الثورة المضادة في السعودية
أحمد عدنان
يوم 11 مارس 2011، سيسجله التاريخ الحديث يوماً مفصلياً
في تاريخ المملكة العربية السعودية. لكن في أي اتجاه؟
هذا ما سوف نراه! إذ قبل ذلك بفترة، أنشئت صفحة ـ مجهولة
المصدر ـ على موقع فايسبوك، تدعو إلى ثورة على نظام الحكم
في السعودية، للأسف، تعامل النظام معها بانفعال، في مناخ
الثورات العربية. من مظاهر ذلك التعامل إطلاق العلماء
فتاوى لتحريم التظاهرات، وتحريم الدعوة إلى الإصلاح، وتحريم
الخروج على الحاكم، مهما كانت الأسباب. يؤكد ذلك المشكلة
الثقافية (الفكرية) ـ الاجتماعية التي تعانيها المؤسسة
الدينية في السعودية. تحرك مجلس الشورى، من جهته، في اتجاه
انفعالي مماثل، وأعتقد أنّها المرة الأولى التي يتوجه
فيها المجلس ببيان إلى الشعب، والأجدى أن يعمل أعضاء المجلس
على تحويله إلى سلطة تشريعية كاملة، عبر المطالبة بحق
الانتخاب وسلطات الرقابة والتشريع والمحاسبة.
في ذلك اليوم، 11 مارس، تحوّلت بعض الميادين إلى ثكن
عسكرية. وهذا تعامل انفعالي آخر. قبل اليوم المحدد للثورة
بنحو أسبوع، زار الأمير عبد العزيز بن فهد (وزير الدولة
ـ رئيس ديوان مجلس الوزراء) الشيخ سعد الشثري (عضو هيئة
كبار العلماء المقال في أكتوبر/ تشرين الاول 2009)، بناءً
على دعوة الأخير، وبحضور ناهز أربعين عالماً وداعية، أغلبهم
تقليديون. في تلك الليلة، أدان أحد الدعاة ـ وأيّده أغلب
الحاضرين، إن لم يكن جميعهم ـ بيان (دولة الحقوق والمؤسسات)
الذي رفع إلى الملك، متضمناً مطالب إصلاحية. من تلك المطالب:
أن يكون مجلس الشورى منتخباً كله، فصل رئاسة الوزراء عن
الملك، العمل على استقلالية القضاء وإصلاحه وتطويره، محاربة
الفساد المالي والإداري بكل صرامة، الإسراع بحل مشكلات
الشباب، إطلاق حرية التعبير المسؤولة، تشجيع إنشاء مؤسسات
المجتمع المدني، والإفراج عن مساجين الرأي وتفعيل الأنظمة
العدلية. جرى تصوير البيان في عيون أصحاب القرار آنذاك
على أنّه تأييد مبطن للثورة، وأنّه يحظى بتأييد القيادات
الدينية من وعّاظ وعلماء دين ودعمهم. لكن الدعاة في بيت
الشثري، أكدوا وقوفهم في صف النظام، ورفضهم للثورة بل
وتصديهم لها.
عاد الملك إلى أرض الوطن بعد رحلته العلاجية في 23
فبراير 2011. كانت الشائعات تسبق عودة الملك، ومنها الحديث
عن إصلاحات جذرية سياسية واقتصادية، بالإضافة إلى التشكيل
الوزاري الجديد. أعلن الملك سلسلة من القرارات، وفي الوقت
نفسه، رفعت النخب الفكرية في المملكة مطالب عدّة إلى الملك،
تفاعلاً مع التطورات التي تشهدها المنطقة. فبالإضافة إلى
بيان (دولة الحقوق والمؤسسات)، رفعت مجموعة من الشباب
رسالة عرفت باسم (رسالة 23 فبراير) إلى الملك ـ أوصلها
الأمير طلال بن عبد العزيز ـ تضمنت المطالب التالية: مراجعة
النظام الأساسي للحكم ونظام الشورى ونظام المناطق ونظام
مجلس الوزراء على أساس مكافحة الفساد، وإصلاح القضاء،
وتعزيز قيم المواطنة والحريّة والعدالة وسيادة القانون
والتنوع والمساواة بين المواطنين، واحترام حقوق الفرْد،
وتمكين المرأة من حقوقها كاملة، وتأسيس محكمة نظامية عليا
تحمي النظام الأساسي من أي تجاوز أو انتهاك، وإعادة تأليف
الحكومة ومجلس الشورى ومجالس المناطق ليكون الشباب هم
الشريحة الأغلب فيها، وتطبيق توصيات الحوار الوطني الثاني
ومن أهمها الفصل بين السلطات وتوسيع المشاركة الشعبية
عبر الانتخاب، وحماية المال العام، وتحقيق التنمية المتوازنة.
كذلك وجه مثقفون سعوديون بيان (إعلان وطني للإصلاح)
إلى القيادة السياسية، تضمن مطالبة النظام بالالتزام بالتحوّل
الجاد إلى نظام ملكي دستوري. ولتحقيق ذلك طالبوا بالتالي:
تطوير النظام الأساسي للحكم إلى دستور متكامل، اعتماد
الانتخاب العام والمباشر محوراً رئيساً في الحياة السياسية،
تأكيد مبدأ سيادة القانون ووحدته، إقرار مبدأ اللامركزية
الإدارية، استقلال السلطة القضائية، التعجيل بإصدار نظام
الجمعيات الأهلية الذي أقره مجلس الشورى، تمكين المرأة
من حقوقها كاملة، إصدار قانون يحرم التمييز بين المواطنين،
إلغاء القيود الحكومية التي تكبل جمعية حقوق الإنسان (الأهلية)
وهيئة حقوق الإنسان (الحكومية)، العمل على معالجة مشاكل
البطالة والإسكان وتحسين المعيشة، حماية المال العام،
وإخضاع كل الدوائر الحكومية للرقابة والمحاسبة، وإعادة
النظر في أسس خطط التنمية. وطالب المثقفون بأربعة إجراءات
فورية: صدور إعلان ملكي يؤكد التزام الحكومة ببرنامج الإصلاح
السياسي، الإفراج الفوري عن السجناء السياسيين، إلغاء
أوامر حظر السفر التي فرضت على عدد من أصحاب الرأي، ورفع
القيود المفروضة على حرية النشر والتعبير.
