15 مليار دولار لتمويل حملة الناتو العسكرية
السعودية وإسقاط النظام في سوريا
عبدالحميد قدس
ليس جديداً القول بأن السعودية لم تشعر بالإرتياح من
النظام السوري منذ أمدٍ بعيد يقارب عمر الدولة السعودية
الحديثة. فحين تولّى الملك فيصل ابن الشريف حسين حاكم
الحجاز، حكم سوريا بعيد هزيمة العثمانيين، وقبل أن ينتقل
فيصل هذا الى حكم العراق بعيد ثورة العشرين من القرن المنصرم،
كان السعوديون ممتعضين من وصول العائلة الخصم ـ والتي
لم تفقد حكمها للحجاز بعد ـ الى سدة السلطة في بلد كبير
كسوريا، فضلاً عن العراق فيما بعد. ويومها طرح ابن سعود
(الملك عبدالعزيز) ـ وكما تحكي الوثائق البريطانية نفسها
ـ على الإنجليز بأن يستبدلوا فيصلاً بفيصل آخر! أي يطاح
بحكم فيصل بن الشريف حسين، ويعيّن فيصل بن عبدالعزيز آل
سعود حاكماً على سوريا! وفيصل هذا الأخير لم يكن يبلغ
من العمر سوى 15 عاماً فحسب. الإنجليز قالوا لصنيعتهم
ابن سعود بأن هذا أمرٌ لا يقدرون عليه، فحكم سوريا صار
الآن ـ وحسب اتفاقات سايكس بيكو ـ من نصيب الفرنسيين،
وهم الذين سيتولون الأمر مباشرة. وفعلاً تمت الإطاحة بحكم
فيصل، وقبلها كانت معركة ميسلون الخاسرة للمناضلين السوريين
ضد القوات الفرنسية.
ما يهمنا في هذه الإطلالة التاريخية، هو التأكيد على
أن طموح آل سعود كان يتجاوز حدود مملكتهم الحالية ليصل
الى الدولتين الكبيرتين (سوريا والعراق)، وقد تأسس هذا
الطموح لا على أساس قوّة القوات السعودية الإخوانية/ الوهابية
المتطرفة، بل على أساس الدعم الذي يمكن أن يتأتّى من التحالف
مع القوة العظمى بريطانيا يومها، والتي كان يسميها ابن
سعود ويا للغرابة (أقوى قوة إسلامية) وهو الذي لم يعترف
بإسلام أحدٍ خارج حدود نجد، كما تقتضي مواقف المذهب الوهابي.
في عام 1915، حين أراد الإنجليز تحديد الحدود السعودية
الكويتية، والسعودية العراقية، اجتمع ابن سعود مع بيرسي
كوكس قائد الحملة الإحتلالية البريطانية على العراق، وهنا
تنازل كوكس وفي غياب ممثلين عن الكويت من آل الصباح، وفي
غياب أي تمثيل عراقي، تنازل عن ثلثي الكويت لابن سعود،
كما تنازل عن مساحات شاسعة من الأراضي العراقية لصالح
نجد. ولكن ابن سعود، وكما تحكي الوثائق البريطانية، وكما
يحكي أيضاً من حضر الإجتماع من الإنجليز (المعتمد السياسي
في الكويت، هـ. ر. ديكسون في كتابه الكويت وجاراتها) بكى
بكاءً مرّاً بحضور بيرسي كوكس، وقال له بأنه (أي كوكس)
أمه وأبوه، وأنه وعده بأن يعطيه الشمس بيد، والقمر بيد
أخرى، والآن هو أخذ نصف مملكته (أي مملكة ابن سعود) وأن
حدود نجد تقف عند شطّ الفرات، الذي تشرب منه بعارينه!.
هنا وكما يقول ديكسون، وبّخ بيرسي كوكس، ابن سعود (كتلميذ
وقح) حسب تعبيره، وقال لابن سعود بأنه أعطاه ثلثي مساحة
الكويت، وأنه لا يعلم كيف سيكون وقع ذلك على ابن الصباح
حين يعلم بالأمر.
