آل سعود وآل ثاني
حلف بنكهة المؤامرة
محمد الأنصاري
لم تكن العلاقة بين الرياض والدوحة مريحة لأي منهما،
فالأولى تتصرف باعتبارها الشقيقة الكبرى التي تحب أن تأمر
فتطاع، والثانية تتصرف بحسب طموحاتها المجنونة التي تتجاوز
مساحتها وحتى إمكانيات قادتها الذهنية والمعرفية، الأمر
الذي يجعل التصادم قانوناً في العلاقة السعودية ـ القطرية..
|
معركة الإعلام بين السعودية
وقطر: العربية مقابل الجزيرة |
غالباً ما يكون الخطر المشترك المصوّب نحو المصير العامل،
ربما الوحيد، الذي يذيب الثلج سريعاً بين مشيخات الخليج.
منذ حرب الخليج الثانية، وتحديداً بعد الإنتهاء من عملية
تحرير الكويت من احتلال قوات صدام حسين في فبراير 1991،
دخلت كل دول الخليج تقريباً في اتفاقيات أمنية أو ما يعرف
باتفاقيات دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، بعد أن أثبت
مجلس التعاون الخليجي وقوات درع الجزيرة عجزاً بل شللاً
كاملاً إزاء تهديدات نظام صدام حسين، ما منح قطر، إلى
جانب الإمارات والكويت دع عنك عمان التي حافظت على مسافة
احترازية في علاقتها بالرياض، فرصة التحليق بصورة مستقلة
عن خط السير السعودي. منذاك، بدأت تسلك قطر درب التحرر
من عقدة (الشقيقة الكبرى)، وراحت تمارس سياسة أكبر من
حجمها الجغرافي والسكاني، ما أثار حفيظة آل سعود الذين
بدأوا يشعرون بأن نفوذهم في مجلس التعاون الخليجي يتلاشى
تدريجاً، بل قد يتحوّل المجلس الى مجرد هيكل خاوٍ.
ما كان يدور في السر من مخطّطات ومخططات مضادة بين
الرياض والدوحة أكبر من أن يحصى، وأن المرارة التي تجرّعتها
السعودية من (ضربات الحظ) القطرية في الأوضاع العربية
جعلها تنقم على الدوحة الى حد أنها باتت تقف إلى جانب
المنامة في خلافها الحدودي مع الدوحة، وبلغت ردود فعل
السعودية على الخروج القطري من عباءتها أن خطّطت لتنفيذ
انقلاب عسكري ضد الأمير الحالي الشيخ خليفة بن حمد آل
ثاني، ولكن اكتشاف المحاولة أدى إلى تدابير انتقامية من
بينها اعتقال العشرات من العسكريين وقادة قبليين وبعض
أعضاء القبيلة الحاكمة، إلى جانب ذلك طرد الآلاف من قبيلة
آل مرّة الى السعودية ومصادرة ممتلكاتهم ونزع الجنسية
منهم..
كانت الخلافات والمخططات المتبادلة تدور وراء الكواليس،
ولكن التوّترات بين الدولتين النفطيتين أخذت شكلاً خطيراً
وتصعيدياً في 1992، حيث تطوّر خلاف حدودي في مركز الخفوس
القطري الى اشتباك مسلح سقط فيه قتيلان وعدد من الجرحى
وتمّ تدمير المركز، حيث فجّر الحادث غضباً قطرياً غير
مسبوق ما لبث أن أخذ شكل طموحاً متفجّراً بمضمون انتقامي،
وبدأت العلاقات بين السعودية وقطر مرحلة قطيعة وتوتّر
وتنافس لدود.
كل المحاولات لتحسين العلاقات بين الرياض والدوحة منذاك
وحتى وقت قريب باءت الفشل، ليس لأن الأجواء لم تكن مواتية
لمثل هذا المسعى، ولكن أيضاً لأن المكاسب التي حقّقها
القطريون نتيجة استقلالهم عن الشقيقة الكبرى كانت كفيلة
بتأجيل أي حديث عن تقريب وجهات النظر أو حتى الدخول في
مصالحة. تدخّل أكثر من طرف خليجي لتسوية الخلاف السعودي
القطري ولم يسفر عن شيء مثمر. وبعد حادثة مركز الخفوس
تشكّلت لجنة مشتركة لحل النزاع الحدودي، الا أنها لم تحرز
أي تقدم يذكر، وبقيت المشاكل عالقة بين البلدين، وكانت
الدوحة تعتبر محاولة الانقلاب السعودية سبباً كافياً لإحجام
القطريين عن “تطبيع” العلاقات مع السعودية.
