دولة (فاقد الشيء يعطيه)!
أعدت قراءة الخبر مرّات عدّة، وتأكّدت أكثر من مرة
من مصدر الخبر، وخلصت إلى أن الخبر صحيح وكذلك مصدره.
يقول الخبر الذي نشر في 12 تموز (يوليو) الجاري: دعا خادم
الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في جلسة
مجلس الوزراء التي جرت يوم الإثنين (أمس) الدول العربية
التي تشهد إضطرابات إلى تغليب صوت الحكمة والعقل ووقف
إراقة الدماء واللجوء إلى الإصلاحات الجادة التي تكفل
حقوق وكرامة الإنسان العرب.
سأفترض أن كل شيء قيل قبل ذلك وبعده في بيان مجلس الوزراء
وعلى لسان الملك هو مجرد كلام مباح يقال في مناسبة وغير
مناسبة، كالتأكيد على التضامن الوطني والإسلامي، وتشجيع
الشعوب على حب الخير والسلام، على أساس أن هذه الموضوعات
لا أثمان فيها ولا خسائر معنوية فضلاً عن الخسائر المادية
المعدومة..
ولكن الأمر غير ذلك مطلقاً. والسبب ببساطة أن ثمة عقلاً
سياسياً مأزوماً يدير الدولة السعودية، وهذا العقل يفترض
أن ثمة وصاية تكوينية ورثها الملك عن أبيه عن أجداداه،
ويفرض هذا العقل نمطاً من التعاطي مع كل شيء في العالم
ودوله..أدلة عديدة يقدّمها العقل السياسي السعودي على
أن ثمة مركب نقص يعبّر عن نفسه بطريقة أخرى.
حين يصدّق النظام السعودي بأن لديه خصوصية تحميه من
الثورة، يعني أنه في أزمة فطرية، وحين يصدّق بأن لديه
تجارب في الشورى تضاهي ديمقراطية الغرب، يعني أنه يواجه
مشكلة جهل تكعيبي، وحين يوهم نفسه بأن دور المرأة في المملكة
تنافس أدوار النساء في أعرق الديمقراطيات في العالم، نكون
أمام هزلية ساخرة..
لا ريب أن سوق النفاق السياسي رائج، طالما أن لدى آل
سعود عربة دفع أمامي لأموال النفط، فهناك كثرّ من هم على
استعداد لبيع آل سعود مواقف في الإطراء في مقابل الحصول
على نصيب من المال..وحده المال الذي لا يستثني أحداً،
فطريقه مفتوح إلى عقول ونفوس الأفراد عامة، صغيراً أم
كبيراً غنياً أم فقيراً، حاكماً أم محكوماً..هل من مغزى
لكلام الرئيس أوباما عن حكمة الملك عبد الله في بداية
تقديم أوراق اعتماده لدى القيادة السعودية، وهل ثمة تفسير
لإنحناء رئيس أكبر دولة لملك دولة صغيرة في ميزان القوى
الاستراتيجي..
نعود الى أصل الخبر، السعودية تدعو الدول العربية الى
اللجوء الى الإصلاحات الجادة، حسناً، كلام في غاية الرقي
الحضاري والاصلاحي الذي لو انتظرنا قرناً آخر لن نسمع
مثل هذا التصريح..ولنا هنا وقفة استثنائية: فهذه أول مرة
نقرأ فيها كلمة (اصلاح) التي اختفت منذ اعتقال الرموز
الإصلاحية في آذار (مارس) 2004..نبّهني أحد المتابعين
غياب كلمة (إصلاح) منذ لحظة تولّي الملك عبد الله العرش
في أغسطس 2005، وهذا صحيح تماماً، فمال الذي أعاد الكلمة
الى الحضور مجدداً في تصريحات جلالته.
حسناً، الإصلاحات وجادة أيضاُ، نعمة لا نستحقها من
رجل ارتدى لباس المصلحين وهو ليس منهم. لم نسمع عن دعوة
الإصلاح هذه حين كان الشعب المصري يوصل الليل بالنهار
للمطالبة بالحرية والتغيير، بل ظهر علينا من هذه الدولة
من أفتى بحرمة (التظاهر)، وحين اقترب أجل (الريّس)، ثار
الملك، الإصلاحي المزعوم، من أجل الحفاظ على ماتبقى من
كرامة مبارك، كي لا يسقط بدونها تماماً، وعاتب الرئيس
الأميركي كونه ترك حليفاً استراتيجياً ينوء بمصيره، ولم
يمدّ له حبل الإنقاذ، وكذا فُعِل بمن سبقه في تونس، الذي
كاد الوقود ينفد من طائرته لولا أن ?داركه آل سعود..
كما يبدو، فإن دعوة الملك عبد الله في حال تقليبها
ظهراً على بطن لن نجدها تنطبق سوى على سورية، لأن السعودية
وهي تقود الثورة المضادة، ترفض الانتقال الديمقراطي في
اليمن، ورفضت ذلك بقوة السلاح في البحرين، وعارضته في
مصر وتونس، وهي لا تكترث لما يجري في ليبيا من قتال أو
تحوّل ديمقراطي برائحة الدم، ما لم يؤل الى رحيل القذافي،
وليس ذلك من باب افساح في المجال لدخول الديمقراطية، ولكن
بسبب عداوة شخصية بين الملك والعقيد..
وسواء كان المقصود سورية أم غيرها في تصريح الملك،
فإن السؤال الكبير الذي يداهمنا في هذه المساحة الضيقة
هو: هل أنهى آل سعود مهمة الإصلاح في الديار حتى يفيضوا
به على الجوار، وهل أن مجرد الصمت المريب والمشوب بكل
درجات الحذر في الداخل، في ظل سخط شعبي عام، لا يمكن التكهّن
بتمظهراته في الخارج، يعفي الملك أو الأمراء الكبار من
استحقاقات تاريخية واجتماعية وسياسية لا يمكن الفرار منها،
عن طريق تقديمات إجتماعية نسي الجميع آثارها، إن كان لها
آثار، ولا يمكن أن تكون بديلاً عن الإصلاحات السياسية..
المشكلة لدى آل سعود ليست في وتيرة الإصلاح البطيئة،
وإنما في عكسها تماماً، فما جرى في 17 آذار (مارس) الماضي،
كان عبارة عن ردّة إلى ما قبل الدولة، ونكهوص لوراء خط
البداية في مشروع الإصلاح السياسي لأي دولة. فهل يمكن
بتعزيز دور المؤسستين الأمنية والدينية أن يشق درب الإصلاح
مثلاً، وهل يمكن أن تخرج من النار برداً، أو تصنع من الثلج
ناراً، أو تعطي ما لاتملك، ولكن في زمن آل سعود يصبح كل
شيء جائزاً!
|