في 7 مارس 2011، صدر بيان شبابي آخر موجّه إلى الملك
بعنوان (مطالب الشباب من أجل مستقبل الوطن)، من أبرز مطالبه:
القضاء العاجل على مشكلة البطالة، حل مشكلة الفقر، محاربة
كل أشكال الفساد المالي والإداري، تجريم كلّ أشكال المحسوبية
والتمييز بين المواطنين، إيقاف كل أشكال التمييز ضد المرأة،
تكريس مفهوم المواطنة، إلغاء الوصاية الدينية على المجتمع،
اعتبار العمل الثقافي جزءاً عضوياً في حياة المواطن، تفعيل
دور الفنون في تطوير الحياة الثقافية في المجتمع، وإفساح
المجال للشباب في كل مؤسسات صنع القرار. ورأى الشباب أنّ
ثمة مطالب لا بد من تنفيذها فوراً وهي: تطوير النظام الأساسي
للحكم ليؤسس لملكية دستورية، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين،
وإلغاء حظر السفر الذي صدر بحق بعض دعاة الإصلاح.
من خلال تلك البيانات والمطالب، نستطيع أن نفهم لماذا
لم يخرج السعوديون يوم 11 مارس، خصوصاً أنّ البيانات تمثل
شرائح فكرية وعمرية متنوعة وواسعة، ربما تعبّر في مجموعها
عن المزاج السعودي العام. مزاج اتضح أنّ من أهم ملامحه:
* السعوديون يريدون إصلاح النظام وتطويره والتغيير
من داخله، وهذا الإصلاح لا بد أن يتبنى تغيير الأشخاص
والسياسات.
* إنّ هاجس الإصلاح الذي يشغل بال النخبة في المملكة،
أصبح يتمدد أفقياً ليعمّ طبقات واسعة من الجنسين.
* إنّ الثقافة الليبرالية أزاحت الفكر المحافظ جانباً.
فبعدما كان عدد الموقعين على تلك البيانات والمطالب لا
يتجاوز المئات، بدا واضحاً إقبال الآلاف على تأييد مطالب
الإصلاح الليبرالية.
* إنّ فكرة الإصلاح التقليدية التي ترسخت في الفكر
الحكومي زمناً، والمتمثلة في تحسين الخدمات وإغداق الأموال
على المواطنين، لم تعد تتواءم مع المناخات السائدة والحقوق
المشروعة والحراك الذي يعيشه المجتمع.
* بعض مسلّمات الفكر الحكومي أصبحت عبئاً على التنمية،
كالمركزية الإدارية. والحديث عن قدرة الحكومة على احتكار
زمام المبادرة لم يعد منطقياً، وأصبح يقابَل بالدعوة إلى
المجتمع المدني. ويعزز هذا التحليل تنامي ظاهرة العمل
التطوعي في المملكة.
* إنّ الإجراءات التعسفية، كالاعتقالات السياسية ومنع
السفر والقيود على حرية التعبير، فضلاً عن عدم شرعيتها،
لم تعد مستساغة أو يمكن السكوت عنها، وأن تمتع وزارة الداخلية
بنفوذ استثنائي لا يخضع لحساب أو عقاب أصبح مشكلة لا بد
من معالجتها.
* إنّ التعامل الأمني مع القضايا السياسية، على غرار
التعامل مع الأقليات والناشطين السياسيين أثبت فشله.
* اتفقت جميع البيانات على ضرورة إصلاح القضاء، وهذا
يعني اضطراب ميزان العدل في أرض الواقع وخصوصاً في القضايا
السياسية وقضايا المتهمين بالإرهاب. كذلك اتفقت البيانات
على محاربة الفساد الذي أصبحت سطوته تنهش أجهزة الدولة،
إضافة إلى حماية المال العام والتنمية المتوازنة.
* مفهوم (الرعايا) سقط، وبدأت المواطنة تتقدم، وكذلك
مبدأ وجود حقوق وواجبات واضحة ومتساوية في إطار سيادة
القانون ـ لا الفتوى ـ واحترام حقوق الإنسان والانطلاق
نحو الديموقراطية دون تمييز أو عنصرية باسم الجنس أو الطائفة
أو المناطق.
* هناك ملامح لحياة سياسية شعبية حيوية وجادة وواعدة
بدأت في التكوّن، خصوصاً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي،
وعبر تحركات الناشطين وطروحات المثقفين. لذلك، فإنّ تعبير
السعوديين عن مطالبهم وأفكارهم عبر بيانات ورسائل موجهة
إلى أصحاب القرار لن يطول (وقد بدأت سيدات سعوديات حملة
للشروع في ممارسة المرأة لقيادة السيارة، دون انتظار موافقة
أو استئذان من أحد، وازداد التعاطف الاجتماعي مع هؤلاء
السيدات ومطلبهن، بعد اعتقال الناشطة منال الشريف في المنطقة
الشرقية)، وعليه فإنّ النظام مطالب بتشريعات واضحة تكفل
ممارسة سياسية ناضجة وسليمة، تضمن حق الناس في الدعوة
إلى التغيير وتنفيذه، وتحقق التجدد والحيوية للحياة السياسية.