وجاء بث قناة (الجزيرة) في منتصف التسعينيات كخطوة
إستفزازية بالنسبة للسعودية. فالبرغم من أن الأمراء والمسؤولين
السعوديين يداومون على متابعة برامج الجزيرة بما في ذلك
نشرات الاخبار والبرامج المثيرة فيها مثل (الإتجاه المعاكس)،
إلا أن الشكوى الدائمة التي يمرّرها الأمراء السعوديون
الى القطريين سواء عن طريق وسطاء خليجيين أو عرب أو حتى
أوروبيين وأميركيين بأن الدور الذي تلعبه قناة (الجزيرة)
يحول دون تحسّن العلاقات بين البلدين، بل إنها تزيد في
توتيرها. ولطالما استضافت القناة القطرية شخصيات معارضة
أو خلافية من المملكة في برامجها ما تركت تأثيرات واضحة
على الأوضاع السياسية السعودية.
كان تركيز القناة على الموضوع الفلسطيني والحريات العامة
وحقوق الإنسان وثقافة الممانعة، والاحتجاج السياسي منحها
تميّزا فريداً تكاد الأنظمة العربية مجتمعة تحسد القطريين
عليه، ولذلك أمكن القول بأن (الجزيرة) كانت أداة سحرية
في السياسة الخارجية القطرية، ما دفع السعودية الى التفكير
جديّاً في تصنيع سلاح مضاد ومكافىء لـ (الجزيرة)، فكانت
قناة (العربية).
في الوضع الإقليمي، كان التباين واضحاً بين الرياض
والدوحة. يكتفي المقرّبون من السعودية بذكر مثال مقاطعة
الملك عبد الله بن عبد العزيز للقمة العربية في الدوحة
عام 2000، ويرجعونها الى فتح مكتب للتمثيل التجاري لإسرائيل،
ولكن تبيّن بعد سنتين أن ثمة أسباباً أخرى دفعت السعودية
الى موقف راديكالي من هذا القبيل، وظهر أن الرياض سحبت
سفيرها من الدوحة، كرد فعل على واستياء من الانتقادات
العلنية والشديدة للعائلة المالكة في برنامج (الإتجاه
المعاكس) الحواري على قناة (الجزيرة) الفضائية.
لم تهدأ جبهة الرياض ـ الدوحة طيلة العقد الماضي، فقد
دخلت قطر في كل الموضوعات الإقليمية والدولية التي كان
للسعودية فيها حضور سياسي، وحتى التوتّر القطري المصري
كان له نكهة سعودية، فقد اختارت القيادة القطرية المناوشة
الإعلامية مع النظام المصري في المعركة مع الغريم السعودي.
من حظ القطريين الشلل الذي أصاب الدبلوماسية السعودية
في الفترة ما بين 2001 وحتى 2004، نتيجة أولاً لتداعيات
حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وتالياً موجة العنف التي
ضربت مناطق عدّة من المملكة، وضعف المداخيل النفطية التي
غالباً ما تشكّل الفاعل الرئيسي في السياسة الخارجية السعودية،
وكلها عوامل منحت الجانب القطري فرصاً للنفوذ السياسي
والا علامي.
بعد منتصف 2004، بدأت السعودية بالتعافي أمنياً ومالياً،
وشرعت في سياسة خارجية تدرّجية. تصريح وزير الخارجية السوري
آنذاك فاروق الشرع، الذي وصف السياسة الخارجية السعودية
بأنها مصابة بالشلل شكّل حافزاً مضمراً لدى الأمير سعود
الفيصل كيما يبدأ بنشاط دبلوماسي موتور.
