عودة الشاويش
آل سعود والنفوذ المتآكل في اليمن
خالد شبكشي
من منظور آل سعود، فإن تقرير شكل النظام ومن يحكم ودرجة
الحكم في اليمن هو امتياز سعودي خالص، ولذلك هم لا يتقاسمون
مع طرف آخر سواء كان حليفاً أم صديقاً، فضلاً عن خصم،
شؤون اليمن، أو يتبادلون معه وجهات نظر حول الكيفية التي
يفترض أن تدار فيها أوضاع اليمن. باختصار، إنهم يعتبرون
اليمن جزءاً من المجال الحيوي السعودي غير قابل للقسمة
على إثنين. لن نعود الى التاريخ فقد أشبعنا الموضوع في
الأعداد السابقة بحثاً في جذور التدخل السعودي في اليمن،
والمصادر المحرّضة على مثل هذا التدخل، وشبكة التحالفات
التي عملت السعودية على نسجها كيما تكون متطابقة مع تطلعاتها
في إبقاء اليمن تحت النفوذ السعودي.
منذ تفجّر الثورة الشعبية في اليمن في شباط (فبراير)
الماضي، شعرت السعودية بأن ثمة تاريخاً جديداً بدأ في
اليمن، ويخشى أن لا يعود التاريخ كما يريده السعوديون،
فالثورة لم تكن ضد النظام السياسي اليمني بقيادة علي عبد
الله صالح وأفراد عائلته فحسب، وإنما أيضاً ضد التدخل
السعودي، المسؤول عن إدامة الحرمان الاقتصادي، والطغيان
السياسي، والتهميش الإجتماعي.
لم تستطع السعودية أن تمنع الثورة الشعبية في اليمن،
لأنها تجاوزت إمكانيات الأنظمة القمعية، فيما كانت مجاميع
شعبية تلتحق بأعداد كبيرة بالثورة، وتسجّل حضورها البارز
في ميادين التحرير وساحات التغيير. وشعرت السعودية بأن
الحلف العاتي الذي اشتغلت سنوات طويلة على بنائه ينهار
أمام غضب الشارع اليمني، وباتت القوى الشعبية الحقيقية
كما أبرزتها الثورة اليمنية ممثلة في ائتلاف شباب الثورة،
والجماعات الحوثية، والحراك الجنوبي، والقوى الشعبية والتنظيمات
الأهلية المساندة لها عزلت النظام والأقلية الداعمة له.
بعد مرور نحو شهر ونصف على تفجّر الثورة الشعبية، قرر
النظام السعودي التدخل لدعم نظام علي عبد الله صالح، ولكن
ليس على الطريقة البحرينية، حيث التدخل العسكري المباشر،
ولكن عن طريق: إرسال شحنات من الأسلحة لقمع الثورة الشعبية،
وإغداق الأموال على زعماء القبائل، وتحريك الفتنة القبلية
والطائفية.
سرعة اتّساع رقعة الثورة أفقد النظام السعودي القدرة
على ضبط إيقاعه في اليمن، فقد نقل الثوّار مستوى المواجهة
مع النظام الى كل مناطق اليمن، وبات النظام عاجزاً عن
إدارة البلاد، باستثناء بعض أحياء من العاصمة القريبة
من القصر، والمؤسسات الأمنية والعسكرية الكبرى.
تفكك تحالف السلطة هو الآخر شكّل عنصر قلق كبير لدى
آل سعود، فخروج علي محسن الأحمر وأبناء عائلة الأحمر بطريقة
تمرّد مسلّح أدّت إلى تصدّع خطير في بنية النظام اليمني.
كان الاعتقاد السائد بأن آل سعود يعملون على إعادة تأهيل
بعض حلفائهم من داخل السلطة أو خارجها كيما يكون جاهزاً
كبديل عن علي عبد الله صالح، وأيضاً لاختراق مشروع الثورة
واختطافها منجزها، بإسم الثورة نفسها، وتبيّن أن الشارع
اليمني بلغ من الذكاء ما لا طاقة لآل سعود على تحمّل تبعاته.
فقد خرجت مظاهرات تندّد بمحاولات نظام آل سعود بهدف اختطاف
ثورة الشعب اليمني وحرف أهدافها.
كانت محاولة اغتيال الرئيس اليمني علي عبد الله صالح
وفريق حكومته مفصلاً خطيراً في تاريخ اليمن، وكان يمكن
أن تكون رحلة صالح للعلاج في مستشفيات الرياض مناسبة لبدء
تاريخ جديد في اليمن بعد سيطرة صالح وعائلته على السلطة
33 عاماً، ولكن عوامل عديدة حالت دون ذلك منها: الإنقسامات
القبليّة والسياسيّة، إمساك أبناء وأقرباء الرئيس بالأجهزة
الأمنيّة الحساسة، الدعم الأميركي والسعودي (من مخازي
الدور الأميركي في الشأن اليمني أن مسؤولي الإدارة الميركية
لا يعدّون ما يجري في اليمن بأنه ثورة، رغم أنها تعكس
أرقى وأكبر ظاهرة شعبية في الثورات العربية).