* الوصاية الدينية على المجتمع تآكلت إلى حد كبير،
وأصبحت عبئاً على القيادة السياسية، بل إنّ التيارات السلفية
نفسها تتغير وتتطور. والوصاية من أي نوع ـ حتى لو كانت
سياسية ـ لم تعد مقبولة هي الأخرى.
مرّ يوم 11 مارس، ولم تتحقق (ثورة حنين)، وأصدر الديوان
الملكي في 17 مارس بياناً يعلن أنّ الملك سيلقي خطاباً
إلى المواطنين في اليوم التالي. وهنا، ارتفعت الآمال بأنّ
ثمة حكومة جديدة ستعبّر عن السعودية المأمولة، وأنّ الملك
سيصدر قرارات تاريخية. أصدر الملك قراراته في 18 مارس،
فكانت مجرد قرارات معيشية لم تقترب من الإصلاح أو من إعادة
تأليف الحكومة. وهنا بدا للمتابعين:
* أنّ مشروع الإصلاح السياسي لا يزال مؤجلاً، رغم المطالب
الشعبية.
* ان هناك تجاهلا لمطالب الإصلاح السياسي، بما أكد
تقدم فكر النخبة ـ الذي حظي بتأييد شرائح واسعة من المواطنين
ـ على الفكر الرسمي، على عكس تصريح الأمير سعود الفيصل
ـ غير الموفق ـ في صحيفة (لوس أنجليس تايمز)، في 2003،
حين قال: (إنّ الحكومة تغلي من أجل الإصلاح، لكن الشعب
هو الذي يعرقل ذلك)!
* أنّ الحكومة لا تزال مصممة على احتكار زمام المبادرة.
وان الاعتراف بالمسائل المعيشية في المطالب الإصلاحية،
دون غيرها، عزز الدور الرعائي والأبوي للدولة الذي تجاوزته
المرحلة.
* ان هناك اصراراً على تجاهل الاستحقاق الوزاري ـ وهو
أدنى مظاهر الإصلاح السياسي.
* أنّ الفكر الرسمي لا يزال متشبثاً بالاعتماد على
التحالف مع المؤسسة الدينية والتيار السلفي، بدل الاعتماد
على رضا السواد الأعظم من المواطنين، وهو الركيزة الأهم
لشرعية أيّ نظام سياسي.
* أنّ تخصيص كم كبير من الوظائف العسكرية لوزارة الداخلية
يعني تعزيز التعاطي الأمني مع القضايا السياسية.
القرارات هذه أسبغت الريبة على الحاضر، وضرّجت المستقبل
بالمخاوف والتوجسات.
مستقبل وزارة الداخلية
في أبريل 2011، أصدرت وزارة الداخلية قراراً بمنع السيدات
من العمل في وظيفة مسؤول صندوق (كاشيير). القرار صدر بتوصية
من (اللجنة الاستشارية المعنية بدراسة ما يشتبه أنّ فيه
إساءة للدين الإسلامي الحنيف والقيم والعادات الاجتماعية)
وهي تتبع وزارة الداخلية. من جانبها، نفت وزارة العمل
ـ رائدة المشروع ـ وقف عمل السيدات في تلك الوظيفة، ونتيجة
هذا الالتباس فصلت بعض الشركات السيدات والفتيات اللاتي
جرى تعيينهن مسبقاً (قرار وزارة الداخلية مناهض لروح تعميم
مجلس الوزراء في مايو 2004 الذي دعم توظيف المرأة في كل
المجالات).
كذلك، اعتقلت وزارة الداخلية الناشطة منال الشريف،
في مايو 2011، بعد قيادتها السيارة بالمنطقة الشرقية.
اتهمت منال بالإخلال بالنظام، وتأليب الرأي العام. (لا
وجود لأي مادة نظامية تمنع المرأة من قيادة السيارة. وقرار
الداخلية غير نظامي بسبب توقيع المملكة على اتفاقية سيداو
المناهضة للتمييز ضد المرأة). كذلك مُنعت المرأة من المشاركة
في الانتخابات البلدية، بعد وعد من وزارة الشؤون البلدية
قبل 6 سنوات بأنّها ستشارك في الدورة الحالية. هذا القرار
بما فيه من رمزية موجهة ضد المرأة ـ كما في القرارات السابقة
ـ تسبب أيضاً في إضعاف صدقية وعود الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إجراء الانتخابات البلدية من
دون أي تعديلات جوهرية تطال نظامها الأساسي ـ بعد تعطيل
دام سنتين بحجة دراسة التجربة ـ يشير إلى تباطؤ النظام
في توسيع المشاركة الشعبية. فلا تزال المجالس بلا صلاحيات
رقابية أو تشريعية، ورغم حصر صلاحيات المجالس في البعد
الاستشاري، يصمم النظام على تعيين نصف أعضائها.
كذلك، صدرت تعديلات نظام النشر في 30 أبريل 2011، ونصّت
على العديد من المواد الغامضة التي يمكن أن تستخدم ضد
حرية التعبير والنشر. من تلك المواد منع أي وسيلة صحافية
أو إعلامية نشر (ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو
الأنظمة النافذة، ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة
الوطنية، ما يضر بالشأن العام في البلاد، التعرض أو المساس
بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى
مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال
الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية
أو الاعتبارية الخاصة).
