سقطت رؤية (المستقبل)
14 آذار يندب آل سعود
عبد الوهاب فقي
واكب آل سعود التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط منذ
اندلاع الثورات العربية في 5 كانون الأول (ديسمبر) من
العام الماضي بدقّة، فقد كان الخطر المحدق بعرش آل سعود
مفزعاً، إذ أدركوا بأنهم هدف رئيسي لربيع العرب، بل هناك
من تنبأ بوقوع الثورة في السعودية عقب الثورة المصرية
مباشرة. وفي لحظة هلع، تخلّى آل سعود عن حلفائهم في الخارج،
وتركوهم يصارعون من أجل مصيرهم السياسي دون مساعدة من
صديق أو معين، فقد ذهب النفوذ السعودي في لبنان خلال انشغال
بالذات، رغم أن أصوات الحلفاء في 14 آذار بحّت وأصحابها
يستغيثون بآل سعود من أجل انقاذ المجد الآذاري الذي لم
يحلم به لا سعد الحريري ولا أصغر تنظيم سياسي في فريق
14 آذار.
خرج سعد الحريري من السلطة في لبنان بطريقة لافتة،
خصوصاً وأن قطبين من فريق 14 آذار قد التحقا بالأغلبية
الجديدة وهما نجيب ميقاتي (رئيس الحكومة الحالي) ومحمد
الصفدي (وزير المالية الحالي)، إلى جانب أعضاء بارزين
في فريق وليد جنبلاط، والذي نظر إلى تنكبّهم الى المعارضة
القديمة بأنه إشارة خضراء من السعودية بدعم فرص صعود ميقاتي،
والتخلي عن رهان الحريري الخاسر.
حاول سعد الحريري واهماً أن يطمئن حلفاءه بأن فريق
14 آذار هو الحليف الوحيد والأثير للسعودية في لبنان،
ولكن ما لبث أن تبدّد الوهم حين بدأت مرحلة الحساب والعقاب
من قبل السعودية قد يكون أخفّها ما كان يرد في مقالات
داود الشريّان من انتقادات شديدة لسعد الحريري الذي يكاد
يصفه بـ (الطفل)، وأنه ليس بحجم الطائفة السنيّة في لبنان
ولا بإرثها التاريخي، أما وراء الكواليس فقد سمع سعد الحريري
كلاماً قاسياً من الأمراء السعوديين، الأمر الذي انعكس
على كل نشاطاته بما فيها النشاط التجاري المتمثل بدرجة
أساسية بـ (سعودي أوجيه).
قد يكون اختيار سعد الحريري فرنسا المحطة الأولى لرحيله،
ربما الأبدي، من السياسة، مؤشّراً على أن ثمة منغّصات
تحول دون عودته الى السعودية، موطنه الثاني. وكانت صحيفة
(ليبراسيون) الفرنسية قد ذكرت بأن رئيس تيار فريق 14 آذار
ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري قد (لجأ الى فرنسا).
ونقلت الصحيفة عن الكاتب جان بيار بيرين أن الأميركيين
والسعوديين نصحوا الحريري بعدم العودة الى لبنان، فيما
استغلّت صحيفة أميركية هذا الخبر لتضعه في سياق الحرب
على حزب الله، وملف المحكمة الدولية لتصنع خبراً يقول
أن حزب الله ينوي اغتيال سعد الحريري على خلفية اتهامه
باغتيال والده.
من وجهة نظر مراقبين سياسيين عرب وأجانب، أن التحذيرات
التي تلقاها الحريري بضرورة توخي أقصى درجات الحيطة والحذر
كانت تهدف الى إبعاده عن المشاركة في مداولات واجتماعات
القوي السياسية لتشكيل الحكومة اللبنانية وعرقلة الوصول
الى التفاهم وحل القضايا العالقة. ولكن الهدف مالبث أن
تحوّل الى مصيدة لمن خطّط له، فقد نجح رئيس مجلس النوّاب
نبيه بري في تقديم تنازل صعب وتاريخي كيما ينجح مهمة ميقاتي
بتشكيل الحكومة، ما أدى الى صدمة فريق 14 آذار.