صحيح أن الثورة بقيت في حالة مراوحة في ظل غياب صالح
عن المشهد السياسي، فيما كانت دول مجلس التعاون الخليجي
تعمل على إقناع كل الأطراف اليمنية بالمبادرة الخليجية.
من المفارقات التاريخية، أن دولاً شمولية تقدّم مقترحاً
للانتقال الديمقراطي للسلطة في اليمن. فالبنود الواردة
في المبادرة الخليجية تحوم حول انتخابات، ودستور، واستفتاء
شعبي، وبرلمان منتخب، ومحاسبة، وتشكيل حكومة..وكلها بنود
غائبة عن الحياة السياسية في دول مجلس التعاون، باستثناء
الكويت إلى حد ما.
على أية حال، بدا قبل إصابة علي عبد الله صالح في القصف
الصاروخي بأن الرجل أصبح على خلاف مع آل سعود، وأنهم وضعوا
رهانهم على شخص آخر، وربما حلفاء جدد، بل هناك من اعتقد
بأن السعودية هي من تقف وراء محاولة اغتياله بعد تعنّته
في القبول بالمبادرة الخليجية.
والحال، أن آل سعود طيلة الشهور الفائتة خسروا حلفاء
تقليديين لهم مثل بيت الأحمر، وجميعة الإصلاح الذين نقلوا
ولاءهم الى مكان آخر، وباتوا على مقربة من القطريين، وبقي
علي عبد الله صالح الحليف الأوفر حظاً، الذي لا يمكن التفريط
فيه، وربما هو السبب الذي أدى الى عودته السريعة الى الديار.
وهنا نقف عند ما نقلته صحيفة (الفايننشال تايمز) في
27 أيلول (ٍسبتمبر) الماضي عن مسؤول أميركي بأن الرئيس
اليمني (فرّ من السعودية تحت ذريعة الذهاب إلى المطار
لأمر آخر). وذكرت الصحيفة بأن مسؤولاً أميركيا رفيع المستوى
لم تسمّه أكّد أن الرئيس صالح، (فرّ من المملكة تحت ذريعة
الذهاب إلى المطار لأمر آخر ولم تكن الولايات المتحدة
تدرك وكذلك السعودية أن رحيله خُطط له بطريقة ذكية وماكرة،
ونحن لسنا سعداء على الإطلاق بما حدث). وأشارت الصحيفة
إلى أن مسؤولين غربيين آخرين أعربوا أيضاً عن إحباطهم
من عودة الرئيس صالح إلى اليمن.
واضافت الصحيفة أن الدوائر الدبلوماسية تتداول روايتين
مختلفتين لتفاصيل عودة الرئيس صالح إلى اليمن. الأولى
تقول: أنه أبلغ السعوديين بقراره الإنتقال إلى اثيوبيا،
والثانية: أنه ذهب إلى المطار بحجة توديع مسؤولين يمنيين.
هذه الرواية بكل تفاصيلها ركيكة وواهنة وتبعث على السخرية
لمن لديه معرفة بالطريقة التي تدار بها الأمور في السعودية،
إذ لا يمكن لرئيس دولة مازال في ضيافة دولة أخرى يقوم
بعملية هروب بطريقة اللصوص، وكأنه يهرب من مدرسة. وفي
الشكل نتفق مع ما قاله المسؤول في الحكومة اليمنية الذي
نفى بشدّة أن يكون صالح سعى إلى تفادي السعوديين في المطار،
واصفاً هذه الرواية بأنها مزاعم لا أساس لها من الصحة.
ونقلت الصحيفة عن المسؤول اليمني (من المستحيل أن يكون
الأمر حدث بهذه الطريقة لأن وجود الرئيس صالح في المطار
يعني أنه سيكون محاطاً بمسؤولين سعوديين).
وفي المضمون، فإن ظروف عودة علي عبد الله صالح الى
اليمن تبدو بالغة الحساسية، وتنمّ عن أن قرار العودة جاء
وفق حسابات دقيقة، بل لمن يتابع الشأن اليمني سيتوصل إلى
حقيقة كون تلك العودة تمّت بالتنسيق بين علي عبد الله
صالح والسعوديين. فقد تفتت القوى التقليدية المتحالفة
مع النظام السعودي، وصارت تنسّق مع أطراف خارجية، وخصوصاً
قطرية، وبدأ الحديث عن تسويات تجري في الخفاء بين آل الآحمر
والإصلاح من جهة والحوثيين من جهة ثانية برعاية قطرية،
فيما يتناقص حجم التأييد للرئيس اليمني حتى داخل الدوائر
التي تعدّ تقليدياً مناطق نفوذ له ولآل سعود.
في واقع الأمر، أن السعودية اتفقت مع علي عبد الله
صالح على العودة الى اليمن، لأن الثورة اليمنية أضافت
شعاراً جديداً، المتمثل في رفض الوصاية السعودية، الأمر
الذي يهدّد النفوذ السعودي في اليمن، التي لا يمكن التنازل
عنها في ظل خسارات متوالية في الدول المجاورة للمملكة.
