودية إنتقلت الى اليمن أيضاً، حيث اكتفت
بإرسال عربات عسكرية ومدرّعات بدلاً من التورّط المباشر،
وليس في ذلك مايدعو لجهد تحليلي استئثنائي، فالهزيمة التي
تكبّدتها القوات السعودية قبل نحو عام على يد الحوثيين
كافية لأن تبقيها خلف الحدود. الرئيس اليمني علي عبد الله
صالح، الحليف السعودي في صنعاء، شعر في منتصف مارس الماضي
بأنه قادر بدعم السعودية على الصمود في وجه الثورة الشعبية،
الأمر الذي ألجأه الى استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين
بصورة سلمية، وأن أعداد الضحايا تضاعفت بشكل غير مسبوق
منذ أن تلقى صالح الدعم السعودي. وبالرغم من تآكل النظام
اليمني من الداخل، بفعل الانسحابات المتواصلة لقيادات
عسكرية وسياسية وحتى قبلية، وتناقص حجم التأييد لنظام
صالح، فإنه بقى متمسّكاً بقراره بأنه لن يرحل. اشترط أول
مرة أن رحيله لن يتم إلا عبر (صناديق الإقتراع)، ثم ما
لبث أن قال بأنه لن يرحل حتى يطمئن إلى أن السلطة ستقع
في أيد أمينة. وكان ذلك واضحاً بأنه لا يريد تسليم السلطة،
وفي أحسن الافتراضات فإنه سيسلّمها فقط لشخص مقرّب منه.
المبادرة الخليجية لحل المشكلة في اليمنية هي محاولة
سعودية لتجنّب خسارة نفوذها في اليمن، ولذلك شجّعت حلفاءها
في الداخل اليمني على الإعلان عن تأييدهم لها، سواء وسط
المعارضة (اللقاء المشترك)، أو مشايخ القبائل أو علماء
الدين، فيما كان موقف شباب الثورة هو الرفض للمبادرة،
والتمسّك بمطلب (إسقاط النظام) و(محاكمة الرئيس). وحين
عجزت السعودية عن توفير شروط بقاء الرئيس اليمني، تقدّمت
بمبادرة لتنحيته بعد أن شعرت بالإطمئنان إلى أن البديل
لن يكون بعيداً عنها، وهو ما يعتبر تحدياً للثوار في المرحلة
المقبلة.
حين يأتي الكلام عن مظاهرات سوريا التي بدأت في محافظة
درعا في 18 مارس الماضي وانتقالها الى مدن سورية أخرى
في أوقات لاحقة، لايبدو الموقف السعودي المتأخر بريئاً.
تنقل مصادر سورية شبه رسمية بأن هناك في السعودية من تمنى
وقوع هذه التظاهرات في سوريا وليس في تونس ومصر، وأن الزوارق
المحمّلة بالأسلحة من طرابلس عبر البحر الى الشواطىء السورية
كانت بإعداد وتمويل سعودي عبر تيار المستقبل الذي يقوده
رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري. المعلن بصورة باهتة
أن اتصالاً أجراه الملك عبد الله مع الرئيس السوري بشار
الأسد لإبداء تعاطفه مع سورية ووقوفه إلى جانبها من أجل
استقرار ووحدة سورية. ولكن خارج الكواليس شيء آخر، تنقل
مصادر سورية أن رئيس وزراء قطر الشيخ حمد بن جاسم جاء
الى دمشق وفي جعبته ما يشبه تهديداً بأن عدم دعم سورية
لقرار التدخل العسكري في البحرين سيضع النظام فيها أمام
خطر قادم، وقال بالحرف الواحد (البحرين مقابل سورية)،
أي أن حكم الأقلية في البحرين مقابل حكم الأقلية في سورية،
وبالتالي فإن الاضطرابات في الأولى سيجلب اضطرابات في
الثانية. فسّر البعض موقف وزير الخارجية السوري وليد المعلم
فور زيارة الشيخ حمد بن جاسم لدمشق بأن تدخل قوات درع
الجزيرة في البحرين قانوني، وذلك بعد عودته من طهران مباشرة،
على أنه رسالة سورية لدول الخليج للحيلولة دون إثارة القلاقل
في سورية، ولكن لم تكن الأمور تسير على هذا النحو دائماً،
خصوصاً من دولة مثل السعودية التي اعتادت أن تطعن في ظهر
السوريين حتى في الظروف التي كانت فيها العلاقات بين الدولتين
قد بلغت درجة عالية من الإنسجام. أكثر من ذلك، نقل مسؤول
عراقي كبير عن الملك عبد الله قوله بأن من غير المقبول
أن يسيطر بشار على عاصمة الدولة الأموية، فيما يسيطر المالكي
على عاصمة الدولة العباسية، ولابد أن يتخلى أحدهما.
منذ اليوم الأول للتظاهرات في سورية، وخصوصاً في درعا
المعروفة ليس بكون أئمة السلفية قد ولدوا فيها، ولكن أيضاً
لأن المغتربين السلفيين من درعا كانوا في السعودية قبل
أن يعودوا إليها، ما يجعلها حاضنة نموذجية لحركة طائفية،
بدت واضحة من خلال الشعار الذي رفع في اليوم الأول (لا
إيران ولا حزب الله بدنا شخص يخاف من الله)، وإتهام أحد
المعارضين وهو مأمون الحمصي حزب الله بأنه يقف وراء قمع
المحتّجين في المحافظة، الأمر الذي أثار أسئلة كبرى حول
هوية المتظاهرين وأهدافهم.
ماهو لافت أيضاً أن القنوات المرتبطة بالسعودية مثل
(العربية) أو قنوات هابطة في خطابها وسجالية في سياستها
تحوّلت الى قنوات تعبئة وتحريض على النظام السوري، فيما
اشتغل الاعلاميون السعوديون على مواقع التواصل الإجتماعي
مثل فيسبوك وتويتر للتحريض على الاحتجاج في سورية، وهو
ما غفلوا عنه عن سابق عمد في بلادهم التي كانت بحاجة الى
مثل هذا الاحتجاج، وتناسى الجميع الثورات العربية الأخرى،
بما فيها الحركة الشعبية السلمية في البحرين، وتفرّغوا
لكتابة رسائل ذات طبيعة تحريضية من أجل مواصلة الثورة
على النظام السوري. أحدهم كتب بأن الثورة في سورية هي
أولى من كل ثورة في الشرق الأوسط، وأن حاجة سورية للتغيير
أهم من كل البلدان العربية، وصار تداول أخبار الاحتجاجات
وظيفة جماعية بالنسبة لكثير من الاعلاميين والقنوات الفضائية
السعودية. على أية حال، فإن النجديين السلفيين/الوهابيين
وسواهم يحملون عداءً للنظام السوري لأنه لا يمثل البلد
الذي تخرّج منه أعلام السلفية مثل ابن تيمية وإبن كثير
وابن القيم وغيرهم. وكان واضحاً منذ عقود أن هناك ضوءاً
أخضر من النظام السعودي لكل الأقلام والأصوات للنيل من
النظام السوري على خلفية طائفية.
باستثناء موقف السعودية من الرئيس الليبي، الذي يتّسم
بالشخصانية، فإن النظام السعودي يضطلع بمهمة إخماد الثورات
في كل مكان في الشرق الأوسط حتى لا تتحول الثورة الى عادة،
ويكفي أن فتوى تحريم التظاهر التي أطلقها علماء الوهابية
ليست دينية بالمعنى ولكنها فتوى سياسية من أجل درء الثورة
عن نفسها.
|