حلبة المحاور:
السعودية تشارك في (الثورة) السورية!
محمد شمس
الجدل حول حقيقة التدخل السعودي في الأزمة السوريّة
حسمه بيان الملك عبد الله في 8 آب (أغسطس) الجاري. هذا
الجدل بقي قائماً في الشارع السوري إلى ما قبل صدور البيان،
حيث لم تكن ملامح سعودية بارزة لهذا التدخل، رغم أن لدى
القيادتين السياسية والعسكرية في سورية ما يكفي من الأدلة
على تورّط السعودية في التحريض على أعمال العنف خصوصاً
في المدن التي رفعت فيها شعارات ذات طبيعة طائفية مثل
حمص وحماة ودير الزور. شحنات الأسلحة المهرّبة من لبنان
الى داخل الحدود السوريّة حملت بصمات سعودية، إذ لا يمكن
لتيار المستقبل بزعيمه الشاب سعد الحريري أن يقدم على
قرار بهذه الخطورة دون الحصول على إذن سعودي..أليس كذلك؟
بيان الملك عبد الله ليس مجرد تعليق على الأحداث، ولا
هو أيضاً مجرد موقف سياسي عابر، وإنما هو أمر عمليات أولاً
في الداخل لإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق ضد النظام
السوري، بما تشمل من حملات تحريض على مواصلة الاحتجاجات
وربما تغذيتها بالشعارات الطائفية، وثانياً تعبير علني
عن استجابة لمبادرة ذات طابع دولي أو بالأحرى أميركي تقوم
على تنسيق الجهود بين الحلفاء لتكثيف الضغوط على سورية
وإسقاط النظام فيها. وهذا التنسيق يبدأ بين تركيا والاردن
والسعودية ويحظى بدعم أميركي وأوروبي..
الملك عبد الله الذي يتورط حرسه الوطني في قمع الحركة
الديمقراطية في البحرين، ليس معنياً بمطالبة القيادة السورية
بتفعيل الوعود الاصلاحية، بل هي لعبة المحاور التي تستحثّه
على الإنغماس في الشأن السوري لمواجهة معسكر المقاومة
الممثل في ايران وحزب الله وحماس..
لم يكن مصادفة أن يأتي بيان الملك عبد الله عشية زيارة
داود أوغلو الى دمشق لنقل رسالة أميركية حازمة، وقرار
السعودية والبحرين والكويت باستدعاء سفرائها للتشار فيما
أكّد نبيل العربي، أمين الجامعة العربية، قلق الأخيرة
من الوضع في سورية، رغم أنه عارض الخيار العسكري وفضّل
خيار (الإقناع) و(الحوار). وفي الوقت نفسه، عقدت اجتماعات
متوالية في أنقره وعمان بين سفراء أميركيين ومسؤلين أتراك
وعرب من أجل زيادة الضغوط على سورية لإرغامها على فك الارتباط
بإيران وحزب الله كشرط لوقف الاحتجاجات.
عبارتان بمضمون تهديدي، الأولى للملك عبدالله بقوله
أن سورية أمام الحكمة أو الفوضى، وأردوغان بقوله صبر تركيا
نفد ولن نبقى متفرجين.
دلالات البيان
لم يعتد آل سعود التعليق على الحوادث خارج حدود بلادهم
إلا بالقدر الأدنى الذي يرفع العتب، ولا يسجّل موقفاً،
وقد اشتهر عن الملوك السعوديين تمسّكهم بـ (الشرعية) المتمثّلة
بالحكم القائم. فقد عارض آل سعود الثورة الايرانية وأكّد
ولي العهد آنذاك فهد على الشرعية المتمثلة في الشاهنشاه
محمد رضا بهلوي. وقريباً، وقف الملك عبد الله ضد إطاحة
الرئيس المصري حسني مبارك، وعارض موقف الإدارة الاميركية،
فضلاً عن استقباله زين العابدين بن علي ودفاعه عنه، ورفضه
تسليمه الى القضاء التونسي. في اليمن، هناك شعار بات ثابتاً
في الثورة الشعبية يرفض التدخل السعودي الأميركي في الشأن
اليمني. وفي البحرين، تدخل عسكري سافر عبر قوات درع الجزيرة.
