حكم الإرهاب في بلد مكافحة الإرهاب
محمد قستي
لماذا تريد السعودية سنّ قانون لمكافحة الإرهاب؟
التساؤل ليس مشروعاً فقط، بل له علاقة بشيء من المنطق
في تحليل الخطوة السعودية التي أقدمت عليها حين قدمت وزارة
الداخلية مشروع قانون لمكافحة الإرهاب لمجلس الشورى ليعلّق
عليه وليصدّقه ويصبح نافذاً. كان ذلك في يوليو الماضي،
وقد حصلت منظمة العفو الدولية على نسخة منه، وعرضتها في
موقعها الإلكتروني، وأصدرت بياناً مندداً بالمشروع، كونه
يتجاوز أبسط معايير حقوق الإنسان، ما دفع بالحكومة السعودية
الى حجب موقع المنظمة على الإنترنت.
في بلد يتجاوز عدد معتقليه تحت تهمة ممارسة الإرهاب
الثمانية آلآف شخص (الحقوقيون في السعودية يقولون ان الرقم
تجاوز العشرين ألفاً).
وفي بلد تمارس فيه السلطات الأمنية كل ما ترغب فيه
من بشاعات دون رادع من قانون، سواء في مرحلة الإعتقال
الذي هو تعسفي، وانتهاءً بالمحكامات الجائرة، مروراً بممارسة
التعذيب والإعمال المخلّة بالكرامة الإنسانية داخل السجون.
وفي بلدٍ لا تؤمن فيه السلطات الحاكمة بأهمية القانون،
أيّ قانون، كونه يصبح قيداً على النظام وأمراء العائلة
المالكة، أو على الأقلّ يصبح حجّة بيد من تراهم من الخصوم
على ممارساتها المستبدّة.
وفي بلدٍ لم يلتزم يوماً بقوانينه وتشريعاته هو المتعلقة
بالقضاء والتقاضي، كما هو الحال مع (الإجراءات الجزائية)؛
كما لم يلتزم يوماً بالمعاهدات الدولية التي صادق عليها،
والتي يفترض أن تكون جزءً من التشريع الوطني.
وفي بلدٍ توجد فيه من التعليمات والأوامر ما يكفي لتلبية
رغبة أجهزة القمع لتمارس ما تريده، وتطلق يدها في كل شأن،
بما في ذلك العبث بالقضاء..
لماذا ـ إذن ـ تدفع السعودية بمشروع قانون لمكافحة
الإرهاب؟ ما هي حاجتها الماسّة إليه؟ ما هي الرسالة التي
تريد أن توصلها؟ ولمن؟ أهي الى الجمهور الذي يدرك أنه
لا حقوق له، بل واجبات وأوامر عليه أن ينصاع اليها؟
إذا كان كل شيءٍ محرّماً؛ وكل أنواع الحريات مستباحة
وتدخل ممارستها في باب التآمر على النظام وممارسة عمل
الإرهاب في النهاية، ما هي الغاية من تقنين ذلك علناً،
وجعله تشريعاً؟ القانون إنما يوضع لتحديد المشروع من الأفعال
من غير المشروع منها؛ أي أنه استثناء من الحلية التامة.
فإذا كانت الحكومة ـ ومؤسستها الدينية التابعة لها ـ قد
أوضحتا ما هو غير المشروع، وأنذرت المواطن إن تجاوز ذلك
بعقاب شديد (تطبيق حدّ الحرابة والإفساد في الإرض/ القتل)
فما قيمة قانون يأتي كتحصيل حاصل في بلد مستبد لا يوجد
فيه إلا (المحرمات السياسية) التي ترقى في تصنيفها ضمن
الأعمال الإرهابية؟ بهذا المعنى لا يضيف قانون مكافحة
الإرهاب السعودي شيئاً لمعلومات الجمهور، اللهم إلا عدد
السنوات التي سيقضيها كل فرد إن خالف نصوصه، وهي تقفز
خمساً خمساً ولا يوجد رقم بينهما (5 سنوات، 10، 15، 20،
25 سنة)!
لم يأت قانون مكافحة الإرهاب السعودي بسبب ضغط خارجي،
فالسعودية قد أمنت ظهرها من انتقاد مجلس حقوق الإنسان
التابع للأمم المتحدة، وأمّنت نفسها من النقد من الدول
الصديقة كأمريكا والإتحاد الأوروبي، بل وأمّنت نفسها من
نقد الدول الأخرى كونها ديكتاتورية أو تخاف على تحويلات
مواطنيها العاملين في السعودية. لا يوجد قلق إذن من هذه
الناحية، وبالتالي فإن رسالة قانون مكافحة الإرهاب موجهة
الى الداخل المُسَعْوَدْ.
الحكومة تريد من قانون مكافحة الإرهاب تذكير المواطنين
بالمحرمات السياسية بما فيها المطالبة بالمشاركة السياسية
والتجمعات والتظاهر والإضراب عن العمل، وإفهامهم بأنه
لا توجد حريات في هذا البلد، وبالتالي من العبث المطالبة
بها. لماذا؟ لأن العقوبات ستكون صاعقة، وعدد سنوات السجن
سيكون كبيراً للغاية.
الحكومة لا تزال تعيش صدمة ما سمي بربيع الثورات العربية،
وهي تريد التأكد من أن شيئاً من التأثير لن يتسرّب الى
الداخل السعودي من مصر أو اليمن أو البحرين أو غيرها.
الحكومة لا تخشى القاعدة، فهي قد أعلنت منذ مدّة انها
قضت على معظمها، وهناك تعاطف محلي ودولي للقضاء على رؤوسها.
