السياسة الخارجية السعودية..
مزيد من الراديكالية، مزيد من الخسائر!
خالد شبكشي
في عام 1991، حدثت انعطافة حادّة في السياسة الخارجية
السعودية لم تشهدها منذ عقود، أدّت الى تحولات عميقة وانحسار
في النفوذ السعودي منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
تلك الإنعطافة الحادّة جاءت بعد تقييم سريع وسطحي للموقف
إثر غزو الكويت ومن ثم الحرب على العراق وإخراجه منها.
في تلك الفترة، أعادت السعودية صياغة العداوات والصداقات،
وتخففت من أحمال الزعامة في المحيط العربي التي ورثها
فهد من أسلافه بعد وفاة جمال عبدالناصر.
رأى الحكام السعوديون ابتداءً معاقبة الجهات التي وقفت
مع صدام حسين، من ياسر عرفات والملك حسين وصدام حسين نفسه
وحتى رئيس اليمن علي عبدالله صالح، الى عمر البشير في
السودان وغيرهم. ومع أنها تراجعت بالنسبة للبعض كما هو
الحال في اليمن والأردن، ولكنها بقيت على عدائها لقيادات
تلك الدول او المنظمات.
وقد تمثل العقاب في قطع المساعدات، ومعاقبة رعايا تلك
الدول وطردهم في أحيان كثيرة، والمثل الأكثر وضوحاً في
هذا الشأن طرد اكثر من مليون يمني ونهب ممتلكات أكثرهم.
وفضلاً عن ذلك وقفت السعودية بالضد سياسياً في كل المسائل
المتعلقة بتلك الدول والجهات بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية،
وحاولت إضعافها وسحب الغطاء السياسي منها، بل والوقوف
احيانا ضد بعض الدول وتمويل المعارضات فيها كما هو الحال
في السودان.
في فترة ما بعد الغزو للكويت، اتخذ ملوك السعودية سياسة
الإنكفاء على الذات، وترك العديد من الملفات العربية والإسلامية
التي تقع بنظرهم في المحيط الطرفي للعالم العربي، كما
في الصومال والصحراء الغربية، بل وكافة قضايا المغرب العربي،
فضلاً عن قضايا أخرى في العالم الاسلامي. وحتى تدخلها
في الشأن الفلسطيني بات محدوداً وكأنها غير معنية به،
ومثله الموضوع اللبناني ـ الى حين طبعاً.
في ذات الاتجاه وقفت السعودية ضد كل الحركات الاسلامية
وغيرها التي اتخذت موقفاً ضد استقدام القوات الاميركية
الى الاراضي السعودية، وشنت عليها الغارات، خاصة الاخوان
المسلمون الذين لازالوا علكة تلاك بالسلب في الاعلام السعودي
منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. ومثل ذلك فعلت مع قضايا الاقليات
الاسلامية في فطاني ومورو وما أشبه.
الإنكفاء على الذات جاء بعذر أن المملكة بحاجة الى
وقت لاصلاح وضعها الداخلي والإهتمام به، خاصة وأن مرحلة
ما بعد الغزو شهدت حراكاً سياسيا في السعودية يطالب بالإصلاح
السياسي، رافقه بعض الاضطرابات خاصة في المحيط النجدي
الوهابي الذي بدأ يتمرد على المؤسستين الدينية الوهابية
والسياسية السعودية، وكان نجومه هم من مشايخ الوهابية
الذين اصبحوا مشهورين اليوم مثل سلمان العودة وغيره ممن
سمّوا بقادة التيار الصحوي!
لكن الإنكفاءة السعودية جاءت في مجملها على أساس (العقاب)
للآخر الذي اختلف مع السعودية بشأن موضوع الكويت. وكانت
هناك رغبة كبيرة لدى القيادة في المواجهة السياسية والإعلامية
بهدف الإنتقام في الأكثر. هذه النزعة الإنتقامية أصابت
حتى أولئك المجاورين حيث اشتعلت الخلافات مع عدد من دول
الخليج كقطر وعمان والإمارات.