تشعر السعودية بأن العراق وسوريا بلدان منافسان يجب
أن يحكما من قبل نجد. ولآل سعود رغبة جامحة للسيطرة على
اليمن أيضاً لأنه كان هو الآخر أكثر غنى من مملكة نجد،
وبه حكم ديني زيدي منافس، وبه من السكان ومن القوة ما
قد يحدّ من النفوذ السعودي، أو يضرّ به. وإزاء هذا، نلاحظ
أن علاقة السعودية مع اليمن اتخذت طابع العداء في عهد
الإمامة الذي انتهى عام 1962م، وطابع الإستتباع السياسي
والإستغلال المذهبي منذ ما بعد انسحاب القوات المصرية
من اليمن بعيد حرب عام 1967، حيث تفردت السعودية بالنفوذ
وأخذت تملي على اليمنيين من يحكمهم، وتقتل من يتمرد عليها
كما حصل للرئيسين الحمدي والغشمي؛ ولازالت الى اليوم تتصرف
مع اليمن كتابع، وهذا يفسر موقفها من الثورة اليوم التي
قد تهدد النفوذ السعودي هناك وللأبد.
بالنسبة للعراق، فقد ناصبته السعودية العداء منذ أن
كان ملكياً تحت حكم الهاشميين منذ ثورة العشرين وحتى إسقاط
الحكم الملكي عام 1958م على يد عبدالكريم قاسم. ثم واصلت
سياسة العداء للحكام الجمهوريين، الى يومنا هذا. ليست
القضية مذهبية، فقد دخل العامل المذهبي مؤخراً على الموقف
السعودي. فالسعودية كانت ضدّ حكم السنّة في العراق أيضاً
طيلة عقود، وهي التي ساهمت في إسقاط نظام صدام حسين بالتعاون
مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب. القضية هي العراق
ذاته كدولة لا يريد لها السعوديون أن تنهض من تحت الركام،
ولا أن تنافس سياسياً وأمنياً وعسكرياً النفوذ السعودي
على مستوى منطقة الخليج أو على مستوى العالم العربي، وبالخصوص
مشرقه.
أما سوريا ما بعد الإستقلال، فقد تناوشتها الإنقلابات،
وقد ساهمت السعودية في بعضها، خاصة انقلاب سامي الحنّاوي
على حسني الزعيم. وكان لشركات النفط الأميركية العاملة
في السعودية دوراً في ذلك فيما يتعلق بتمديد خط التابلاين
لتصدير النفط من موانئ على البحر المتوسط (انظر تفصيل
الدور السعودي في كتاب: حبال من رمل). وكانت سوريا مستهدفة
في فترة الوحدة مع مصر، حيث عداء السعودية لكلا البلدين
قائم على أشدّه. ويومها دفع الملك سعود للضابط عبدالحميد
السراج مبلغ عشرين مليون دولاراً (تم الكشف عن صورته)
لتدبير اغتيالات لقادة البلدين وتخريب الوحدة. فيما بعد
الإنفكاك بين مصر وسوريا أصبحت الأخيرة ملجأ للمعارضة
السعودية في فترة الستينيات الميلادية، ولكن هذا الملجأ
تعوّق بوصول حافظ الأسد للحكم، حيث مدّ يد العلاقة الى
السعودية، وحاول فتح صفحة جديدة معها، وأوقف الإعلام المضاد
لها، وبدا للسعوديين أن الأسد الأب يمكن أن يقدّم لهم
شيئاً ما، وأن ينسقوا سياساتهم معه، وأن يقبل بالخضوع
النسبي للسياسة السعودية.
لكن وحتى في غمرة التعاون السعودي السوري بشأن قضايا
المنطقة، وفي مقدمها دخول قوات الردع العربية (وبالذات
السورية) الى لبنان الذي ابتلي بحرب أهلية منتصف السبعينيات
الماضية، فإن السعودية لم تحصل على الكثير الذي كانت تؤمله
من نظام الحكم في دمشق، وكانت تشعر بتضادّ معه في الموقف
في أكثر من قضية، ولكن الطرفين معاً وجدا أن نمط العلاقة
بينهما مفيد لكليهما مع وجود مساحة لكل منهما بالتعبير
عن مصالحه الخاصة، مع وجود يد عليا للسعودية، خاصة في
حقبتها الإستعلائية السيادية التي جاءت بعد موت عبدالناصر،
وبعد عزل مصر بعد زيارة السادات الى القدس.