|
سلفيون يقتلون مؤيدين للنظام:
شراسة لا تقلّ عن شراسة النظام |
فلماذا سورية؟
لأسباب عديدة تتدخل السعودية في الشأن السوري:
أولاً: تمثّل سورية الحلقة
المفصلية في محور الممانعة الممتد من إيران الى لبنان،
وأن سقوط النظام السوري يعني قطع خطوط الإمداد عن المقاومة
في لبنان، وتقويض النفوذ الايراني، وبالتالي القضاء على
معسكر الممانعة في المنطقة. وبعد سقوط الحريري في لبنان
ونجاح المعارضة السابقة بتشكيل حكومة جديدة مع التحاق
أقطاب من الموالاة السابقة، شعرت السعودية بأنها خسرت
لبنان، وأن ضمان نفوذها المستقبلي في الأخير يقوم على
إنهاء النظام السوري الى الأبد.
ثانياً: نقل عن سعد الحريري
لمسؤول عربي كلام منسوب الى الملك عبد الله جاء فيه أن
سيطرة بشار الأسد على عاصمة الأمويين وسيطرة نوري المالكي
على عاصمة العباسيين غير مقبول، ولابد من نزع إحداهما.
بالرغم من أن آل سعود لاشأن لهم بالدين ولا بقضايا الإيمان
أو التاريخ، فهم، إلا في حالات محدودة، منغمسون في المجون
والفساد الاخلاقي حتى النخاع. ولكن في المقابل، لديهم
نزعة طائفية شديدة الضراوة، مع التذكير بأن الطائفية لا
صلة لها بالدين، وأنها توجّه السياسات الخارجية السعودية.
ما قيل عن علاقات مع آل الأسد منذ خمس وثلاثين عاماً،
لم تمنع من اندلاع حملة أيديولوجية وإعلامية ضد ما تطلق
عليه الأدبيات الوهابية (النظام النصيري) في سورية، دون
أن يصدر قرار بمنع النيل من النظام السوري أو القدح في
الطائفة التي ينتمي اليه الرئيس السوري. كتب ونشريات ومجلات
ومحاضرات عامة مليئة بعبارات الكراهية ضد العلويين في
سورية، وآخرها بيان رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق وعضو
هيئة كبار العلماء الحالي الشيخ صالح اللحيدان الذي صدر
قبل ثلاثة شهور وأباح فيه بناء على فتوى قديمة بقتل الثلث
من أجل أن ينعم الثلثان. وقد استعمل اللحيدان عبارات القدح
والذم ضد النظام السوري ورئيسه، بما لو قيل في رئيس آخر
لربما ناله من التقريع والعقاب الشديد.
الحملة الطائفية ضد سورية ليس كنظام سياسي وإنما كانتماء
ديني قديمة، وتزداد تصعيداً في هذه الفترة، حتى أن الشعارات
التي انطلقت في بعض المدن السورية وتحمل على إيران وحزب
الله وقيادته لا يمكن وضعها في سياق احتجاجات سلمية وديمقراطية
أو حتى سورية وطنية، وإنما هي شعارات مستعارة من الأدبيات
الوهابية.
الثالث: أن المشروع الأميركي
ـ الإسرائيلي الحالي يقوم على مخطط تغيير النظام أو إضعافه
إلى الحد الذي يمكن إرغامه على فك الإرتباط بإيران وحزب
الله.
رد الفعل السوري إزاء الموقف السعودي جاء فورياً ولكن
ليس على سبيل المصادمة مع النظام السعودي. فقد رأت صحيفة
(الوطن) السورية أن كلمة الملك عبد الله (بدت كأنها أقرب
الى رسالة تهديد أميركية منها الى رسالة أخوية تجاهل فيها
الملك عبد الله حقيقة الأحداث والبراهين التي تثبت أن
أشقاءه في سوريا يتعرضون لمؤامرة تتجاوز حدود الخطابات).