كل هذا ادى الى أن تتخلى السعودية عن دورها إما باختيارها،
أو بسبب انحيازها لطرف دون آخر، وترك موقعها كوسيط يمارس
دور القاضي بين المتخاصمين وهذا من لوازم الزعامة ومن
يضع نفسه في مقعدها.
ولأن المال كان مسهلاً للنفوذ السياسي السعودي، والقبول
به كعنصر من عناصر السياسة الخارجية والنفوذ، ولأن السعودية
كانت تعاني مشاكل كبيرة في هذا الجانب بسبب انخفاض أسعار
النفط بحيث كانت الميزانية وحتى عام 2003 تعاني من عجز.
كل هذا، دفع بالسعودية الى الغاء الدعم عن الكثير من الدول
المحتاجة، بما فيها الدول الصديقة التي حاربت الى جانب
السعودية كسوريا مثلاً. وعليه كان من الطبيعي أن يتراجع
الدور السعودي، حتى بعد أن وصلت الأموال وارتفع سعر النفط،
لأن السياسة السعودية المالية المتعلقة بالمساعدات سواء
للدول أو للحركات انقطعت أو تقلصت الى أبعد الحدود.
من هنا كان لا بد أن يظهر لاعبون جدد، ينافسون الزعامة
السعودية، او يتحركون وفق سياسة مصالح لا تتواءم مع مصالح
السعودية. حتى وصل الأمر الى أن تكون قطر وحتى الأردن
أكثر فاعلية وتأثيراً في بعض ملفات المنطقة الأساسية من
السعودية نفسها.
قبيل احتلال العراق، كانت السعودية قد تخلت عن سوريا
تقريباً، وكان العراق محاصراً مهمشاً سياسياً، وكانت الجزائر
لاتزال تعاني من آثار الحرب الداخلية، وأما مصر فهي الوحيدة
التي بقيت الى جانب السعودية ولكن بلا فاعلية تذكر. لهذا
وبمجرد أن تغيرت الأوضاع باحتلال العراق برز دور الحلف
السوري ـ الإيراني ليملأ الفراغ، فيما كانت السعودية تتكيء
على الموقف الأميركي الحاضر بقوة في المشهد العراقي. ولكن
الحلف السوري ـ الايراني استطاع ان يجد له مكانا هناك،
بل واستطاع أن يقزم الدور الأميركي، وهنا تألمت السعودية
التي لم تكن مهيأة للعب أية دور في العراق، بل أنها تخلت
عن أوراقها فيه كافة، وعمدت ـ عوضا عن ذلك ـ الى اسلوب
التخريب على الآخرين لا انتهاج سياسة عقلانية تحفظ لها
مكانة ما. ولازال الموقف السعودي على حاله، وهو موقف يختلف
عن موقف مصر والأردن وعدد من دول الخليج كالكويت وعمان.
الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، كانت فرصة للسعودية
تمنتها لكي يقوم احد ما بضرب سوريا وحزب الله وبالتالي
ما تسميه النفوذ الايراني، ولذا وقفت مع اسرائيل من الناحية
العملية والسياسية. وكانت هنا خسارتها فادحة ايضاً. وقبل
هذا كانت السعودية وبغباء شديد قد خسرت حماس وكل قوى المقاومة
الفلسطينية حين ناصبتها العداء المفضوح، ولاتزال السعودية
على موقفها.
وتبع ذلك خسارة حلفائها في لبنان وهكذا.
تبين ان الإنعطافة السعودية في سياستها الخارجية قد
أدّت الى خسارتها مواقع النفوذ. وكان يفترض ان تراجع تلك
السياسة، إلا أنها ـ وهي غير قادرة ولا مهيأة ـ أصرت على
استخدام الوهابية والمال للتخريب والتدمير والتآمر وليس
لاستعادة مجد مضى.