بدا ان العلاقات تطورت بعيد احتلال العراق للكويت،
ومشاركة القوات السورية في محاولة إخراجه. لكن ذلك لم
يكن تطوراً في الحقيقة، فالسوريون حسبوها سياسياً، وكانوا
مهتمين بالثمن الذي سيقبضونه سياسياً فيما يتعلق باستعادة
الجولان باتفاق مع الولايات المتحدة نفسها التي وعدت بمؤتمر
سلام (مدريد بعدئذ) لحلّ القضية الفلسطينية. ولذا لم تتطور
العلاقة بعيد المشاركة السورية، ولم تحصل سوريا على الثمن
المناسب بمشاركتها السياسية والعسكرية في إخراج القوات
العراقية من الكويت. وما هي إلا سنوات قلائل حتى عادت
العلاقة الى البرود من جديد، وجمّد السعوديون مساعداتهم
لسوريا منذئذ، أي قبل أن يموت الرئيس السوري حافظ الأسد
نفسه.
أكثر من هذا، فإن هناك دليلاً صارخاً على أن السعودية
يومها كانت مهتمة بركوب ظهر مبارك، واستعادة مصر الى جانبها
كمتراس وكجسر لسياستها الخارجية، بدلاً من التعويل على
النظام الذي تكنّ له الكراهية في دمشق. تشير وثيقة أميركية،
نشرت في أحد أعداد مجلة الحجاز، بأن السعوديين وفي بداية
التسعينيات الميلادية الماضية، وكانت القوات السورية للتوّ
قد عادت من مشاركتها في الحملة العسكرية على القوات العراقية
في الكويت، نسّقوا مع المخابرات الإسرائيلية من أجل الإطاحة
بحكم حافظ الأسد عبر تمويل ودعم انقلاب عسكري يطيح به.
تكرر الأمر في خريف 2008، حيث أفشلت الحكومة السورية مخطط
انقلاب عسكري مموّل سعودياً يطيح بالأسد الإبن.
|
احتجاجات سوريا الى أين؟
|
مالذي يزعج السعودية؟
جوهرياً، فإن النظام في سوريا يختلف عن النظام السياسي
في السعودية. ليس في الشكل فحسب، بل في المواقف وفي النظرة
التفصيلية كما الشمولية لمجمل القضايا العربية، كما ويختلف
معه حول الدور الذي وضعه النظام السوري لنفسه وهو يتصادم
مع الدور والنفوذ السعودي. لا نحتاج الى مقارنة تفصيلية
بين النظامين السياسيين وأيديولوجيتهما، وتحالفاتهما،
وما أشبه. يكفي القول بأن النظام في سوريا ليس مطواعاً
في السياسة كما تبتغي السعودية، وهو لا يسلّمها الدور
الكامل ـ وإن احتفظ لها بحصّة غير قليلة منه تقلّصت فيما
بعد ـ لقيادة زمام العالم العربي، خاصة في العقدين الأخيرين.
سوريا كانت محسوبة على المعسكر الإشتراكي، والسعودية
تقف في الخندق الأميركي الغربي المضادّ. وسياسة المحاور
كانت متفهمة الى حدّ بعيد في الماضي، ولكن من البديهي
أن تنتصر الأخيرة لموقفها.
وسوريا مع المواجهة لاستخلاص حقوق العرب، ولا تقبل
بالتسويات السياسية المذلّة التي تضيّع الحقوق، في حين
أن السعودية على عكس ذلك تماماً، أخذت وجهة النظر الغربية،
وعلّقت المقاطعة لإسرائيل، وموّلت مشاريع التسوية في مدريد
وأوسلو وغيرها.
وسوريا التي استشعرت فداحة خروج مصر عن الركب العربي
في عهد السادات، وجدت فرصة لشدّ أزرها بالثورة المنتصرة
في إيران لسد الخلل الإستراتيجي في مواجهة إسرائيل؛ في
حين أن السعودية اعتبرت الثورة في إيران خصماً لدوداً
يجب التعامل معه بالمقاطعة السياسية وبالحرب الإقتصادية
وحتى العسكرية.
وسوريا ـ خاصة في ظلّ عدم تكافؤ القوى العسكرية مع
اسرائيل ـ وجدت من استراتيجيتها دعم القوى الفلسطينية
واللبنانية المواجهة للإحتلال الإسرائيلي، في حين أن السعودية
ناصبت تلك القوى العداء الشديد ولازالت، تماشياً مع الموقف
الأميركي، الإسرائيلي، الغربي عامة.
وسوريا التي كان بإمكانها الهيمنة على القرار اللبناني
كاملاً بداية التسعينيات الميلادية الماضية، ارتضت مناصفة
السعودية النفوذ، ومن هنا صعد نجم الحريري الأب الذي تمّ
تصديره من السعودية (وكان بالمناسبة وعائلته يحملون الجنسية
السعودية) ليصبح رئيساً للوزراء، في حين أن السعودية كانت
تريد الإستفراد بالقرار اللبناني، وهي غير قادرة عليه.
مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، كان واضحاً أن
الخطاب السياسي لكلا البلدين قد ابتعدا كثيراً. فالسعودية
التي كانت تشعر بوطأه الخطاب السياسي السوري فيما يتعلق
بالقضية الفلسطينية، غيّرته الى خطاب شديد النعومة والتناغم
مع الخطاب السياسي لمصر مبارك ولواشنطن واسرائيل. حيث
الترويج الى الحل السلمي، والسخرية من دعاة المواجهة والممانعة،
وتحميلهم مسؤولية الإنشقاقات في الصف العربي، ما أدّى
الى تقليص العلاقات بين البلدين، وإيقاف الدعم بالكامل
عن سوريا، فتحررت هذه الأخيرة من الضغوط السعودية أيضاً،
وراحت تنسج لنفسها طريقاً مختلفاً، مؤكدة على مواقفها
السابقة، وتوثيق عرى التحالف مع قوى الممانعة الأخرى أحزاباً
أو دولاً، خاصة إيران.
بخروج القوات الإسرائيلية المحتلّة من لبنان، حقّقت
سوريا انتصاراً سياسياً باهراً. ورأت في ذلك دليلاً واضحاً
على أن استراتيجيتها ومواقفها أفضل مما أنتجه مؤتمر مدريد
واتفاقات أوسلو، وأن العلاقات الإستراتيجية مع قوى المقاومة
قد يشكل بديلاً استراتيجياً ـ إن تطلب الأمر ـ عن الدعم
السياسي من قوى الموالاة (حلف الإعتدال العربي).
بسقوط نظام صدام حسين تصاعد التوتر السعودي ضدّ سوريا.
فقد كانت السعودية تأمل في أن تخنق القوات الأميركية إيران
من جهتين: العراق وأفغانستان، وأن تكسر شوكة النظام في
دمشق المحاذي للعراق. ومع أن الجميع اشترك في إفشال الإحتلال
الأميركي، بمن فيهم السعوديون الذين خافوا من أن نجاح
اميركا في العراق قد يغريهم الى التمدد الى السعودية وليس
الى سوريا وايران فحسب، فأرسلوا عناصر القاعدة الى هناك
للتفجير والتخريب ولازالوا!
لكن سقوط صدام حسين، والذي ساهمت السعودية فيه، تكفيراً
ربما عن مشاركة أبنائها في تفجيرات نيويورك وواشنطن، ولاستعادة
ثقة الأخيرة بها من جديد.. مثل عنصر توتر في العلاقة بين
الرياض ودمشق على حدّ سواء. فبدلاً من أن تخسر طهران مواقعها،
وترضخ للمشيئة الغربية، إذا بها تتمدّد، وتكسب العراق
على حساب السعودية وأميركا المحتلّة. هنا ظهرت مقولات
طائفية في السعودية تنسب الى الامير عبدالله (الملك حالياً)
يقول فيها لعدد من زائريه بأن بلاده لا تقبل بأن تكون
عاصمة العباسيين كما عاصمة الأمويين بيد الشيعة! ومن هنا
حثّ السعوديون الولايات المتحدة على الإطاحة بنظام الأسد
الذي رأوه ضعيفاً، وقدّموا هذه الإقتراحات كما أشارت الى
ذلك وثائق ويكيليكس، عبر وزير الخارجية سعود الفيصل، ولكن
الأميركيين ـ رغم حماقات بوش الإبن الكثيرة ـ لم يكونوا
في وارد الإستماع الى مثل هذه الإقتراحات، التي أخذت تتردد
في مراكز أبحاث بريطانية كانت هي الأخرى تتمنى لو واصلت
واشنطن قتالها الى شوارع دمشق وتحتلها.
تشاء الأقدار، أن فترة ما بعد سقوط صدام، شهدت تمظهراً
للقوة الإيرانية، العسكرية والعلمية والسياسية والعسكرية.
لأكثر من ثلاثين سنة، كان الإيرانيون يهيئون البنية التحتية
للإنطلاق، علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً. وقد تفاجأ السعوديون
بالإعلانات الإيرانية المتكررة لمكتشفات ومخترعات وصناعات
حربية وعلمية، كان الموضوع النووي واحداً منها، فأشعرهم
كلّ ذلك بالقلق على نفوذهم السياسي، وقد أبلغوا الإيرانيين
فيما بعد ـ حسب مصادر سعودية ـ بأن طهران وانطلاقتها السياسية
كقوة إقليمية عظمى، قد أتت على النفوذ السعودي، وكان الأجدر
بها مشاركتها بدلاً من إنهاء نفوذها عبر المنافسة على
المواقع.