وأضافت الصحيفة أن (كلمة عبد الله لم تتضمن أية إشارة
إلى المجموعات الإرهابية المتطرفة التي سعت إلى تمزيق
وحدة سوريا العربية والإسلامية، وتجاهلت أية إشارة إلى
الجهات التي تقوم بتمويل وتسليح هؤلاء الإرهابيين). وقالت
عن المجموعات الإرهابية إنه (ثبت أن بعضهم يتلقى تعليماته
من شيوخ فتنة تؤويهم بلاد الملك، في وقت تحتاج فيه المملكة
إلى تطبيق إصلاحات جذرية في بنيتها السياسية والإجتماعية
قبل التوجه بالنصح إلى الآخرين، كما تجاهلت الإجراءات
الإصلاحية التي أطلقها الرئيس بشار الأسد بما فيها إصدار
قانون الأحزاب والانتخابات).
مصدر سوري شبه رسمي اكتفى بوخز الضمير السعودي، إن
وجد، خصوصاً في هذه الآيام التي يلعب فيها آل سعود بكل
الأوراق للحيلولة دون نفاذ الوقت والجهد من أجل صون الصرح.
المصدر السوري علّق على بيان الملك عبد الله بالقول بأنه
مبني على معلومات مغلوطة، وربما هناك من أراد توريط الملك
في مواقف غير مسؤولة اعتقاداً منه بأن الوضع في سورية
على حافة الإنهيار، كما تصوّر الأتراك ذات يوم واضطرهم
ذلك الى التراجع، ولكن بعد فوات الأوان حتى قيل بأن استقالة
الجنرالات في القوات المسلحة التركية البرية والجوية والبحرية
كانت في جانب منها رد فعل على سياسة أردوغان غير المتوازنة
إزاء الوضع في سورية.
لقد أوصل الجنرالات الأتراك رسالة واضحة الى نظرائهم
السوريين بأنهم على غير وفاق مع سياسة أردوغان إزاء سورية،
وأنهم على علم بأن لدى الأخيرة أوراق لم تستخدمها في الأزمة
الطارئة في العلاقة بين أنقره ودمشق، ومن بينها ورقة (بي
كيه كيه) الكردي الذي يقوده عبد الله أوجلان. وفق المصدر
السوري، أن الملك عبد الله قد يكون خضع تحت تأثير مصادر
أميركية وربما معارضة سورية غير وازنة، مثل تلك التي يقودها
الشيخ عدنان عرعوع أو تنظيمات سلفية وهابية على صلة بالقاعدة.
في البيان الذي جرى توزيعه بصورة واسعة عبر وكالة الانباء
السعودية تجاوز الملك عبد الله وعلى غير العادة السعودية
في التعامل مع تطوّرات سياسية من هذا القبيل، الواقع السوري
الحالي، ووجّه بيانه الى جهة غير محددة (أشقائنا في سوريا..)،
في ما يعتبر خروجاً عن الأعراف الدبلوماسية في التخاطب
بين قادة الدول، فيما يشبه عدم اعتراف بشرعية القيادة
السورية الحالية، أو التأسيس لخصومة معها. ثم إن انتقال
البيان الى ظاهرة العنف في سورية باعتبارها منتجاً رسمياً،
حيث لأول مرة، وبخلاف كل الثورات العربية قاطبة، يسبغ
على ضحايا العنف دون تمييز بين الأبرياء أي السلميين والمسلّحين
بـ (الشهداء) يعبّر عن أكثر من موقف سياسي بل إلتزام إزاء
قضية يرى نفسه معنياً بها بصورة مباشرة، وليس الحال عليه
بالنسبة لثورات تونس ومصر واليمن وليبيا فضلاً عن البحرين
التي تشارك فيها قوات درع الجزيرة بقيادة السعودية في
قمع الإنتفاضة الشعبية السلمية ولم يصدر عن آل سعود ما
يفيد باستنكار سقوط (الشهداء!)، مع أن ذلك أيضاً يفترض
أن يكون (ليس من الدين ولا من القيم والأخلاق) تماماً
كما أن (إراقة دماء الأبرياء لأي سبب ومبررات كانت، لن
تجد لها مدخلاً مطمئناً، يستطيع فيه العرب، والمسلمون،
والعالم أجمع أن يروا من خلالها بارقة أمل..).