وجاءت الطامة الكبرى على السعودية بسقوط حسني مبارك،
وقبله بن علي في تونس، وإذا بها تحاصر من الثورات حتى
البحرين واليمن حيث حليفها وصنيعتها علي عبدالله صالح.
لاتزال السعودية رغم كل هذا تقوم بدور الثورة المضادة،
وتعاند رغبة الشعوب، وتتآمر على خياراتها، وتفتح لها جبهات
جديدة، وما ارسالها قواتها الى البحرين إلا دليل على ذلك.
ما قلناه آنفاً، يمثل التصعيد في خط الراديكالية السياسية
السعودية. أي ان السعودية اليوم وضعت نفسها كعدو رقم واحد
لشعوب عديدة، وهي اليوم تبدأ انعطافتها الثانية في الطريق
الخطأ، وكأن كل ما جرى لم يفدها في شيء.
نحن اليوم بإزاء تحول ثان في السياسة الخارجية السعودية،
يميل الى المصادمة الى حد الحرب. لقد فتحت السعودية معركة
أكبر من المعركة السياسية والإعلامية مع تيار الممانعة،
علامته استعدادها الى حد الحرب مع ايران، والتدخل المباشر
لإسقاط الأسد، ومن أهم عناوين تحركها: دعم الثورة المضادة
في اليمن ومصر وحتى تونس ان استطاعت. والسعودية اليوم
ـ التي عاد بندر بن سلطان يساهم في صنع سياستها الخارجية
بعد رحلة علاج من الإدمان ـ لديها الاستعداد الكلي للتنسيق
مع اسرائيل في ضرب سوريا، وهي أدخلت الأردن ضمن منظومة
مجلس التعاون الخليجي لتكون رأس حربة ضد العراق وسوريا.
في كل هذه القضايا، ربما يقول السعوديون ـ الحكام بالطبع
ـ بأن خير وسيلة للدفاع الهجوم. فالسعودية تشهد تساقط
حلفائها، وهي تتحسس الأرض متزلزلة تحت أقدامها على وقع
الثورات المجاورة، كما أنها تشهد انكماشاً غير مسبوق في
تاريخها منذ أن سقط حسني مبارك، حصان السعودية المفضل،
ويدها الضاربة والرخيصة في آن.
لكن هناك نقطة أساسية تتعلق بهذا الطموح السعودي في
مواجهة الثورات والدول، هي ان السعودية لا تستطيع ـ ليس
فقط وحدها، بل حتى ولو اجتمعت معها أميركا والغرب كله
ـ أن تحققه. الراديكالية الجديدة جاءت في جانب منها بدافع
الخوف والدفاع عن النفس، وربما جاءت بدافع تضخم الذات
والتصور بأنها قادرة على أن تفعل المستحيلات. في حين ان
السعودية لا يوجد لديها إلا المال والوهابية المتآمرة.
هذان سلاحها الأساسيان، وبهما لا يمكن أن تحقق منجزاً،
ولا مواجهة حتى جماعة مسلحة مثل الحوثيين، فضلاً عن بلد
مثل العراق أو سوريا أو ايران او ثورة مصر أو حتى ثورة
اليمن. هذا حلم سعودي خالص! ولطالما كانت هناك مشتركات
بين السياسي والديني في السعودية بينها أنهما يضعان سقوفاً
عالية من الأهداف لا يمكن لهم انجاز أدناها.
هل تريد السعودية أن تفتح معركة مع العراق مثلاً؟ ان
اميركا غير قادرة على ضبط العراق اليوم فكيف بها تضبطه
بعد أن ترحل أواخر العام؟ فيما مضى كان هناك سكوت عن التخريب
السعودي في الدول المجاورة، أما اليوم وقد بدت السعودية
تتحرك علانية وبمنطق القوة، فإنها ستنكسر لا محالة، وسيرد
عليها السوريون والمصريون واليمنيون والعراقيون فضلاً
عن الإيرانيين.
رحم الله امرئا عرف قدر نفسه.
|