ما أغضب السعودية على دمشق في مرحلة ما بعد سقوط العراق
تحت الإحتلال، أنها تنتمي الى حلف استراتيجي يحقق مكاسب
مستمرة، فيما حلف السعودية المتكيء على الولايات المتحدة
يخسر مواقعه الواحد بعد الآخر.
كيف تُسقط الأسد؟!
1/ إخراج القوات السورية من لبنان:
حين تم اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، وجدت السعودية
الفرصة لضرب الحلف الممانع، ووجهت الإتهام ـ كما أميركا
والغرب واسرائيل ـ الى سوريا. وحين زار الرئيس الأسد الإبن
الرياض لتهدئتها ولإعلان براءته من مقتل الحريري، لم تقبل
السعودية كلامه، ووجهت له إهانات شنيعة من قبل الملك عبدالله
كما قيل حينها. والسعودية تدرك اليوم فيما نظن، بأن من
قام بعملية الإغتيال واحدة من جهتين: السلفيون الوهابيون
وبينهم سعوديون، أو إسرائيل. تكفي الإشارة في هذا الى
أن هناك عدداً من السعوديين لازالوا معتقلين حتى اليوم
في لبنان على خلفية اغتيال الحريري، وقد اعترفوا بأنهم
قاموا بعملية الإغتيال، وقد نشرت اعترافاتهم بنصوصها في
الصحافة المحلية اللبنانية (جريدة الأخبار) اعتماداً على
محاضر التحقيق الرسمية اللبنانية الموالية في الأساس الى
السعودية. ونذكر بان مجلة الحجاز نشرت تلك التحقيقيات
بنصوصها وبأسماء الأشخاص المتورطين، وقدّمت تحليلات متعددة
في هذا الموضوع. لكن أحداً لا يريد إدانة السعودية التي
طالبت القضاء اللبناني بتسليمها المتهمين السعوديين لتحقق
معهم في الرياض (هكذا!!)، كما أنها أبلغت معتقليها الوهابيين
بأن ينكروا اعترافاتهم والزعم بأنها جاءت تحت التعذيب!.
كان من المعتقد في حينه أن تبقى ورقة اغتيال الحريري
السياسية بامتياز بيد أميركا والغرب واسرائيل والسعودية
لاستخدامها ضد النظام في سوريا وضد حزب الله، ولو استطاعوا
لحولوها الى حماس وإيران أيضاً وبشكل مباشر! لاعجب أن
تكون السعودية هي الممول الأساس للمحكمة الدولية، ولا
غرابة أن يعرف السياسيون والمراقبون مقدماً اتجاه المحكمة،
ومن ستدين في النهاية!
لكن مقتل الحريري لم ينتج ربحاً للسعودية التي أرادت
من مقتله ورقة تخرج النفوذ السوري كاملاً من لبنان. وتصورت
بأن خروج القوات السورية من هناك، سيضعف حلفاء سوريا،
أو لنقل أعداء أميركا واسرائيل، ولكن ذلك لم يحدث. الذي
حدث هو العكس من ذلك تماماً. فلطالما كانت المقاومة اللبنانية
تعيش وطأة ضغوط القوات السورية، وهي قد تحررت منها فيما
بعد، ولكن ذلك لم يضعفها بل ضاعف من قوتها بدل أن يهزّها،
وهذا كان يجب أن يشكل درساً للسعودية لفهم الأوضاع في
لبنان، ولكن أنّى لها أن تفهم؟
|
الأسد وعبدالله: الطلاق!
|
2/ الحرب الإسرائيلية على لبنان:
هنا، وفي سياق المواقف، والضغوط المتوالية على سوريا،
انفجرت حرب لبنان 2006 وانحازت السعودية كما هو معتاد
الى الجانب الإسرائيلي، واصدرت بيانات بذلك. فيما انحازت
سوريا الى المقاومة ودعمتها. وحين انتصرت، القى بشار الأسد
خطاب (فشّ خلق) وتحدّث عن أشباه الرجال، مشيراً الى حكام
السعودية ومصر، ما أدى الى انزعاج السعوديين وتصعيد الهجوم
عليه اعلامياً وسياسياً.