الثوّار اليمنيون في الشمال والجنوب يطالبون آل سعود بالكف
عن التدخّل في شؤون ثورتهم، ويرفضون كل مبادرة خارجية
لا تكفل رحيل نظام علي عبد الله صالح. رسالة الثوّار واضحة:
إن الشعب اليمني يتطلع للتغيير والحرية والعدالة وحكم
القانون، فيما شعرت قوى سياسية يمنية في اللقاء المشترك
أو تحالف قبائل اليمن بأن السعودية تقدّم كل أشكال الدعم
لنظام علي عبد الله صالح لمنع الإنتقال الديمقراطي للسلطة،
فيما يستغل وجوده في الرياض وبإمكانيات سعودية لتوجيه
رسائل تهديد للثوّار ومعارضيه من آل الأحمر.
مخاوف آل سعود من الثورة اليمنية، هي نفس مخاوفها من
الثورة البحرينية، أي أن تؤدي الى تغيير جيوبوليتيكي عميق
يقلب موازين القوى الإقليمية رأساً على عقب، كما لا يقتصر
الخوف من مجرد قيام نظام غير موالٍ لآل سعود، بل الخوف
من انتقال تأثيرات الثورة الشعبية في اليمن إلى الداخل
السعودي، في ظل محاولات رامية ودؤوبة لجهة إحتواء تداعيات
الربيع العربي الذي بات يتربّص بمملكة آل سعود من كل جانب.
الثوّار اليمنون رفضوا المبادرة الخليجية لأنها تذكّرهم
بماضي الوصاية الخارجية أولاً، وثانياً لأنها جاءت أدنى
بكثير من تطلعات وتوقّعات الشعب اليمني، الذي يطالب بإسقاط
النظام وبالتغيير الشامل. ولذلك، نظر كثيرون الى المبادرة
على أنها مسعى لحماية نظام صالح وأركان حكمه، وأن التعديلات
التي أجريت على المبادرة (والتي قيل بأنها عدّلت أكثر
من ثلاث مرات)، لم يجعلها تحظى بقبول الشعب اليمني، بل
حسب ما يقول الثوّار بأنها كانت تأتي بصيغة أسوأ، ومع
ذلك كله رفضها النظام، وحاول الرئيس الإلتفاف عليها، بالموافقة
عليها ظاهراً ولكنه إشترط الإحتكام الى صناديق الاقتراع
والانتخابات، والتي يعرف اليمنيون جميعاً بأن هذا الشرط
مخاتلة من الرئيس اليمني لإطالة مدّة بقائه على كرسي الحكم.
برزت في الآونة الأخيرة هواجس جديدة حول المبادرة الخليجية
وتدور حول أن السعودية ليست جادة في تبنيّها، وأن خوفها
من صعود قوى إقليمية في السماء اليمنية يجعلها ترفض أي
مبادرة لا تحقق لها هيمنة على الشأن اليمني. المبادرة
الخليجية لا تكفل ذلك، وإن كانت تحقق مستوى أعلى من النفوذ
الخليجي، وإن كان القطريون الذين يزاولون بحماسة عالية
مهمة تشكيل تحالف قوي في الداخل اليمني يرون في المبادرة
الخليجية غطاءً ممتازاً لاستكمال نفوذهم في اليمن، بعد
أن لعبوا دوراً محورياً في الوساطة بين النظام والحوثيين.
أميركياً، لا يزال التعويل على الجانب السعودي في لعب
دور حاسم في الملف اليمني، وهذا ما تعبّر عنه الإدارة
الأميركية بصورة متكررة عن طريق التصريحات المتواصلة بدعمها
للمبادرة الخليجية. السعودية، في المنظور الأميركي، لن
تبقى مجرد لاعب سياسي بل وأيضاً مصدر مالي في مرحلة ما
بعد الأزمة، حيث أن الإستقرار الاجتماعي والاقتصادي في
اليمن يعني إمتصاص موجات التطرف في دورة عمل النظام القادم،
وإجهاض خلايا القاعدة من النشاط والتوالد.
لاشك أن السعودية مرتاحة للدعم الأميركي في اليمن،
وترى فيه تعويضاَ عن موقفها الناعم في مصر، والذي أغضب
القيادة السعودية، ولكن مالبث أن قابله بفجور سياسي أميركي
غير مسبوق، حين التزم المسؤولون في الإدارة الأميركية
الصمت حيال اجتياح القوات السعودية للبحرين بهدف قمع حركة
شعبية سلمية تطلب بانتقال ديمقراطي في هذه الجزيرة المحكومة
من قبل عائلة آل خليفة منذ أكثر من قرنين ونصف.
السعودية تخشى الثورات العربية حقيقة لا مراء فيها،
وأن وجود ثورة على حدودها يثير الرعب في داخلها، لأنها
حاربت الثورات البعيدة حتى لا تصل أمواجها الى المحيط
القريب منها، فإذا هي محاطة بثورات وتحوّلات كبرى ما يجعلها
ملزمة بالإستجابة لاستحقاق التغيير الذي بات وشيكاً.
|