ولجأ المعنيون إلى التعاطي السلبي مع احتجاجات المناطق
الشيعية شرق البلاد، بل حاولوا إلصاق ثورة حنين بالطائفة
الشيعية، في حين أنّ احتجات المواطنين في المنطقة الشرقية
مشروعة، ومن أجل قضية عادلة (اعتقال بعض المواطنين منذ
16 سنة من دون محاكمة!). هذا إذا ما تجاهلنا أنّ أعمال
التظاهر والاحتجاج مشروعة في ظل الالتزام بمبدأ السلمية
والطرق الحضارية (الحديث عن منع التظاهر أو تحريمه وتجريمه،
لا أساس له بعد توقيع المملكة على الشرعة العالمية لحقوق
الإنسان). بالإضافة إلى ذلك، كان هناك السكوت، أو عدم
التصدي للنبرة الطائفية العنصرية التي بدت من بعض الوعاظ
والعلماء المتطرفين في المملكة ضد الطائفة الشيعية، مما
أدى إلى احتقان واضح تتجلى مظاهره في شبكات التواصل الاجتماعي
والمنتديات الإلكترونية. ووصل الأمر إلى أن نشر أحد التجار
إعلاناً مدفوعاً في إحدى الصحف يؤكد أنّه ينتمي (إلى أهل
السنّة والجماعة)، وليس إلى أي طائفة أخرى!
وكان هناك تعاطي سلبي مع الاعتصام الذي حصل أكثر من
مرة أمام مقر وزارة الداخلية في الرياض. سبب تلك الاعتصامات
أنّ عدداً كبيراً من المعتقلين في قضايا الإرهاب ـ حسب
الحكومة، منذ فترة طويلة تناهز السبع سنوات، لم يحاكموا.
وهناك حديث من بعض الأهالي عن أنّ تلك الاعتقالات غلب
عليها التعسف والمبالغة.
كذلك، حصلت موجة اعتقالات طاولت بعض الناشطين والمحتجين
على هامش احتجاجات المنطقة الشرقية واعتصام أهالي المتهمين
في قضايا الإرهاب.
في الوقت نفسه، أظهرت السياسة الخارجية للمملكة في
موقف المناوئ للربيع العربي الذي بدأ بثورة تونس ثم ثورة
مصر، وتمدد إلى اليمن والبحرين وغيرها. جعل هذا البلاد
تبدو في موقف معاد لحقوق الإنسان والديموقراطية. ومن مظاهر
ذلك، استضافة المملكة للرئيس التونسي زين العابدين بن
علي ـ الذي طرده شعبه ـ وحمايته من ملاحقة الإنتربول،
وإظهار الدعم للرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في
خضم الثورة في مصر، ثم ما روي في الصحافة المصرية عن تدخل
سعودي لمنع محاكمته وعرض استضافته في المملكة.
وفيما يخص السياسية الخارجية كذلك، وقفت المملكة خلف
الموافقة على انضمام الأردن، ودعوة مملكة المغرب، إلى
مجلس التعاون الخليجي، ليظهر المجلس في خانة (نادي الملوك)،
بعدما كان (نادي النفط). هذا، في ظل البطء الشديد الذي
يعانيه الملف اليمني ـ الأكثر أهمية ومنطقية على كل الصعد
ـ للقبول في أروقة المجلس.
جزء كبير من الإشكالات السابقة سببه وزارة الداخلية
التي وإن كانت وزارة سيادية، فإنها في الوقت نفسه وزارة
خدمية. يجب ألّا تستثنى وزارة الداخلية من النقد. تبدو
الوزارة منحازة للتيار المحافظ أو السلفي في المملكة،
على حساب التيارات الأخرى، وهذه مشكلة لها ما يفسرها.
يرتبط جهاز وزارة الداخلية في شخصيته بتكوين (شخصية الشرطي).
مهمة الشرطي تطبيق الأوامر لحفظ الأمن، وهذا يقتضي الحرص
والحذر والتخوف لحماية الاستقرار العام. يرتبط التغيير
في ذهن الشرطي بالاضطراب، لذلك يتوجس عند المستجدات والتطورات،
ويفضل بقاء الوضع القائم على ما هو عليه. من أجل ذلك،
يبدو انحياز وزارة الداخلية للمحافظة واضحاً، مثلاً: قرار
الوزارة في أغسطس 2009 بمنع العروض السينمائية في كلّ
أنحاء البلاد، وتصريح وزير الداخلية تعليقاً على خطاب
الملك في مجلس الشورى (2009): (تعيين المرأة عضواً في
مجلس الشورى لا لزوم له).
لا تقوّم شخصية الشرطي الأمور بغير منظار الأمن، وإذا
بقيت العقلية الأمنية، بدون حسيب ولا رقيب، فإنّها تطغى
لتحيط قبضتها بكل نشاطات المجتمع، ومن هنا جاء وجود (اللجنة
الاستشارية المعنية بدراسة ما يشتبه أنّ فيه إساءة للدين
الإسلامي الحنيف والقيم والعادات الاجتماعية) بالوزارة.
قد يُفهَم وجود هذه اللجنة في وزارة الثقافة والإعلام،
أو مجلس الشورى، أو وزارة الشؤون الإسلامية، أو وزارة
الشؤون الاجتماعية، لكن وجودها في وزارة الداخلية غير
مبرر، مثل حاجة المواطن السعودي ـ أو المواطنة ـ إلى أخذ
إذن الوزارة في حال الزواج من جنسية أخرى!
شخصية الشرطي في الوزارة تأبى التغيير لحفظ الأمن،
وشخصية الواعظ داخل التيار المحافظ تأبى التغيير خوفاً
من البدعة وفقدان وصايتها (سلطتها) على المجتمع. يستمد
التيار المحافظ سطوته من وزارة الداخلية، لأنّ شخصية الشرطي
حين تأبى التغيير من منظور الأمن، تعتقد أنّها تلبّي رغبة
أغلبية المجتمع التي تظنها محافظة (وهنا يتذكر السعوديون
إغلاق وزارة الداخلية بعض المنتديات الإلكترونية الليبرالية
أو التنويرية، رغم معاداتها لفكر التطرف مثل منتديات طوى).