تمنّت السعودية وإسرائيل ضرب الحلقة الأضعف بنظرهما
للحصول على الجائزة الأكبر بإسقاط النظامين في دمشق وطهران،
عبر حرب لا تبقي ولا تذر تدمّر فيها اسرائيل الضاحية الجنوبية
لبيروت ومدن وقرى الجنوب، وتهجر مئات الآلاف من المواطنين.
ولكن النتيجة لم تكن لصالح حلفاء السعودية في لبنان (جماعة
14 آذار) الذين بدوا متضررين من ذلك النصر المؤزر الذي
حققه حزب الله. ولكن هؤلاء استمروا في مناوشاتهم، ورفضهم
الإعتراف بأن حزب الله انتصر؛ كما استمرّ التآمر على المقاومة،
ما أنتج 7 أيار 2007، ودعا سعود الفيصل حينها الى تدخل
عسكري أوروبي أميركي (قوات الناتو) لاجتياح لبنان، وهذا
العرض وثّقته ويكيليكس ولا يحتاج الى تعليقات كثيرة، وقد
نشرت الحجاز تفاصيل تلك الوثيقة.
وهكذا، وبدل أن تضعف سوريا، أو حزب الله، أو جناح الممانعة،
ازدادوا منعة وانتصاراً، وخشيت السعودية على ما تبقى لها
من نفوذ في لبنان، وجرى تكتيل تحالف 14 آذار واستخدامه
كخنجر مسموم للتهجم على سوريا اعلاميا وسياسياً بل ودعم
المعارضة السورية بشكل علني. لكن الخشية كانت في وصول
قوى الممانعة الى الحكم عبر الإنتخابات عام 2010. وهنا
قدمت السعودية ما يصل الى مليار ونصف المليار من الدولارات
لتحقيق نصر غير مؤزر للحريري وجماعته. لكن هذا الإنتصار
انتكس بصورة كبيرة، وضاعت أموال السعودية وذلك عام 2011
حين أطيح بالحريري بطريقة سلمية وديمقراطية، ولازال الى
اليوم يعيش بين باريس والرياض، ربما خجلاً من عودته الفاشلة
الى بيروت، وكأنه أصبح معارضاً في الخارج!! على أمل أن
يسقط الأسد، ثم تسقط المعارضة في لبنان، فيعود مطوّقاً
بأكاليل الغار، رئيساً للوزراء مجدداً، كما يحلم.
3/ الثورات العربية:
تصور النظام في دمشق بأن مواقفه السياسية الوطنية على
صعيد القضايا العربية يمكن أن يشرعن ويغطي على سياسة الإستبداد
المحلي التي ينتهجها. وقد عبر الأسد ما يفيد بأنه في مأمن
من الثورات في خطاب علني بعد سقوط حسني مبارك، ولكنه كان
مخطئاً. والسعودية التي كانت خائفة من انتقال العدوى الثورية
اليها، وجدت كما الغرب في تلك الثورات غير المحببة والمؤذية
لها فرصة للإطاحة بالخصوم السياسيين، إن في سوريا أو في
العراق أو حتى في ايران والسودان وربما الجزائر أيضاً.
لا نحتاج الى كثير من الكلام حول دور السعودية في الأحداث
السورية، فرغم أنها تتمتع بنظام لا يقلّ استبداداً عن
النظام السوري، إلا أنها لم تدافع عن الثورات إلا في بلدين،
وسعت الى توفير الغطاء السياسي والإعلامي والمالي للإطاحة
بنظاميهما وهما ليبيا وسوريا. بديهي أن السعودية لم تكن
مع الثورة التونسية ولا المصرية ولا اليمنية ولا البحرينية
حيث ارسلت قواتها الى هذه الأخيرة للقضاء على الثورة ولازالت
تدعم هذا الإتجاه. السعودية ليست بلداً يمكن ان يتعايش
مع الثورات، ولا يريد أن يرى نفسه مطوقاً بها، خاصة ان
كانت ثورات تدعو الى الحريات والديمقراطية.
كلا البلدين اللذين تدعم السعودية فيهما الثورة بصورة
واضحة، غير مرضي عنهما من الغرب واسرائيل، وكلاهما ليسا
ضمن حلف الإعتدال/ الأميركي، والهدف من اسقاطهما ليس الديمقراطية
والحرية للشعوب، بقدر ما هي معركة بين معسكرين تستخدم
فيهما كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة.