التوترات الدبلوماسية السعودية والقطرية طيلة العقد
الماضي عكست نفسها في الخلافات الحدودية وفي العلاقات
البينية داخل دول مجلس التعاون الخليجي وفي المشاريع الثنائية
على مستوى المشيخات الخليجية، حتى أن السعودية عارضت مشروعاً
في العام 2005 لتشييد جسر بين قطر والامارات، بحجة أن
الجسر يمرّ فوق المياة الإقليمية للسعودية، والسبب في
حقيقة الأمر أن مشروع خط الأنابيب القطري الإماراتي يؤول
إلى تعطيل البعد الاستراتيجي للمنطقة الحدودية الفاصلة
بين قطر والامارات، ويحرمها من ورقة يمكن استغلالها في
كل خلاف مع كل من الامارات وقطر، أي أن القضية مرتبطة
بتحرّر من ضغوطات سعودية مستقبلية. الجانب السعودي بعث
برسائل اعتراض الى كل من الشركتين المنفّذتين للمشروع
وفي نفس الوقت الشريكين الأصغرين فيه، وهما توتال الفرنسية
وأوكسيدنتال الأميركية.
وفي يوليو 2006، أعلن وزير الطاقة القطري عبدالله بن
حمد العطية عن تراجع احتمالات بناء خط الانابيب بين قطر
والكويت بكلفة مليارات الدولارات وذلك لتزويد الكويت بالغاز
القطري، والسبب كما أعلن حينذاك عدم موافقة السعودية على
مرور الخط عبر مياهها الاقليمية. الغريب أن السعوديين
كانوا قد وافقوا على المشروع عام 2003، ثم عادوا وعارضوا
في 2006.
|
انقلاب المحاور: قطر، سوريا،
السعودية |
الدوحة ودمشق.. تحالف اليوم الأبيض
علاقة قطر وسورية في جزء منها رد فعل على النزعة الاستحواذية
السعودية، وقد وهبت القيادة السورية خلال سنوات التوتر
بين الدوحة والرياض ما لم تحلم به القيادة القطرية، حيث
فتحت دمشق أبوابها أمام الشيخ خليفة للاستثمار في مشاريع
هائلة، وأخذت العلاقة بين الشيخ خليفة والرئيس السوري
بشار الأسد بعداً عائلياً، وكانت زوجة الامير موزة أثيرة
لدى أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري الى درجة أنها خصّصت
لها قصراً بالقرب من قصرها وتعبيد طريق خاص إليه (هو نفس
الطريق الذي وضع عليه حاجز عسكري لمنع وصول المحتّجين
إليه من مؤيدي النظام بعد انقلاب الجانب القطري على الجانب
السوري عقب اندلاع الاحتجاجات في المدن السورية).
لقد لعب المحور السوري القطري دوراً رئيسياً في ملفات
المنطقة (لبنان، فلسطين، الأمن الإقليمي..)، وتحوّلت قطر
إلى جانب سورية وايران وحزب الله وحماس خصوماً في نظر
الكيان الاسرائيلي، بسبب مواقف القيادة القطرية الداعمة
لقضايا الممانعة في مقابل معسكر الاعتدال الذي تمثّله
السعودية ومصر والاردن والكيان الاسرائيلي.
منحت دمشق القيادة القطرية فرصة تحقيق مطامح سياسية
في ملفات ساخنة كانت فيها السعودية المنافس الأكبر، ما
تسبب في إخراج الأخيرة من أكثر من جولة حاسمة، سواء في
لبنان (زيارة أمير قطر الضاحية بعد الحرب 2006، ومشاريع
إعادة الاعمار في الجنوب، واتفاق الدوحة 2008)، أو حتى
الوساطة القطرية التركية في (2010) التي تمّت عبر دمشق.