التزمت وزارة الداخلية بالتعميم الرسمي الصادر في 1990
القاضي بمنع المرأة من قيادة السيارة، واعتقلت منال الشريف
بعد قيادتها للسيارة في الخبر، بتهمة الإخلال بالنظام
وتأليب الرأي العام. لكنّ الوزارة، في المقابل، تنتهك
(نظام الإجراءات الجزائية) وكأنّه غير قائم، حين تتعاطى
مع قضايا الناشطين السياسيين (قضية علي الدميني ود. عبد
الله الحامد ود. متروك الفالح والمعتقلين الاثني عشر من
مارس 2004 إلى أغسطس 2005) أو قضايا الإرهاب (ومنهم الناشطون
المعتقلون في قضية جدّة، منذ نحو خمس سنوات بتهمة تمويل
الإرهاب الذين بدأت محاكمتهم أخيراً في ظروف صعبة)، وقضية
(السجناء المنسيين) التي تظاهر من أجلها الشيعة في المنطقة
الشرقية، وهي كلّها دليل ناصع على هذا الانتهاك. شخصية
الشرطي المحصنة بالسلاح، وحين يغيب الرقيب على أدائها،
يسيطر عليها هاجس الأمن الذي يدفعها إلى الاعتقاد بأنّها
الأكثر تأهيلاً لتحقيق العدل على حساب دور القضاء والأنظمة
القانونية القائمة. فشخصية الشرطي تعتقد أنّ ثمة مساحات
رمادية في القانون من الممكن أن ينفذ منها المتهم إلى
حرية، بدلاً من العقاب الذي يستحقه من وجهة نظرها. وهذا
ربما يفسر تبعية رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام ـ ما
يوازي (المدعي العام) في الدول الأخرى ـ وظيفياً إلى وزير
الداخلية، وهذه حالة ليس لها مثيل في كل دول العالم.
العلاقة بين المثقف (في دوره السياسي) ووزارة الداخلية
مشوبة بالتوتر والصدام، ولا استثناء في السعودية. ظاهرة
قرارات (منع السفر)، إضافة إلى الاعتقالات التعسفية، التي
تمارسها وزارة الداخلية على المثقفين المستقلين أصبحت
مشوبة بالامتعاض. كتب تركي الدخيل في 1 أغسطس 2009 في
صحيفة الوطن: (خلال الأسابيع القليلة الماضية تبادلت مواقع
الإنترنت أنباءً متفرقة عن رفع منع السفر عن مجموعة من
الناشطين الذين تحفظت وزارة الداخلية على بعض أنشطتهم.
قد يقول البعض إنّ المنع كان يستند إلى احترازات أمنية،
مع أني أستبعد ذلك). ويضيف الدخيل: (حرية التنقل هي أحد
الحقوق الإنسانية الرئيسة التي نعتقدها جميعاً. إنّ التعاطي
مع المنع من السفر بوصفه عقوبة، هو خطأ في حق الوطن. منع
المواطن من السفر من وطنه، شبه إقرار بأنّ هذا الوطن سجن
كبير، ومن أشكال العقوبة أن نجعلك بين قضبان حدوده! لا
أحد يرجو لوطنه أن يكون كذلك، ولو في أحاسيس بعض الممنوعين
من السفر، وبخاصة إذا لم تكن ضدهم أحكام قضائية، أو تهم
جنائية). الأمل هو أن يلتفت المقام السامي، بجدية وتجرّد،
إلى ملف المنع من السفر والاعتقالات السياسية، ثم إغلاقه
إلى الأبد، ليطوي ظلماً استفحل مداه.
لقد كان خطاب الملك حين تولى الحكم، واضحاً وحاسماً:
(سأضرب بسيف العدل هامة الظلم والجور). لكن لن تصل كلمات
الملك إلى مبتغاها إلا حين تعالج إشكالات عدّة. منها حسر
مساحة الخوف لصالح مساحة الثقة في علاقة المثقف المستقل
والناشط، والمواطن السعودي عموماً، بوزارة الداخلية، عبر
الاحتكام إلى قيم الحق والعدل والمواطنة، وهذا يتأتى بالتزام
الوزارة بحقوق الإنسان والأنظمة القائمة، خصوصاً نظام
(الإجراءات الجزائية). كذلك، يجب حماية وزارة الداخلية
من (شخصية الشرطي)، عبر حصر دورها في حفظ الأمن والتصدي
لمنتهكي القانون، وفك ارتباط أمراء المناطق بها عبر إنشاء
وزارة للحكم المحلي، وتمكين جهاز هيئة التحقيق والادعاء
العام من الاستقلالية الواجبة. كذلك المطلوب حماية الحياة
السياسية في البلاد من (شخصية الشرطي)، عبر سحب الملفات
السياسية المنوطة بوزارة الداخلية إلى جهات سياسية أخرى
ذات صلة، كالديوان الملكي ومجلس الشورى، واعتماد القضاء
المستقل الذي يحتكم إلى قوانين واضحة مرجعاً في حال نشوب
الخلاف. ومن جهة أخرى، العمل مستقبلاً على فك الارتباط
بين منصب وزارة الداخلية وأي منصب سياسي آخر. من الضروري
ايضاً، فك الارتباط بين ملف الأقليات وبين وزارة الداخلية
لتحقيق قيم (المواطنة) و(العدالة)، خصوصاً أنّ النظرة
للأقليات بما هي بؤر قد تشكل خطراً أمنياً يعني شرخاً
قاسياً يضر بالنظام حين يظهر في موقع التفرقة (ما قد يؤثر
على ولاء المواطنين له) ويضر بالأقليات حين يحرمها من
بعض الحقوق.