لكن من تخشاهم الحكومة السعودية حقاً، والذين يستطيعون
أن يقوموا بأمور لا تستطيع القاعدة المتطرفة القيام بها،
هم الناشطون السياسيون والحقوقيون السلميون، فهؤلاء كانوا
عصب التغيير والتحرك في كل الإحتجاجات والثورات العربية.
وهؤلاء يجيدون لغة العصر الحقوقي والسياسي، ولا يمكن خداع
العالم بأنهم ينضوون تحت الجناح الإرهابي، ويمارسون أعمالاً
إرهابية؛ وقد جربت الحكومة ووزارة داخليتها ذلك، وألصقت
تهمة الإرهاب بدعاة الإصلاح عام 2003، ثم كررت الأمر بالنسبة
لمعتقلي جدّة الإصلاحيين عام 2007؛ حيث اتهمت الأخيرين
بنحو 63 تهمة، كثير منها يصبّ في خانة دعم الإرهاب وتمويله
واسقاط النظام بالقوة وغير ذلك من الترهات، ولكن أحداً
حتى الآن لم يصدّق تلك التهم.
وزارة الداخلية السعودية توجه من خلال قانون مكافحة
الإرهاب رسالة الى الناشطين الكثر حقوقياً وسياسياً بأنها
لهم بالمرصاد، وأن بيدها سلاحاً جديداً يوسّع من صلاحياتها
لقمعهم. لكن العائلة المالكة، تصورت بأن قانونها لمكافحة
الإرهاب لن يثير عليها النقمة والتهجم والإحتجاج، فهي
اعتقدت بأن الغطاء الغربي لتجاوزاتها سيستمر، وهو كذلك
حقاً، وهي اعتقدت بان العالم بما فيه المنظمات الحقوقية
الدولية ستصمت أو ستكون ردة فعلها ضعيفة لأن الموضوع برمته
(موجّه للإرهاب) واعتقدت بأن ذلك سينطلي على الآخرين ولن
تفهم الغايات من تجاوزاتها، ولكن هذا لم يحدث.
كانت الحكومة السعودية مستعدة لدفع بعض الثمن من سمعتها،
ولكن المهم بالنسبة لها هو تمرير القانون، وقد أدّى كشفه
والتنديد به قبل المصادقة عليه من مجلس الشورى المعين
(الخيخة)، الى ما يشبه الفضيحة بسبب النصوص التي لم ترد
بالسوء الذي وردت في القانون السعودي في أي قانون آخر
لمكافحة الإرهاب. مع ملاحظة أن كثيراً من الدول وضعت قوانين
استثنائية لمكافحة الإرهاب، وكلها واجهت نقداً شديداً
في بلدانها، وخارج بلدانها، بما في ذلك الدول الغربية
نفسها، حتى لو تمت المصادقة عليها من قبل البرلمانات.
يبقى القول بأن قانون مكافحة الإرهاب السعودي والذي
حوى نصوصاً عجيبة، وعقوبات فاضحة، تقصّد حلّ بعض المشكلات
الجانبية ورفع الحرج عن الحكومة، خاصة فيما يتعلق بالمعتقلين
لديها. فهؤلاء الآلاف المؤلفة من البشر حوكم الكثير منهم
وصدرت الأحكام بحق العديد منهم في سرية تامة ودون توفير
المحاكمة العادلة، وبلغت بعض الأحكام (السجن لأربعين سنة
فقط!!). لكن بقي آلاف آخرين لم يحاكموا حتى الآن رغم مرور
أكثر من تسع سنوات على اعتقالهم. وقانون الأحكام الجزائية
ـ الذي لا تطبقه الداخلية ولا تلتزم به ـ يوفر لأجهزة
الأمن ستة أشهر فقط، فكيف سيكون حال المدة الباقية إن
لم يظهر أحد قد اعتقل خطأ، أو أن عقوبته أقل من تلك المدة
التي بقاها فعلاً في السجن (9 سنوات)، وحتى لو صدرت على
الجميع أحكام بعقوبات تزيد عن المدة التي قضوها فعلاً
حتى الآن، فهناك مخالفة لنص قانوني غير قابل للطعن. هنا
تفتقت العبقرية الحكومية، فعبر قانون مكافحة الإرهاب،
سيكون المدانون بسنوات طويلة، وبهذا يتم التخلص من المشكلة
من جهة. وفي حال وجد من يسعى لرفع دعوى على الحكومة لأنها
لم تلتزم القانون، فهناك مادة في قانون مكافحة الإرهاب،
تقول بانه يجب التظلم مباشرة الى وزير الداخلية، فإن اقتنع
ارسل بالشكوى الى القضاء!!!
وبشكل عام، فإن قانون مكافحة الإرهاب السعودي والذي
يحرم التجمع لأكثر من شخصين، والذي يخنق حرية التعبير،
والذي يحيل أي تجاوز الى جريمة إرهابية، والذي يعتبر العمل
السياسي طعناً في النظام وبالتالي يدخل في دائرة المحظور
الإرهابي.. هذا القانون لا يضيف شيئاً كثيراً لنظام مستبدّ
اعتاد التفلّت من كل القيود الأخلاقية والدينية والقانونية.
ولعلّ ـ نقول لعلّ ـ إصدار القانون، وما جرى حوله من نقاش
ولغط وتنديد، شكّل ضرراً للنظام أكثر مما أربحه، كونه
فتح العيون على أوضاع حقوق الإنسان في السعودية، وما يمكن
لنظامها الإستبدادي أن يفعل من خلال إصدار تشريعات تتناقض
مع شرائع الكون الأرضية والسماوية.
هنيئاً لآل سعود بهذا القانون. إنه حقاً يعكس وجههم
الكالح، كما يعكس فكرهم الظلامي، ومدى القمع الذي يمكن
أن يذهبوا فيه باتجاه خنق أية نواة للتعبير الحرّ.
|