رسوخ التحالف القطري السوري كان يتزامن مع خطة تهدئة
بدأت على مستوى رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري
حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني وولي العهد السعودي الأمير
سلطان في جدة في 2007، حيث تمّ الإتفاق على وقف التراشق
الاعلامي عبر قناتي (الجزيرة) القطرية (والعربية) السعودية،
ثم قيام الأمير القطري بزيارة مفاجئة الى الرياض في سبتمبر
2007، وكانت بهدف تذليل العقبات أمام مشاركة الملك عبد
الله في قمة مجلس التعاون الخليجي في الدوحة في ديسمبر
2007. وفعلاً، أعطيت أوامر لإدارة قناة الجزيرة بعدم التطرق
الى أية مسألة سعودية من دون العودة الى الادارة العليا،
ومالبث أن اختفت الأصوات الناقدة للنظام السعودي والآراء
التي تقيّم بصورة نقدية السياسات السعودية الداخلية والاقليمية
.
وفي آذار (مارس) 2008، قام الأمير سلطان بن عبد العزيز
بزيارة الى الدوحة من أجل فتح صفحة جديدة في العلاقات
بين الدولتين، وفي تموز (يوليو) من العام نفسه عقدت قمة
ثنائية بين الملك عبد الله والشيخ خليفة بن حمد آل ثاني،
وتشكّل مجلس مشترك برئاسة وليي العهد في البلدين يتعامل
مع كل الملفات السياسية والامنية والاقتصادية والتجارية
والاعلامية ..
وبعد أن بدأ العدوان على غزة في ديسمبر 2008 ـ يناير
2009، بدأ التباين واضحاً بين الدوحة والرياض وسعى الجانب
القطري الى عقد قمة طارئة في الدوحة، وتشكيل موقف عربي
مشترك في المحافل الدولية من أجل إرغام مجلس الأمن على
الضغط على الاسرائيليين لجهة وقف العدوان الاسرائيلي على
قطاع غزة، ولكن وقفت السعودية ضد هذا التوجه، حتى أن أمير
قطر ألقى بياناً في القمة الناقصة في الدوحة إبان العدوان
على القطاع أبدى أسفه على حال العرب، وقال كلاماً في الإنقسام
العربي أثار تعاطف الشعوب العربية وخصوصاً كلامه عن المحاولات
التي كان يقوم بها من أجل انعقاد نصاب القمة الذي ما إن
يكتمل حتى ينفرط. ولكن ذلك لم يمنع من مواصلة مسيرة تحسّن
العلاقات بين البلدين، ففي مايو 2010 عفا أمير قطر، بناء
على طلب من الملك عبد الله، عن عدد من السعوديين إتهمتهم
الدوحة بالمشاركة في انقلاب قام به مؤيّدون لأمير قطر
السابق الشيخ حمد آل ثاني والد الأمير الحالي، عام 1996.
ولكن ما جرى بعد اندلاع الثورات الشعبية في العالم
العربي أدى إلى خلط أوراق التحالفات في المنطقة، في عملية
دراماتيكية يعاد خلالها تشكيل خارطة التحالفات، وترتيب
الحلفاء والخصوم، صحيح أن (الجزيرة) دعمت الثورة في مصر
فيما كانت السعودية بقيت داعمة لنظام مبارك، ولكن الجانبين
القطري والسعودي كانا على تنسيق شبه كامل في الملفات الليبية
واليمنية والسورية. فلأول مرة تعمل القناتان (الجزيرة)
و(العربية) في جبهة واحدة وبشراسة غير معهودة ضد النظامين
الليبي والسوري. نعم هناك تباين في الموقف من البحرين،
وخصوصاً بعد نشر قناة (الجزيرة) الانجليزية تقريراً وثائقياً
عن الثورة الشعبية في البحرين اشتمل على إدانة واضحة للنظام
الخليفي، الأمر الذي أدى الى تأزّم العلاقات بين آل خليفة
وآل ثاني، وبدأت التصريحات المتبادلة تأخذ شكل الانتقادات
الشخصية.
على أية حال، هناك من يرى أن ربيع العلاقة بين قطر
والسعودية لن يطول بسبب تباين المصالح بينهما، وهناك من
يرى أن لدى قطر مصلحة في التهدئة من أجل مونديال الدوحة
2022، ولكن قد لا يكون ملعب الكرة مصّمماً على مقاييس
السياسة، فللأخيرة قوانين لعب خاصة بها، وقد تنقلب الدوحة
حين لا تجد سبباً يبقيها في حالة عناق مع الشقيقة اللدودة!
|