كذلك، ليس عدلاً أن يفني المثقف المستقل عمره خائفاً
من جهاز (وزارة الداخلية) يريد (عسكرة) المجتمع، تحسباً
من منع من السفر أو اعتقال تعسفي، وأن يصارع كذلك تياراً
يريد أدلجة الإنسان (التيار السلفي). يكفي أن تقف وزارة
الداخلية في موقع الحياد لا الخصم أو الطرف. ويجب أيضاً
النظر في ملف القضاء بجدية، فلا تكون الخصومة السياسية
مع النظام أو ممارسة حرية التعبير حاجزاً يمنع سيف العدل
عن هامة الجور والظلم.
بقيت الإشارة إلى عيب أساس في (شخصية الشرطي): إنّ
اعتقال منال الشريف لقيادتها للسيارة في دولة هي الوحيدة
في كوكب الأرض التي تحول بين المرأة وحقها في حرية التنقل،
دليل على النظرة القاصرة والسطحية التي وضعتنا في موقف
حرج أمام العالم. كيف تخالف منال الشريف الأنظمة فيما
تعلو اتفاقية (سيداو) على الأنظمة المحلية؟ كيف تؤلب منال
الشريف الرأي العام وهي تطالب بحق مستحق؟ ما فعلته (شخصية
الشرطي) مع منال الشريف، هو تكرار لممارسات حصلت مع الناشطين
المطالبين بالإصلاح.
عودة جهيمان إلى أرض الحرمين
أستحضر حكاية جهيمان وجماعته في سياق ما أثير في المملكة
عن ثورة حنين التي فشلت في 11 مارس المنصرم. فشلت قبل
أن تبدأ، وسقطت قبل أن تقف. لم يكن هناك مؤشر واحد على
نجاحها، ومع ذلك فسّر الفشل بوقفة المؤسسة الدينية والتيار
السلفي إلى جانب النظام. وبما أنّ هذه المؤسسة لا تنظر
بارتياح إلى الإصلاح والتحديث، فإنّ المشروع الذي يعزز
المشاركة الشعبية ويمكّن المرأة ويحارب الفساد والتطرف،
ويدعو إلى الحوار والانفتاح، حامت حوله مؤشرات سلبية تشير
إلى تعطله أو تأجيله في إطار رد الجميل للسلفيين على موقفهم
ضد الثورة المزعومة. يبدو قطار الملك عبد الله للإصلاح
متعثراً، مع أنّه يمثل الحد الأدنى من الرؤية الإصلاحية
للسعوديين.
لماذا قدّر للإسلام في المملكة أن يتحدث باسمه أكثر
الناس جهلاً وأبعدهم عن سماحة الدين وقيمه العليا؟ بإمكان
أي باحث مراجعة بعض الفتاوى المنتشرة في موقع شبكة (نور
الإسلام) الإلكترونية أو المواقع الإلكترونية الشخصية
لعدد من المشايخ الذين يعرفهم المواطن السعودي جيداً يوسف
الأحمد، محمد الهبدان، عبد الله الزقيل، سليمان الدويش،
ناصر العمر وعبد الرحمن البراك، وغيرهم.
فمن فتاوى البراك مثلاً تحريم إدخال الرياضة المدنية
إلى مدارس البنات، لأنّها من أدوات التغريب وخطوة من خطوات
الشيطان، تحريم عمل المرأة في وظيفة مسؤول صندوق، ووجوب
مقاطعة الأسواق التي توظفهن، تحريم فتح دور السينما، وإجازة
قتل مبيح الاختلاط بين الرجل والمرأة. البراك الذي يفترض،
على رأي البعض، أن يساق إلى مستشفى الأمراض النفسية، يصفه
السلفيون مثل إبراهيم السكران بأنّه (أهم رمز شرعي لدى
الشباب المسلم المتديّن)!. فتاوى يوسف الأحمد، رافع لواء
(الاحتساب)، مثل آخر على انحطاط الفكر السلفي السائد في
المملكة. فهو يحرّم الاكتتاب في عدد من الشركات المنخرطة
في سوق الأسهم، إما بسبب انخراطها في مشروع التغريب أو
تعاطيها مع البنوك. كذلك، يحرّم التقاط الصور التذكارية
للمرأة مع المسؤولين ولقائهم، وجواز تزويج القاصرات. وفي
الوقت الذي يحرم فيه اليوسف الاحتفال بالمولد النبوي والتهنئة
به، يقول عن الشيعة: (فهو مذهب قائم على الكذب والخرافة
والتقيّة ولعن الصحابة وتكفيرهم...). كذلك حرّم سفر الأطفال
السعوديين إلى مدرسة نادي ريال مدريد لتدريب كرة القدم
لأن في ذلك تسليماً لناشئة الإسلام إلى أهل الكفر!
تلك المجموعة السلفية في بحبوحة من الحركة والتمويل،
فقد أتيح لها تأسيس شبكة من المواقع الإلكترونية المتطرفة،
وتأسيس قناة تلفزيونية هي (الأسرة)، أغلقت لاحقاً، ثم
فتح قناة على موقع يوتيوب. ذلك، على الرغم من أنّها تتحرّك
في إطار فكري جوهره ومضمونه معاداة الملك والإصلاح. فمثلاً،
اتهم يوسف الأحمد خالد التويجري (رئيس الديوان الملكي)
بأنّه سبب الفساد المالي والإداري في البلاد، وأنّه الرجل
الذي يقود مشروع التغريب ويحجب الحقائق عن الملك، ويطالب
بمحاكمته. وقد شاركه في الهجوم سليمان الدويش وعبد الله
الزقيل (الذي وصف رئيس الديوان بــ: البرمكي) وناصر العمر،
وسبقهم جميعاً محمد الهبدان في مقال (من يتخذ القرارات
في بلادنا). كما هاجم ناصر العمر وزير التربية والتعليم
الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد واتهمه بمخالفة الكتاب
والسنّة، ومخالفة الاتفاق بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب
والإمام محمد بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الأولى)،
ومخالفة بيعة الشعب للملك عبد الله، ومخالفة السياسة التعليمية.