وبصرف النظر عن صحة المعلومات حول تحذيرات جديّة تلقاها
سعد الحريري بشأن تعرّض أمنه الشخصي للخطر، فإن ماهو حقيقي
أن الحريري خرج من حلبة السياسة بضربة قاصمة، لم يكن يتوقّعها،
وصفها بالخديعة، خصوصاً من قبل الحلفاء وليس الخصوم.
كل ما قيل لاحقاً عن أخطار على حياة سعد الحريري هو
بمثابة (إخراج لبق) لخروجه من السياسة، بل وهروبه من مواجهة
المصير الحتمي، فالرجل تعرّ ض لنكبة كبرى لم يكن يتوقّعها،
فقد استثمر (اغتيال والده) خمس سنوات وحقق به أرباحاً
في السياسة والتجارة، ولكن تبيّن أن في فريقه فضلاً عن
المعارضة وخارج لبنان من سئم هذا النوع من الإبتزاز الذي
ينزع الى اختزال الوجود السني في لبنان وربما في خارجه
أيضاً في عائلة الحريري ومن ورائها السعودية. ولذلك لم
يكن بعيداً عن الحقيقة تحالف العوائل السنيّة التقليدية:
كرامي، سلام، ميقاتي، الصفدي..لمواجهة تغوّل الحريرية
السياسية والمالية في لبنان وخارجه، وقد يكون هذا التحالف
سبباً كافياً لدى السعودية من أجل تجاوز بيت الحريري والإستجابة
لمعادلة سنيّة لبنانية جديدة تقوم على إعادة الاعتبار
للعوائل السنية الكبيرة في لبنان.
ثمة في فريق سعد الحريري من ساءته النتيجة التي وصل
إليها حال تيار المستقبل على وجه الخصوص، وفريق 14 آذار
عموماً، فوجّه انتقادات الى الراعي السعودي، الذي تخلّى
عن حلفائه في لحظة حاسمة.
نهاد المشنوق، عضو في تيار المستقبل، وله مواقف مشهودة
في السجال السياسي الدائر منذ سنوات في لبنان بين فريقي
الموالاة والمعارضة قديماً وحديثاً. وإن اختيار المشنوق
كيما يطلق صفّارة الهجوم على السعودية ليس مستغرباً، فله
مقالات سابقة في تقويم السياسة السعودية، يمكن استدعاؤها
في سياق المواقف الراهنة. فقد ظهر المشنوق على شاشة (المستقبل)
في 2 آب (أغسطس) الجاري ووجّه انتقاداً شديداً للدول الخليجية
عموماً وللسعودية خصوصاً لموقف الرافض للتغيير في المنطقة.
|
المشنوق والتنظير الى عصر
الحريرية المنتهي |
موقف المشنوق يستدعي مواقف سابقة له يقيّم فيها النظام
السياسي السعودي، والملك عبد الله كنموذج للحالكم القبلي.
ففي مقالة له بعنوان (ماذا حدث لـ “السمع السياسي” السعودي؟)
في 6 حزيران (يونيو) 2006. بدأ مقالته بتحليل مشهد الوفود
القبلية والعشائرية والشخصية وهم يتحلّقون حول الملك عبد
الله حيث تقدّم الطلبات خطيّاً إليه. تحدث بنكهة إنكار
لطريقة التملّق حيث يتحدث ممثل عن الوفد ويكون غالباً
(أكثرهم فصاحة وقدرة على المديح بمليكه واختيار الأوصاف
التي ترضي سامعه الى حد الابتكار). ويعلّق المشنوق (تتوالى
الكلمات وتتراكم رسائل الحاجات الى درجة تتساءل معها هل
ما تراه هو ديوان ملكي سعودي نفطي يفيض دخله عن ميزانيته
أسبوعيا مع ازدياد أسعار النفط، أم أن أصحاب الحاجات يتبعون
دولة أخرى وجدوا في الديوان ملجأ يقصدونه لتلبية حاجاتهم
الملحة؟).