سوريا من جانبها اتهمت السعودية مراراً بإثارة الفتن
الطائفية في أراضيها عبر مشايخ يحرضون في قنوات سعودية
ويقيمون في السعودية. كما اتهمت سوريا السعودية بتمويل
الجماعات السلفية وتسليحها، ولنا أن نعجب من حقيقة أن
القاعدة أو بقاياها التي قاتلت في العراق هي نفسها التي
تقاتل الآن نظام دمشق، وإن القاعدة التي قاتلت في أماكن
عديدة هي نفسها التي تقاتل في ليبيا جنباً الى جنب حلف
الناتو! فهل هذه صدفة أم ماذا؟!
تريد السعودية في المحصلة النهائية التخلص من نظام
دمشق، ولكنها لا تريد نظاماً ديمقراطياً بديلاً. بل تريد
نظاماً مطواعاً لها تكافح به العراق وحزب الله في لبنان
ومن ثمّ التمدد الى الشرق حيث إيران. هذه هي اللعبة الإقليمية
الكبرى. لعل السعوديين يحلمون باستعادة مجدهم ونفوذهم
الضائع عبر كسر نظام دمشق المستبدّ غير الموالي، من أجل
بديل مستبدّ موالٍ!
لكن كيف يكون ذلك؟
إن الثورة المسلحة لا يمكن أن تنجح في بلد مثل سوريا،
وهي غير ممكنة أساساً، ولا نظنها ستنجح لو قامت في بلد
مثل اليمن أو البحرين. بإمكان هذه الجماعات السلفية المسلحة
الممولة من دول الخليج خاصة السعودية، والتي تتنقل من
مدينة الى أخرى، إزعاج النظام السوري، والطعن في شرعيته،
ولكنها لا تستطيع أن تقضي عليه، فموازين القوى ليست في
صالح القوى المسلحة السلفية، وقد أثبتت بأنها مخيفة للنظام
في دمشق كما لدعاة الديمقراطية والمدنيين السوريين أنفسهم
نظير ما قامت به من شناعات لا تقلّ عن شناعة النظام السوري
نفسه.
ما هي البدائل الأخرى إذن؟
هل هي حملة عسكرية للناتو على غرار ما جرى في ليبيا.
هذا أمرٌ غير ممكن، بل يستحيل وقوعها في المدى المنظور.
ولكن السعودية لا ترى شيئاً مستحيلاً، وتعتقد أن المال
وحده يمكن أن يحل العقد. لقد تبرعت بـ 15 مليار دولار
للناتو إن هو قرر توجيه ضربات عسكرية الى دمشق. لكن الغرب
ليس في وارد خوض حرب أخرى، ولا يمكن أن تنال حملة عسكرية
تعاطفاً شعبياً من السوريين انفسهم، وأمامهم التجربة الليبية
التي هي أبعد ما تكون عن تجربة ديمقراطية، ولا نتائجها
في حال سقط نظام القذافي، المستبد هو الآخر، تبشّر بخير
عميم!
العملية العسكرية غير ممكنة، لأن الغرب سبق وله ان
تورط في العراق وأفغانستان، فجاءت النتائج في غير صالحه.
وتجربة ليبيا ليست نموذجية يمكن تعميمها، ولا يمكن التنبؤ
بنتائجها حتى الآن. فضلاً عن أن لدى الغرب أولويات أخرى،
وفي مقدمتها الخروج من الأزمة الإقتصادية التي تهدد النظام
الرأسمالي برمّته.
ثم إن التدخل العسكري المباشر لإسقاط النظام في سوريا،
سيفتح حرباً إقليمية، من المرجح أن يكون الغرب خاسراً
فيها.
هل يتدخل الجيش التركي لحسم الأمر؟ هذا أمرٌ غير وارد
أيضاً، لأن تركيا نفسها تعاني من انشقاقات مجتمعية، وإن
النخبة في ذلك البلد خاصة العسكرية هي علوية الإنتماء
طائفياً، فقد تفجر التدخلات العسكرية التركية انشقاقات
حادّة في الجسد التركي حيث يوجد ما لا يقل عن 25 مليون
علوي في تركيا. ثم إن تدخل تركيا العسكري يفتح المجال
لتدخل ايران والعراق أيضاً، ولا يعلم كيف تسير الأمور،
إن تحولت المعركة الى فتنة طائفية على صعيد المنطقة بمجملها.
إنها تفجّر من المشاكل أكثر مما تحلّ، بعكس ما تعتقده
السعودية.