أما السبب فهو اجتماع الوزير ببعض الطالبات، وإتاحته ـ
اختيارياً ـ التعليم المختلط في الصفوف الدنيا من المرحلة
الابتدائية. وشارك يوسف الأحمد في الاتهام معتبراً أنّ
الوزير يقود (مشروع إفساد الطالبات واختلاطهن بالرجال
منذ تعيينه). وشارك في هذه الحملة سليمان الدويش في مقال
(هل أوشكت الساعة أن تقوم)، وغيره!
بالتوازي مع الهجوم على وزير التربية والتعليم، لم
تسلم نائبته نورة الفايز من التشنيع. فبالإضافة إلى عدم
الرضى عن تعيينها، تعرضت الفايز لأقسى هجوم من أكثر من
شيخ، وصل إلى حد المطالبة بإقالتها، بسبب زيارتها لإحدى
مدارس البنين (المرحلة الابتدائية). قال سليمان الدويش
في مقاله (شكراً نورة الفايز): (شكراً لها لأنّها أعادتنا
إلى الوراء، وذكّرتنا بموقف المعارضين لتعليم المرأة النظامي،
وجعلتنا نتأمل في سبب معارضتهم. لقد جعلتنا نعترف بفطنة
الممانعين، وبعد نظرهم ..). وتعرّضت الفايز للهجوم أيضاً
لتأييدها قبول البنين في مدارس البنات في الصفوف الدنيا
من المرحلة الابتدائية. وقال يوسف الأحمد في صحيفة (سبق)
الإلكترونية في 21 يونيو 2009: (ثبت علمياً أنّ تدريس
المرأة للبنين يزيد هرمونات الأنوثة عند الطلاب، وأنّها
من أهم أسباب وجود الجنس الثالث في الفيليبن)!
واتهم يوسف الأحمد أيضاً وزير العدل الدكتور محمد العيسى
بأنّه خالف الشريعة حين طبق الأمر الملكي، وأكد اختصاص
وزارة الثقافة والإعلام بالنظر في قضايا الإعلام والنشر،
لا المحاكم الشرعية. كما كان وزير الإعلام السابق إياد
مدني، هدفاً مستباحاً للهجوم. وأصدر محمد الهبدان بياناً
(وقّع عليه العشرات) يصف فيه وزارة الثقافة والإعلام في
عهد مدني (بتبنّيها وإصرارها على نشر ما حرّم الله من
الفكر المنحرف... والسعي الى نشر الفساد والرذيلة وبث
الشبهات بين أبنائنا وبناتنا، وحمل لواء الدعوة إلى تغريب
المجتمع؛ كالدعوة إلى التبرج والسفور، والاختلاط المحرم،
وقيادة المرأة للسيارة، وإنشاء النوادي النسائية، وفتح
دور السينما، وعروض الأزياء، ومسابقات ملكات الجمال، وإبراز
المرأة المتبرجة والمخالطة للرجال في العمل على أنّها
مثال المرأة السعودية). لم يسلم وزير الثقافة والإعلام
الدكتور عبد العزيز خوجة هو الآخر من الهجوم. زاره يوسف
الأحمد في وزارة الإعلام، وتحدث عن (دعم الوزارة لمشاريع
تغريب المجتمع السعودي من خلال التلفاز والصحافة والإذاعة
ومعرض الكتاب، وأنّ الوزارة لا تلتزم بالأحكام الشرعية
ولا بالأنظمة الرسمية).
واستمر يوسف الأحمد في فتاواه وانتقاداته، فرأى أنّ
مشروع الملك عبد الله للابتعاث الخارجي للتعليم (مشروع
علماني تغريبي)، فيما تحدث محمد الهبدان عن (خطورة تسويق
وترويج الابتعاث). كما أعلن ناصر العمر أنّه وجّه خطاباً
للملك يحذّر فيه من خطورة ابتعاث الطلبة السعوديين إلى
الغرب. ولم يسلم مشروع الابتعاث من هجوم سليمان الدويش.
وفي موضوع المواطنة، يتجلى موقف الشيوخ هؤلاء العنصري
من الشيعة. ويستطيع القارئ الاطلاع على البحث المقزز لناصر
العمر (واقع الرافضة في بلاد التوحيد)، في المواقع الإلكترونية.
من جانبه، أراح عبد الرحمن البراك نفسه وأفتى بتكفير الشيعة،
فيما كان الدويش أكثرهم لطفاً حين قال: (أكره الشيعة وأستخدمهم)!!
ترفع وزارة الداخلية شعار (الأمن الفكري)، في مواجهة
فكر التطرف والإرهاب. مصطلح ضبابي يوحي بالأحادية وعسكرة
الفكر. ومع ذلك، أتساءل تحت مظلة (الأمن الفكري) عن السماح
للأحمد والعمر والدويش، ورفاقهم، باستباحة البلاد، صوتاً
وصورة وكتابة، والتحرك داخل الأراضي السعودية، على رؤوس
الأشهاد، لبث الأفكار المتطرفة. أتساءل أيضاً عن الصمت
الرسمي إزاء إعلان الأحمد في مايو 2010، تأسيس جماعات
احتسابية (ميليشيا) في كل أنحاء المملكة، تتبع له شخصياً،
وتصل وقاحة المحتسبة في مارس 2011 إلى التعدي على أعراض
الناس، وضيوف المملكة، في معرض الرياض الدولي للكتاب.