كل ما قيل في بيان الملك عبد الله حول سورية هو أولى
بأن يقال عن البحرين، لأن ما يجري هناك بالغ الوضوح ولا
لبس فيه، فالحركة الشعبية الاحتجاجية ذات طبيعة سلمية
بالكامل ولم يدخل السلاح مطلقاً في تلك الحركة، بل لحظنا
أن ممارسات النظام الخليفي وبدعم من قوات خارجية ممثلة
في درع الجزيرة جاءت في الأصل لقمع الحركة الديمقراطية
الشعبية، أما الحال في سورية فقد بات معروفاً أن طلاّب
الحرية ينؤون بأنفسهم عن حملة السلاح والجماعات التخريبية،
ويرفضون التدخل الخارجي تحت أي ذريعة.
مشكلة بيان الملك عبد الله أنه ذو طبيعة إشكالية، من
جهة كونه ينطوي على ارتدادات وتناقضات، فكل كلمة فيه يمكن
أن ينطبق إما على السعودية نفسها أو على دولة حليفة لها.
فدعوة الملك القيادة السورية لتفعيل (إصلاحات شاملة وسريعة)
هو الأولى به وحكومته، خصوصاً وأن دعوات المطالبة بالإصلاح
لم تتوقف منذ يناير 2003 حتى اليوم، فضلاً عن العقود الماضية
وخصوصاً منذ عهد الملك سعود في العام 1962 وحتى عهد الملك
فهد الذي استجاب بطريقة مشوّهة لمطالب القوى السياسية
والاجتماعية بالإصلاحات الجوهرية. ما يزيد الطين بلّة،
أن دعوة الملك للقيادة السورية بتفعيل الاصلاحات جاءت
بعد خيبة أمل واسعة النطاق أصيبت بها القوى السياسية والاجتماعية
في المملكة في 17 آذار (مارس) الماضي حيث كان الجميع يأمل
في الانتقال نحو تحوّل ديمقراطي بإقرار مبدأ الإنتخاب
لاختيار أعضاء مجلسي الشورى والوزراء.
ما يلفت في بيان الملك مطالبته القيادة السورية بتفعيل
(إصلاحات لا تغلّفها الوعود، بل يحققها الواقع ليستشعرها
المواطنون في سوريا في حياتهم..كرامة وعزّة وكبرياء).
ولعل هذه الفقرة ـ النصيحة من الأجدر أن تأخذ بها القيادة
السعودية التي مرّ على وعودها بالإصلاحات الحقيقية التي
يستشعرها المواطنون أكثر من ستة عقود، فالمطالبة بالدستور
أنتجت نظاماً أساسياً يثير السخرية، حيث أنه يشرعن السلطة
المطلقة للملك، فيما يحرم الشعب من أي دور في عملية صنع
القرار السياسي، ويمنح الملك سلطة تعيين أعضاء مجلسي الشورى
والمناطق.
فيما يبدو أن السعودية دخلت كطرف مباشر بعد أن ثبت
تورّطها في البحرين واليمن وليبيا وهي متّهمة بقيادة الثورة
المضادة في كل من تونس ومصر، وإن كثرة الخصوم سيجعلها
في وضع لا تحسد عليه، فحتى لو تحقّقت بعض أهداف السعودية
بسقوط بعض العروش فإن مصيرها لن يكون مضموناً، لأن الحانقين
على آل سعود وضلوعهم المباشر في شؤون الآخرين لن يذهب
في لحظة ما دونما حساب.
|