المتوافر حتى الآن هو الضغوط السياسية، واستثمار كل
أمرٍ في هذا الإتجاه ابتداء من قضية اللاجئين التي اريد
لها التوسع فحسم الجيش السوري الأمر وأغلق الحدود مع تركيا؛
وانتهاءً بقرارات مجلس الأمن، مروراً بالعقوبات الإقتصادية
التي يجمع الخبراء على أنها لا تساهم إلا بشكل جزئي في
المعركة بسبب تركيبة الإقتصاد السوري نفسه.
هناك تعويل كبير وتشجيع أكبر على إحداث انشقاقات في
الجسد الرسمي السوري، في الجيش بالتحديد، وفي البناء السياسي
الحزبي والرسمي. حتى الآن يبدو النظام السوري متماسكاً،
وما يقال عن انشقاقات في الجيش السوري مجرد تضخيم إعلامي.
ربما يحدث انشقاق في فترة لاحقة، وحتى في هذه الحالة فإن
النظام السوري قادر على الإستمرار، ولازال لديه قدر لا
بأس به من الجماهيرية والشعبية كما أوضح ذلك حضور الجمهور
في شوارع عدد من المدن السورية.
قد تنزلق سوريا الى حرب أهلية ـ وهو المرجح ـ قبل أن
يسقط النظام، وهذا السيناريو وإن لم يكن حاضراً في ذهن
القيادة السعودية، إلا أنه حاضر في مراكز البحث ولدى صناع
القرار في الغرب. وفي هذه الحالة لا يمكن القول بأن السعودية
كسبت شيئاً كثيراً، ولعل بوادر حدوث انشقاق في الجيش السوري
يشجّع النظام على شنّ حرب مع اسرائيل تكون وسيلة لاستجماع
القوة الداخلية، خاصة وأن اسرائيل نفسها ليست مهيأة لحرب،
وليس لديها ـ كما ثبت في حرب تموز 2006 ـ أدوات الإنتصار.
المخرج الوحيد المتاح في القضية السورية هو الإصلاحات
التدريجية، وهو أمرٌ قبل به النظام، ولكن لم يقبل به السعوديون
والأميركيون والغربيون وحتى الإسرائيليون. فالمطلوب رأس
النظام، حتى تتغير المعادلات السياسية في الشرق الأوسط،
وحتى يأتي نظام بديل يكون أكثر تهاوناً في القضايا العربية
ويقبل بأنصاف الحلول بالنسبة للجولان، ويضيّق الخناق على
الممانعة التي تحكم الآن في لبنان.
لكن هذا الحلّ بدا وأن هناك من بدأ يفكر فيه أو يحبّذه
في الغرب، وليس في السعودية، وربما يكون العرّاب التركي
هو البوابة. هناك ضغط سياسي وإعلامي على النظام السوري،
لتحقيق الحدّ الأعلى من التنازل في السياسات، وليس في
الحريات بالضرورة، ولعل زيارة وزير الخارجية التركي داوود
أوغلو هذا الشهر (اغسطس) كانت لاستجلاء امكانية الإصلاحات،
وإشراك المعارضة في الحكم وفق أسس جديدة، وهذا ما وافقت
عليه القيادة السورية.
لكن هل توافق السعودية على مثل هذه الحلول؟
لا.
لاتزال السعودية تدفع باتجاه اسقاط النظام، وهي على
استعداد لدفع أثمان ذلك، مالاً وليس دماً. فالدم الذي
سيسفح هو سوري بالدرجة الأساس، وربما يسفح بعض أو كثير
من الدم من الأوروبيين في حال تدخلوا عسكرياً، رغم أن
ظروفهم الإقتصادية الصعبة لا تساعد على ذلك.
السعودية ـ واستنساخاً لتجربتها مع ليبيا ـ تحاول توفير
مظلّة سياسية عبر دول مجلس التعاون ومن ثم الجامعة العربية
لينتقل الأمر الى مجلس الأمن ليؤيد التدخل الغربي العسكري
كما حدث في ليبيا (من حماية المدنيين الى المشاركة الفعلية
في المعارك). وفي هذا الإطار تأتي تصريحات الملك عبدالله
وسحب السفراء الخليجيين. وما كان هؤلاء ليقوموا بما قاموا
به إلا بالتنسيق مع الولايات المتحدة التي شكرتهم علناً
على ما قاموا به. المراد إيصال الضغوط السياسية الى حدودها
القصوى تمهيداً للعمل العسكري، أو تمهيداً لقطف التنازلات
من النظام السوري على الصعيد السياسي الخارجي والمحلي.
لننتظر ونرَ ما هي الخطوة التالية التي ستقوم بها السعودية
الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان!!
|