تحدث عن مكالمة لأحد الأمراء يريد أن يعلّق فيها على
كلام للمشنوق وصف فيه النظام السعودي بالهرم في مواجهة
الأنظمة الشابة. المشنوق بادر الى الرد بطريقة بدوية استعرض
فيها مواقفه الإطرائية لآل سعود وأولها (كرم الأمير سلطان)!،
قبل أن يعرّج على المشروع الإيراني في العراق وغياب الدور
السعودي فيه، واكتفاء القيادة السعودية بثقافة الشكوى،
لا سيما تهريب السلاح عبر الحدود السعودية العراقية التي
تبلغ طولها 900 كيلومتر. وقد عارض المشنوق حينذاك الحل
المتمثل في إقامة سياج أمني ممغنط، وفضّل بدلاً عن ذلك
الإنفتاح على القبائل السنيّة (حيث العلاقات التاريخية
أو عبر العشائر المختلطة التي تفتّش عن راعٍ لها. فكيف
براعٍ سعودي)، إذاً فكرة الرعاية السعودية قارّة في وعي
فريق المستقبل، ويحاول تعميمها على كل المناطق.
بدا المشنوق في مقالته سعودياً أكثر من آل سعود أنفسهم
في محاولة تشجيعهم على لعب دور منافس لإيران، في كل ملفات
المنطقة: العراق، لبنان، فلسطين، الأمن الإقليمي. أكثر
من ذلك، أن تحريضية المشنوق أخذت شكلاً طائفياً واستدعائه
مصطلح (الهلال الشيعي)، حيث قال بأن الأخير اتخذ (صفة
هلال الأزمات بعد انضمام حماس السنّية اليه). هو يرى بأنه
إذا كان العراق له وضع خاص ومعقّد فإن (فلسطين وأهلها
مكان طبيعي وشرعي للمال والدور السعودي). يزيد في تحريض
الأمير على مساندة تيار المستقبل بقوله (هل تعلم يا سمو
الأمير وأنا أعلم أنك تعلم أن هناك عائلات في مناطق سنّية
مثل طرابلس وعكار يجري إغراؤها وإقناعها لتتشيع سياسياً
على الأقل. وان في فلسطين ومصر حالات مماثلة يعرف عنها
الرئيس حسني مبارك. وان هناك عمليات مماثلة في قرى الشريط
الحدودي اللبناني السنّية ايضا). وسرد تفاصيل لأحداث ذات
طابع طائفي محض مثل وصول خمسمئة مقاتل من الحرس الثوري
الايراني الى لبنان عبر دمشق، واجتماع السفير الايراني
في الكويت بوجهاء الشيعة، وغيرها مما لا يمكن وضعه سوى
في سياق الابقاء على (تيار المستقبل) كمعتمد سنّي وحيد
في لبنان على حساب الطوائف السنيّة الأخرى، وهذا ما يفسر
غضب المشنوق والتيار الذي ينتسب إليه من تخلي السعودية
عنه.
كان المشنوق يحاول استدراج السعودية بدرجة أكبر الى
لبنان من أجل التعويض عن خسائرها في المناطق الأخرى، ولذلك
خاطب الأمير على طريقة إياك أعني واسمعي ياجارة بقوله
(من يرد أن يعوض ما فاته في العراق، وما لم يجده في سوريا،
وما لن يسمعه من طهران، فعليه أن يكون حاضراً في لبنان
وإلا فإنه سيفقد السمع السياسي لما يحدث في المنطقة).
من الواضح كان المشنوق يصوغ رؤية لتيار (المستقبل)
من أجل استدراج الدور السعودي في لبنان أولاً، ثم احتكار
حق رعايته السعودية. ولذلك، كان عمل كتّاب ومنظري تيار
الحريري مكثّفاً لجهة فتح الأبواب للتدخل السعودي في لبنان
واعتماد التيار كممثل لهذا التدخل، فلأول مرة يصبح رفع
العلم السعودي وصورة الملك عبد الله والبوح بالتماهي مع
السعودي اعتيادياً بل احتفالياً في وقت يبالغ فيه تيار
المستقبل وفريق 14 آذار بانكار التدخل الإيراني!
المشنوق عاد وكتب مقالة ثلاثية الأجزاء في صحيفة السفير
بعنوان (مملكة تفقد صبرها..)، جاء في الجزء الأول منها
بتاريخ 5 نيسان (إبريل) 2008، توقع بقيام تجمع من دول
عربية تضم السعودية ومصر لمواجهة سورية ودورها المدخلي
لانتشار النفوذ الايراني في العراق وفلسطين ولبنان. المشنوق
وفي محاولة لتغذية الغرائزية المذهبية لدى آل سعود المتفجّرة
أصلاً، وصّف بطريقة خاصة (الانتشار الايراني السياسي والمذهبي
خطر يهدّد الأمن القومي للكثير من الدول العربية..).