إذا كان لبرنامج (الأمن الفكري) من جدوى، فليبدأ بهؤلاء،
وينصح البعض البرنامج بالاستعانة بخيرة الأطباء النفسيين،
لمعالجة هؤلاء المتطرفين من أمراض جنون الارتياب ورهاب
الغرب والهوس الجنسي، وليس أدل على ذلك فتوى يوسف الأحمد
بهدم ومن ثم إعادة بناء المسجد الحرام لمنع الاختلاط!
يقتضي الأمن الفكري أيضاً التنبه للمواقف التي تشرّع
استخدام العنف ضد المواطن، كالحديث بأنّ من أسباب الإرهاب
استفزاز الصحافة الليبرالية للشباب المسلم. لقد أصبح هذا
الفكر المتطرف والسكوت عليه هو المستفز للمجتمع والمسيء
للإسلام والمحرج للنظام والمثبط لمشروع الدولة، ومن المحزن
استخدام الأمير خالد بن طلال، كأداة في مشروع التطرف،
كما يلاحظ المتابعون من خلال موقعه الإلكتروني (لجينيات).
حين أعلن النظام تنظيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر في 1962، جاء في بيان حكومة رئيس الوزراء الأمير
فيصل بن عبد العزيز: (إصلاح وضع هيئات الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بما يضمن اجتثاث بواعث المنكر من قلوب
الناس ما استطعنا لذلك سبيلاً). يشير النص إلى احتكار
المنكر في قلوب الناس، واحتكار الفضيلة للهيئة ورجال الدولة.
وبالتالي، منحت (الهيئة) سلطة التفتيش على القلوب والنوايا.
يدور الزمان، ويتفاقم الاستياء من جهاز الهيئة، فيقوم
النظام بتهذيب سطوته، لتظهر فئة أكثر تطرفاً تدّعي السلطة
على عقول الناس وقلوبهم، بذريعة (الاحتساب). لن نتمكن
من مواجهة هؤلاء المتطرفين إلا بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وتأسيس برلمان منتخب، وصحافة حرة، وقضاء
مستقل، لتقوم هذه الأجهزة بتحقيق الإصلاح ومواجهة الفساد
والتطرف.
إنّ ظاهرة (المحتسبين)، وما رافقها من حراك، جديرة
بالتوقف ملياً. فاستباحة أعراض الناس وكراماتهم، في معرض
الرياض للكتاب، تذكّر بـ (الجماعة السلفية المحتسبة)،
ويفترض أن يقف النظام ضد هذه الظاهرة كي لا تتكرر حادثة
جهيمان. ظاهرة (الاحتساب) هي مقدمة لصنع جهيمان جديد.
لا تعايش بين منطق (الدولة) ومنطق (التطرف). لن يتمكن
النظام من تلبية مطالب المحتسبين، لأنّ النتيجة هي التحوّل
إلى (طالبان)، ولن يتمكن المتطرفون من السكوت، وسيلجأون
من الإنكار بالقول إلى الإنكار بالفعل. استجابة النظام
لمطالب المتطرفين، تعني منحهم مشروعية اجتماعية للتوسع
والاستقطاب.
ثمة خطوات حدثت بعد 11 مارس ستعزز فكر التطرف، منها
إقالة أحمد قاسم الغامدي من رئاسة هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في مكة بسبب موقفه المؤيد للاختلاط.
كان قرار الإقالة مريباً، فقد أقيل الغامدي قبل ذلك، وتدخل
الديوان الملكي وألغى القرار، لكنّه هذه المرة بقي وحيداً.
بالإضافة إلى ذلك، هناك إحالة ملف حملة (سأقود سيارتي
بنفسي) إلى القضاء. هذه الإجراءات لم تردع المتطرفين،
فزارت مجموعة من الدعاة المتطرفين ـ منهم ناصر العمر ومحمد
الهبدان ويوسف الأحمد ـ في مايو 2011، الديوان الملكي
وسلمت خطاباً يتضمن مطلبين: إقالة وزير التربية والتعليم،
وفصل تعليم البنات عن وزارة التربية وإعادته إلى المشايخ،
وكأنّ المطلوب في النهاية دولة (ولاية الفقيه السني).
وفي السياق نفسه، أعلن الملك تعديل نظام النشر في 18
مارس 2011، بحيث يمنح المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء
حصانة إعلامية من التجريح الشخصي. لم تتلق الأوساط الفكرية
والصحافية التعديلات بارتياح، لأنّه لم يتم أي تجريح شخصي
للمفتي أو أعضاء هيئة كبار العلماء في الصحافة، لكن مناقشة
الآراء المتطرفة التي صدرت من بعض الوعاظ أو العلماء ونقدها.
وحين انتقدت الصحافة الوعاظ والعلماء، فعلت ذلك إما اصطفافاً
مع النظام عليهم، أو امتعاضاً من تطرفهم الفاضح، وتنفيساً
لتذمر المجتمع المحتقن من الوصاية الدينية السلفية. وصاية
تريد العودة إلى زمن كانت تهان فيه الصحافة بسبب نقد أو
مناقشة خطاب ديني لا يرتبط بالعصر أو بالإسلام.
لن يتمكن النظام من مواجهة فكر التطرف، إلا إذا سار
في الاتجاه المضاد، أي المضي بلا تردد باتجاه دولة المؤسسات
وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان،
واحترام حقوق الفرد، وتمكين المرأة، والحوار والانفتاح
مع الآخر في الداخل والخارج، والتصدي للتمييز بكل أشكاله،
ومحاربة الفساد المالي والإداري. أخشى أن نكون في مرحلة
شبيهة بتلك التي يواجهها الغوّاص في أعماق البحار والمحيطات
حين يفقد اتجاهه ويهبط إلى القاع وقت يظن أنّه يصعد إلى
السطح!
|