صار المشنوق معنيّاً بالكتابة عن السعودية المأمولة
التي يريدها أن تكون منافساً لإيران وصرّاف آلي لتمويل
المشاريع السياسية الخارجية السنيّة، لمواجهة المشروع
الشيعي الإيراني. في لهجة دفاعية واضحة يقول (صارت صورة
الارهاب تقترب من كلّ من يحمل جواز السفر السعودي. فكانت
المبادرة العربية للسلام التي أطلقها بصفته ولياً للعهد
في قمة بيروت في العام 2002 وأظهر دوراً سعودياً سلمياً
في النزاع العربي الاسرائيلي التزمت به كل الدول العربية).
غفل المشنوق عن وعيه القومي وخصوصاً فيما يرتبط بالقضية
الفلسطينية التي لا يمكن لمبادرة سعودية بما تنطوي عليه
من تنازلات مهينة للقضية والشعب الفلسطيني أن توفّر حلولاً
عادلة وحاسمة. المشنوق رأى في مبادرة الملك عبد الله محاولة
ليس لمساعدة الشعب الفلسطيني بل لوقف ما اسماه (الإنتشار
الإيراني)، لأنه يدرك بأن ايران قدّمت ما لم تقدّمه القيادة
السعودية للقضية الفلسطينية مادياً ومعنوياً.
في لبنان، صاغ المشنوق راياً حاسماً بأن السعودية لاتخفي
دعمها لحكومة السنيورة ولقوى الرابع عشر ىمن آذار وخاصة
لسعد الحريري، وهو رأي سيعارضه بشدة لو صدر من فريق المعارضة
السابقة، ولكن تبريره كان أن قوى 14 آذار (تعمل بشعارات
لبنانية)!!
في الجزء الثاني من مقالته بتاريخ 10 نيسان (إبريل)
2008، أضاء فيها على السياسة الأميركية إزاء السعودية
بوجه خاص، وبدت النزعة الذرائعية فاقعة، حيث قدّم المشنوق
صورة وردّية عن العلاقات بين الرياض وواشنطن وما تنعكس
على مواقف الإدارة الاميركية من ملفات المنطقة. فهو يدرك
بأن المعاملة الفريدة التي حظي بها فريق 14 آذار ما كان
لها أن تكون بهذا القدر من الحميمية إلا لأن العلاقات
السعودية الأميركية كانت استراتيجية وفي غاية الانسجام.
ولكن في بيئة خصامية لسياسات الولايات المتحدة في الشرق
الأوسط، يجد المشنوق نفسه ملزماً بتقديم صورة استثنائية
تقوم على رسم مسافة فاصلة للسعودية عن السياسة الأميركية،
ولكن ذلك كله لا يوضع إلا في سياق مناجزة المشروع الايراني،
حسب فحوى كلامه!
في الجزء الثالث من مقالته بتاريخ 17 نيسان (إبريل)
2008، كان المشنوق يأمل في صوغ الرؤية السعودية حول لبنان،
من وجهة نظر (مستقبلية)، وربما (حريرية)، ولكنه غاص في
تفاصيل وشؤون العائلة المالكة، وكأنه يريد إبلاغ القارىء
بأنه مقرّب منها، وأنه يحتفظ بعلاقات وثيقة معها..
المشنوق، بوصفه عضواً في تيار المستقبل، المنهزم سياسياً
في معركة الحكومة، يعتبر الهزيمة ليست سياسية فحسب، بل
هزيمة رؤية جرى الاشتغال على سبكها وتعميمها على مدى سنوات،
وتحديداً منذ اغتيال الحريري الأب، ويخشى المشنوق أن زمنه
السياسي والثقافي قد انتهى سعودياً، وقد يأتي من فريق
ميقاتي ـ الصفدي من يقدّم رؤية مختلفة تقوّض ميراث الحريرية
بكل ما متعلقاتها ورموزها.
|